جاري التحميل

محمد الوراق

الأعلام

محمد الوراق([1])

الشاعر والمتفنن الخالد الشيخ محمد الوراق

أصله ونشاته: هو الشيخ محمد بن أحمد بن محمد صادق المعروف بالوراق، وهذه العائلة حلبية الأصل تعاطت التجارة منذ القديم، ولد في غضون سنة 1247ﻫ و1828م، ولما ترعرع تعاطى بعض المهن، وصار يتردد إلى الزاوية الهلالية الكائنة في محلة الجلوم الكبرى بحلب، ولازم حلقة الذكر ورئيس المنشدينفيها الموسيقي الفنان العبقري الحاج مصطفى الحريري الشهير بـ (البشنك)، فعلق به ولازمه مدة طويلة، وتتلمذ عنده وتخرج عليه في علم الموسيقى والأنغام والإيقاع، وصار مساعداً له في الزاوية الهلالية ويرافقه أينما ذهب إلى أن توفي الأستاذ البشنك المومأ إليه عام 1372ﻫ، فاستقل بعده في رئاسة الحلقة، وظهرت مواهبه الفنية والأدبية.

دراسته العلمية: ورغب المترجم أن يدرس العلوم العربية والأدبية والشرعية، فقرأ على الشيخ أحمد الكواكبي والشيخ عبد القادر الحبال النحو والصرف والفقه والحديث، ثم اتصل بالشيخ عبد السلام الترمانيني فقرأ عليه علم الحديث، والشيخ أحمد الزويتيني مفتي الحنفية فقرأ عليه الفقه الحنفي، وبعد أن أخذ بحظ وافر من العلوم العربية والأدب في مدة وجيزة لما كان عليه من الذكاء الفطري عني بنظم الشعر والقدود، وصار يلحنها ويلقيها أثناء الذكر، وشاع بذلك ذكره وبعد صيته، ومع هذا فقد كان حيث أدركته حرفة الأدب في ضيق من معيشته، تعاطى صنعة العطارة، فكان يعيش منها ومن الراتب القليل الذي كان يتناوله من الإنشاد في الزاوية المذكورة، ورفع إلى الوالي جميل باشا قصيدة امتدحه بها، فأمر في تعيينه بقراءة جزء في الجامع الكبير براتب مئة قرش، أي ليرة عثمانية في كل شهر، وترك الإنشاد في أواخر عمره لكبر سنه، وأمّ الناس بالوكالة في محراب الحنفية في الجامع الكبير مدة طويلة، ثم في المسجد الكائن داخل خان القصابية، فكان يعيش بهذه الوظائف، ولم تزل هذه حالته حتى توفاه الله.

شعره: لقد ترجمه المؤرخ الأديب قسطاكي الحمصي في مجلة الشعلة، وفي كتابه (أدباء حلب)، فقال: إنه كان عالماً فقيهاً، وفي علمي اللغة والحديث نبيهاً، وهو آخر عالم فقدته البلاد السورية في فني الموسيقى والألحان العربية، ويروى أن له عدة مجاميع ضمنها من الطرائف والظرائف طائفة مما له ولغيره، فهل في الحمى أديب عالم بمكانها فينتضيها انتضاء السيوف من أجفانها، ويبرزها إبراز النفائس من صوانها، له ديوان شعر كبير محفوظ لدى ولده السيد بشير الوراق المقيم في البلاد المصرية حتى الآن، ومن شعره البديع ما قاله مخمساً:

بانت سعاد وحبل الود قد صرمت

وأودعت في الحشا ناراً ومارحمت

بالله إن بعدت عن ناظري ونأت

خذني بعيسك يا حادي فإن ظمئت

ردها دموعي ولا تأمن من الغرق

لعل بالقرب أن أحظى ولو نفسا

فإنني بالنوى قد ذقت كل أسى

ويا حويدي أنخ بي إن أتيت مسّا

وحسبك النار من أحشاي مقتبسا

واحذر تداني مكان القلب تحترق

وقال مخمسا فأجاد:

