جاري التحميل

محمد مهدي البصير

الأعلام

محمد مهدي البصير([1])

الدكتور محمد مهدي البصير

(1896م)

هو الضرير العبقري، الصلب بعقيدته وثباته، الجبار بوطنيته، الفذ بمواهبه الدكتور محمد مهدي البصير.

مولده ونشأته: ولد سنة 1896م في الحلة، إحدى مدن الفرات المهمة، وفقد بصره في الخامسة من عمره بسبب الجدري، ونشأ نشأة دينية، فدرس علوم العربية والدين، وقرض الشعر وهو في الرابعة عشرة.

وفي سنة 1920م ترك الحلة إلى بغداد، وساهم في الحركة الوطنية العراقية مساهمة فعالة.

في السجن: وفي 8 شباط من سنة 1921م قبض عليه، فحوكم وسجن إلى أوائل تموز من نفس السنة، حيث أفرج عنه بسبب تبدل الوضع الناشئ عن قدوم المغفور له فيصل الأول بغداد.

وقد استأنف نشاطه السياسي فور الإفراج عنه، فكان عضواً في اللجنة التنفيذية (للحزب الوطني العراقي) الذي كان سريًّا ثم أصبح رسميًّا.

واسمع ما قاله هذا الوطني الجبار في السجن من شعر بعنوان:(أيها المسجون):

ملء السجون مصائب وشجون

فالله جارك أيها المسجون

صبراً نزيل السجن، إنك ناهض

لتعز شعبك، والخطوب تهون

ماذا يضرك، حين توقظ أمة

من قاع سجن أنت فيه رهين

ولئن سرى في الكون صوتك عاليا

وحجبت، فالعلق الثمين مصون

عاهدت قومك أن تجاهد دونهم

إن الكريم على العهود أمين

فأقم على العهد الذي أعطيتهم

واثبت، فإنك بالثبات قمين

واصبر فكم غمرت قناتك من يد

فإذا بها صماء ليس تلين

كم قد زأرت وكم وثبت مغاضبا

فاهدأ، فهذا يا هزبر ..عرين!

وإذا عداك رضوا بسجنك وحده

فسواك في ذي الصفقة المغبون

حبسه ونفيه: وفي 27 أغسطس 1922م قبض عليه ثانية، فأرسل وجماعة من زملائه إلى البصرة، فجزيرة (هنجام) في خليج فارس.

وفي آذار من سنة 1923م سمح له بالعودة إلى العراق، ولكن على أن يبقى في البصرة تحت سمع البوليس وبصره.

وفي أواخر حزيران من هذه السنة سمح له بالعودة إلى بغداد، ولله در هذا الشاعر الذي أبدع في وصف ما قاله في سجنه:

قالوا: سجنت لرأي كنت تعلنه

فاكتم، وحسبك ما عانيت من غصص

فقلت: هيهات سجني لا يغيرني

إن الهزار ليشدو، وهو في القفص

آثاره: انقطع في هذه المرة للتأليف بدلاً من السياسة، فأصدر (تاريخ القضية العراقية) في جزأين، وبضع رسائل صغيرة، على أنه عاد إلى السياسة سنة 1928م عند بعث الحزب الوطني العراقي المذكور، فكان عضو لجنته التنفيذية، إلا أنه ترك السياسة نهائيًّا في ربيع 1930م.

في خدمة التعليم: لقد تقلب في عدة مناصب تعليمية، فكان أستاذاً للأدب العربي في جامعة أهل البيت الملغاة سنة 1930م، فمحاضراً في نفس الموضوع في عدة معاهد حكومية أخرى.

وفي سنة 1930م أوفد إلى مصر للاطلاع على الحركة العلمية هناك، فمكث فيها سنة دراسية كاملة.

سفره إلى فرنسا: سافر إلى فرنسا حيث قام بدراسات توجت بإحرازه إجازة (الدكتوراه) في الأدب الفرنسي من جامعة (مونبليه) بتاريخ 17 كانون الأول 1937م.

وفي نيسان من سنة 1938م عين أستاذاً للأدب العربي بدار المعلمين العالية ببغداد، ولا يزال محتفظاً بهذا المنصب.

شعره: لقد نظم هذا الشاعر العبقري في جميع فنون الشعر، وامتاز شعره بالقوة وروعة الوصف وبراعة الاستهلال، وهذه إحدى قصائده الثورية بعنوان: (إذا سخطنا علمنا كيف ننتقم):

