محمد مهدي (الرواس العراقي)
محمد مهدي (الرواس العراقي)([1])
الشاعر المتفنن المرحوم محمد مهدي الملقب ببهاء الدين
الشهير بالرواس العراقي
على المؤرخ أن ينشر الوقائع مجردة عن الغايات، وأن لا ينحرف عن الحقائق مهما كانت العوامل، وأن لا ينقاد إلى العاطفة فيتعرض إلى شخصيات كريمة طواها الماضي القريب بدافع الحقد والحسد والتشفي.
لقد اطلعت على ما ورد في تاريخ حياة المرحوم الشيخ خير الله الرفاعي المدرجة في الصحائف من 347 إلى 351 في تاريخ أعيان حلب في القرن الثاني والثالث عشر لمؤلفه المرحوم الشيخ راغب الطباخ الحلبي، فقد أمعن هذا المؤلف عفا الله عنه طعناً وتجريحاً بعنصر كريم أنجبته البلاد العربية، فكان صفحة مشرقة في جبين الدهر بما قدمه لأمته والعرب من خدمات جلى، ألا وهو المرحوم الشيخ محمد أبو الهدى الصيادي الرفاعي، فإن تغاضى المؤلف المتحامل عن حسنات هذا الرجل العظيم الجبار؛ فالتاريخ كفيل بإنصافه وتخليده مع أمثاله.
لقد نسب المؤلف إلى الشيخ أبي الهدى الصيادي الرفاعي رحمه الله الاختلاق والدس، واتهمه بطبع عدة كتب لبعض المتقدمين ولشيخه المرحوم مهدي الرواس الذي نفى وجوده في عالم الحياة إلا في مخيلة الصيادي على حد قوله، ووصمه بوضع الأكاذيب والمفتريات لترويج بضاعته ونفاق سلعته، وأشار المؤلف إلى والد السيد أبي الهدى فقال: إنه خال من كل مزية.
وما كنت أود أن أتعرض للرد على هذا المؤلف وهو في رمسه لولا أنه اشتط في تحامله ومزاعمه الهزيلة، لدرجة أنه نسب إلى السيد أبي الهدى الصيادي بأنه اختلق شخصية الشاعر العراقي الرواس اختلاقاً، فإن صح زعم المؤلف ـ وهذا غير معقول ـ؛ فما هي الغاية التي توخاها الصيادي من هذا الاختلاق وقد ناطح السماء بمجده وطارفه التليد؟!
أما مدح الصيادي لوالده؛ فله أسوة بالمؤلف المتحامل الذي أشبع والده وإخوته مدحاً وإطراءً، فجعلهم من الشخصيات الجديرة بالخلود، مع أني لم أر في تاريخهم من الأعمال البارزة ما يستوجب التنويه عنه، والفرق بين المؤلف الطباخ ووالده وإخوته وبين أبي الصيادي ووالده كالثرى من الثريا.
وقد رأيت إثباتا للحقيقة والتاريخ أن أنشر تاريخ حياة الشاعر الفنان المبدع (الرواس) الذي أنكر المؤلف وجوده في عالم الحياة.
أصله ونشأته: هو المرحوم محمد مهدي الملقب ببهاء الدين الشهير بالرواس ابن السيد علي بن نور الدين آل خزام الصيادي الرفاعي الحسني، ولد في بلدة (سوق الشيوخ) من أعمال البصرة سنة 1220ﻫ و1801م وتوفي والده وهو صغير السن فكفله خاله، وقرأ القرآن الكريم ومبادئ النحو والفقه على شيوخ عصره، وفي السنة الثالثة عشرة من عمره حمله خاله وهاجر به إلى المدينة المنورة، وأقام في الحجاز مدة ثلاث سنين انعكف خلالها على طلب العلم في البقاع المقدسة الحجازية، ثم توفي خاله، فذهب إلى مصر وأقام في الجامع الازهر ثلاث عشرة سنة، وتجلت مواهبه وفاق أقرانه، ثم سافر إلى العراق فالبصرة عن طريق الشام، وألبسه ابن عمه المرحوم إبراهيم عماد الدين الرفاعي مفتي البصرة الخرقة الرفاعية، وفي بغداد اجتمع بالمرحوم السيد أحمد الراوي الرفاعي الحسني فأخذ عنه الطريقة، وكان صاحب هذه الترجمة رحمه الله مشهوراً بالزهد والتقوى، وزار ديار حماة وخان شيخون لزيارة جده أبي علي السيد عز الدين أحمد الصياد بن الرفاعي.
شعره: وهب الله هذا الشاعر المتفنن مناقب حميدة ومواهب كثيرة، فكان رحمه الله حجة في العلم، له تآليف جليلة ودواوين شعرية منها كتاب مائدة الكرم في مجلدين ضخمين.
ومن موشحاته البديعة موشح من مقام السيكاه:
أقلقت قلبي بالجفا | يا أيها الظبي الجفول |
بالله أنعم بالوفا | فالشمس مالت للأفول |
من وجهك الفجر استبان | والخصر أبدى غصن بان |
ارحم وجد فالصبر فان | عني وجسمي في نحول |
وقال رحمه الله متغزلاً:
أتانا الهوى العذري من حيث لا ندري | فغبنا وطال الشوط عن بسطة العذر |
وقامت معان للفؤاد خفية | تترجم حكم السر (يا مي) بالجهر |
حكت لوعة أذكت ضميراً مولهاً | بنار فيا للقلب من لهب الجمر |
ومنها:
ولما سرى الحادي وغنى بنعتكم | شربنا من الألفاظ باعثة السكر |
فهمنا وعربدنا ورحنا بسكرنا | نميل حيارى تائهين بلا خمر |
رعى الله أيام الوصال التي جلت | قتام قلوب جاء عن ظلمة الهجر |
ومن قوله في الغزل البديع:
آه من نار فؤادي لم يزل | كلما حاضر سلعاً يخفق |
أحرقته ولها جمرته | وله العاشق جمر محرق |
ومنها:
قسماً يا مي بالحب ومن | جعل الحب يميناً يصدق |
أنا لو قطعت فيه إربا | أبداً وجه السوى لا أرمق |
فأعجبي يامي مني أنني | ساكت مضنى ودمعي ينطق |
ومن قوله البليغ في الزهد:
علامَ الهموم وفيمَ العنا | فغاية هذي الشخوص الفنا |
يمر سريعاً كطيف المنا | م جميع الأنام وتفنى الدنا |
وتمضي الحوادث مثل الخيا | ل وشبه الظلال إذا ما انثنى |
ومنها:
كم تحت أذيال هذا الترا | ب نفوس قضت قبل نيل المنى |
وفاته: ولما ورد إلى بغداد مريضاً بقي أكثر من عشرين يوماً، ثم انتقل إلى رحمة ربه في سنة 1287ﻫ ـ 1868م، ودفن في مسجد حبوب بالقرب من مرقد جده الأعلى.
* * *