سيوف لحظك في الأحشاء صائلة

وشمس حسنك للأفكار شاغلة

تفديك نفس محب فيك قائلة

يا رب إن العيون السود قاتلة

وإن عاشقها لازال مقتولا

سبحان من زانها بالسحر مع صور

حتى غدت فتنة تجري على قدر

أنا الأسير بها كهلاً وفي صغر

وقد تعشقتها عمداً على خطر

ليقضي الله أمراً كان مفعولا

فنونه: كان الوراق رحمه الله تعالى من أمهر تلاميذ الحاج مصطفى البشنك السالف الذكر الذي كان إماماً للفنانين، ومضى على وفاته عصر كامل ولم تزل شهرته تطبق الآفاق، وعنه تروى الأنغام والإيقاع، وإليه تنتمي قواعد علم السماحالذي أحدث فيه ما زيّنه، وزاد في علم الإيقاع أصولاً عدة حسب رواية المرحوم السيد أحمد عقيل الفنان الحلبي المشهور، وقد كان ذكاء البشنك المفرط يجعله يتقلب في الإنغام ويحسن تنويعها ويعود إلى النغمة الأصلية بعد أن ينتقل فيها دون أن تشعر كيف ومتى انتقل من النغمة إلى الأخرى، وبعد أن يستعمل نحو عشرين نغمة يعود إلى الأصل، وهذا ما يسمونه اليوم بالتصوير، فيحير بذلك الضاربين على الآلات، كما أنه كان يستعمل المناسبات من حيث المعاني أو القوافي أو حضور أحد من العلماء أو الحكام، ولم يخلفه من تلاميذه أحد مثل الوراق صاحب الترجمة، فكان يقتفي بذلك أثر أستاذه، وبرز على زملائه ورفاقه، ولا سيما فقد كان يستعمل قريحته الشعرية فيرتجل للمناسبات الشعر والتلحين، فكان يتلاعب بالنفوس والأرواح فيدعها غارقة في بحار السرور سكرى من خمرة الطرب لا حراك بها.

كان رحمه الله صوته من النوع الوسط، لكنه حسن التصرف بالأنغام والأصول يعبّر في نظمه وألحانه عن شعور وقوة، ومن موشحاته البديعة الموشح الآتي من نغمة الصبا، وزنه (صاده):

إن تواصل أو تزرني

أيها الظبي النفور

ليت شعري من يلمني

فيك يا وجه السرور

لو تزور

برحيق الثغر حيا

منيتي باهي الجمال

ودعا قلبي شجيّا

عندما هز النحور

والخصور

وله موشح من نغمة العشاق وزنه (أكرك):

يا ربة المحاسن البهيا

قوامك الخطي سطا علي

كأسمر

بالله يا ذات الخديد القاني

رفقا بصب مستهام فإني

بمظهر

جبينك الوضاح عالي الشأن

بدا كبدر قد سما مضيا

وأنور

وبعد وفاة الوراق وأستاذه البشنك تفرد في صناعة هذا الفن في حلب المرحوم السيد أحمد عقيل العليم بأوضاع الموسيقيين وبراعتهم ونكتهم، وقد روى عن طريقة البشنك والوراق ما كان عليه من المهارة والحذاقة، ومع هذا فكان يذكر للناس أنه لم يدرك شأو أولئك، وأنه حسنة من حسناتهم، وبعد وفاته تلألأ نجم العبقري الفنان الذي اجتمع به وسمع عنه المجتمع السوري، ألا وهو الحاج عمر البطش الذي كان خاتمة الموسيقيين.

وفاته: وفي اليوم السادس عشر من شهر ذي الحجة سنة 1317ﻫ الموافق لـ 3 نيسان سنة 1910م انتقل إلى رحمة ربه العبقري الوراق، ودفن في تربة السفيري في التربة الوسطى منها.

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/307 ـ 309).

الأعلام