لم يخطب السيف حتى أُخرس القلم

فالكلم أجدى لنا نفعاً أم الكلم؟

كم ألحقوا بأمانينا سياستهم

حتى إذااستنتجت أقوالهم عقموا

فما نحرر رأياً أو نقرره

حتى تغل بنان أو يكمّ فم

قالوا: سنبني صروح السلم شامخة

وحاربونا على عمد، فلا سلموا

وأقسموا أن يشدوا أزر وحدتنا

فقسمونا، كأن لم يسبق القسم

وما جهلنا بأن الغرب ذو غرض

في الشرق، وهو على ما قال متهم

لكنما الأزمة الخرقاء قد فتحت

دور الصداقة، وهو اليوم مختتم

ثقوا.. ثقوا يا رجال الغرب أنكم

زللتم فعملتم كل ما يضم

أعطيتم الشرق درساً عن سياستكم

تعلمت منه ما تحيا به الأمم

لتندمن على خلف به اقترنت

وعودكم، حين لا يجديكم الندم

كذبتمونا، ولكن الوغى صدقت

وخنتمونا، فبرت للقنا ذمم

وعلمتكم ربانا: أننا عرب

إذا سخطنا، علمنا كيف ننتقم

يا تربة الوطن المحبوب هاك دمي

فسؤدد الشعب: أن يسقي ثراه دم

إن قصرت بي من دون المصال يد

فلا يقصر من دون المقال فم

ومن حكمه الاجتماعية، قوله:

دار الصديق إذا تبدل وده

حتى كأن الود لم يتبدل

لتكف غدرته وتحفظ عنده

مطوي سرك في الزمان الأول

ومن شعره في الطبيعة، قوله بعنوان: (أنا والأطيار):

منظر يملأ الفضاء جمالاً

جسمته مطالع الأنوار

ونسيم يمر بالروض طلقاً

فيحيي عرائس الأزهار

وخرير في الماء يعلو فيحلو

وحفيف يروق في الأشجار

بت أصبوا لكل ذاك وأشدو

برقيق الألحان والأشعار

أتغنى، ونسمة الفجر تسري

فتهز الطيور في الأوكار

مستثيراً رنات أوتار قلبي

وهو عود مقطع الأوتار

بيد أن الجلال في منظر الكو

ن وسحر الجمال في الأسحار

فاجآني بسكتة قذفت بي

في فيافي الأحلام والأفكار

فلزمت السكون بعد حراكي

وتركت الغناء للأطيار

وقد جارى في غزله الشاعر بشار بن برد، ومن قوله البديع:

ولقد هممت بأن أقبل ثغرها

لما التقينا للوداع صباحا

وأردت ثمة أن أضم قوامها

وأشم من وجناتها تفاحا

ورغبت أن أفضي لها بهواجس

تركت فؤادي موجعاً ملتاحا

لكن ذهلت، فلم أنل ما أشتهي

منها، وكان جميع ذاك متاحا

حتى افترقنا صامتين كأننا

لا نستطيع لشجونا إفصاحا

ومن شعره المتميز بطابعه الإنساني:

لابد للإنسان من وطنية

مشفوعة بصداقة الإنسان

ليذب دون كيانه من غير أن

يقتاده صلف لهدم كيان

ويعيش موفور الكرامة آمنا

ويبيت منه جاره بأمان

ماذا الذي يضطرنا لخصومه

فينا، تثير دفائن الأضغان

في الأرض، ما يهب الرخاء لأهلها

طرًّا بلا ضرب، ودون طعان

فلنمح من هذي الصدور حفائظا

كتبت صحائفها يد الشيطان

ولنحي إخواناً لخير جميعنا

نسعى بظل الواحد الديان

متآزرين، عقولنا وقلوبنا

في خدمة العرفان والعمران

ومن حكمه السياسية الرائعة قوله:

لولا اجتماع البحر من أمواهه

لم نجن لؤلؤة الثمين نضيدا

فالشعب إن لم يتحد أفراده

لن يستقل ولن يعيش سعيدا

وقوله:

الكون لا ينفك يخفض راية

ويعير أخرى في الكفاح رفيفا

هيهات، لا يبقى القوي مسيطرا

فيه، ولا يبقى الضعيف ضعيفا

مؤلفاته: أما مؤلفاته المطبوعة، فأهمها:

1 ـ تاريخ القضية العراقية ـ في جزأين ـ بغداد 1923م، 1924م. 2 ـ شعر كورني الغنائي ـ بالفرنسية (ماري لافيث) مونبليه 1937م. 3 ـ بعث الشعر الجاهلي ـ بغـداد ـ 1939م. 4 ـ نهضـة العـراق الأدبيـة فـي القـرن التاسع عشر ـ بغداد ـ 1939م. 5 ـ عصر القرآن ـ بغداد ـ 1947م. 6 ـ الموشح في الأندلس وفـي المشـرق ـ بغـداد ـ 1948م. 7 ـ فـي الأدب العباسـي ـ بغداد ـ 1949م. 8 ـ خطرات ـ الجزء الأول ـ بغداد ـ 1952م.

وكتب المترجم الخامس والسادس والسابع تدرس الآن في دار المعلمين العالية والمعاهد المماثلة لها.

وأما كتبه المخطوطة فأهمها:

جادت قريحته بديوانين من الشعر، أحدها سياسي بحت يدعى 9 ـ (البركان)، وثانيهما يحتوي على شتى المقاصد والأغراض، 10 ـ اسمه (همسات)، ومجموعة خطب ومحاضرات ومقالات في السياسة والاجتماع والأدب، نشر معظمها في مختلف الصحف والمجلات، اسمها 11 ـ (سوانح).

ويعتبر هذا الوطني الجبار من أبرز شعراء الرافدين، وذاعت شهرته في الآفاق.

*  *  *

 



([1])  (أ) (2/214 ـ 217).

الأعلام