محمد أبو الوفا الرفاعي
محمد أبو الوفا الرفاعي([1])
الشاعر والعالم المتفنن المرحوم محمد أبو الوفا الرفاعي
أصله ونشأته: هو الشيخ محمد أبو الوفا بن الشيخ محمد بن الشيخ عمر الوفائي، ولد بحلب سنة 1179ﻫ ـ 1761م، ولما ترعرع شرع في تحصيل العلم، فقرأ على أعلام عصره الشيوخ حسين المدرس وإسماعيل المواهبي وقاسم المغربي رحمهم الله، وقرأ على والده وأخذ عنه الطريقة الرفاعية والشاذلية، وفي سنة 1299ﻫ أجازه الشيخ محمد تراب الأوقاتي بالخلافة، وبشره أن التكية سيكون لها وقت تعمّر فيه ويحصل لها وقف يكون فيه إدارة لها، وقد صدق بما تنبأ به، وفي سنة 1242ﻫ حضر علي رضا باشا مع يوسف باشا السروزلي، وكان (كتخداه) فتعرض لتعميرها، وثم عزل يوسف باشا وغاب مدة عاد بعدها إلى منصب الولاية في حلب، فتعاطى الأحكام، وجرى له مع الأهلين وقائع وانتصر عليهم، ثم جاءته الوزارة فوقف للتكية بعض العقارات، وبعدها خرج من حلب لولاية بغداد، فقبض على الوالي درويش باشا العاصي على الدولة إذ ذاك، وأرسله إلى الأستانة، فنجحت أموره وحاز انتصاره عليه قبولاً تامًّا لدى السلطان، وفي سنة 1253ﻫ ذهب صاحب هذه الترجمة ومعه ولده المرحوم محمد بهاء الدين لزيارة بغداد بدعوة من واليها، فاستقبلهما بالإقبال والإكرام.
شعره وفنونه: كان رحمه الله عالماً فاضلاً وأديباً بارعاً، ذا صوت جميل، أخذ الفن عن المرحوم مصطفى الحريري الملقب (بالبشنك)، وكان يعاونه في الإنشاد في حلقات الأذكار، ولم يجد غضاضة في ذلك، إذ إن الفن الموسيقي كان محترماً جدًّا، وكان أكثر العلماء والمشايخ المتذوقين يتعلمونه ويحسنون الرقص المعروف (برقص السماح)، والمترجم منهم، وآخر من عرف من هذه العناصر العلامة الفاضل المرحوم الشيخ محمد كامل الهبراوي الذي كان عالماً بدقائق الفن الموسيقي والإيقاع والسماح عدا فضله وصلاحه، ولم يكن الموسيقيون يحضرون المجالس المنحطة أو التي يتخللها شرب الخمور، ولا يغنون في المقاهي والمحلات المبتذلة، وكان المترجم يقيم الأذكار الشاذلية مع أبيه في الزاوية المعروفة بمسجد خير الله في محلة الأكراد بحلب، وهي المشهورة بالزاوية الرفاعية، وهي زاويتهم الأصلية، وله غيرها أربع تكايا.
وللمترجم رحمه الله نظم رائق منسجم لا كلفة فيه، ينبئ عن فكرة وقادة وذهن ثاقب، وتضلع في العلوم الأدبية، فكان ينظم القصائد والموشحات والتشاطير والتخاميس ببلاغة ومعان تأخذ بمجامع القلوب، وكان الملحن لموشحاته المرحوم الفنان (البشنك)، وتارة يلحن لنفسه، إذ بلغ من القوة والتضلع في الفن الموسيقي ما يمكن وصفه بـ(البشنك الثاني)، ومن جملة تشاطيره البديعة قوله:
مازال يرشف من خمر الطلا قمر | حتى غدا ثملاً ما فيه من رمق |
وراح يشربها جنح الدجى عللاً | حتى بدت شفتاه اللعس كالشفق |
ومنها:
وقال لي برموز من لواحظه | يا شيخ أهل الهوى يا شيخ كل تقي |
ماذا تقول وقد قال الرواة لنا | إن العناق حرام قلت في عنقي |
وله ديوان حافل قد افتتحه باستغاثة بسور القرآن الكريم، قال في أوائلها:
يا ربنا أنل فؤادي وطره | بالسورة المذكور فيها البقرة |
بآل عمران وبالنساء | اقض مرادي وأنل منائي |
بالسورة المذكور فيها المائده | اخذل عدوي وأزل مكائده |
وقال رحمه الله مخمساً البردة الشريفة وسماها تطريز البردة وتطريد الشدة، وقد بدأ بتخميسها في إدلب سنة 1217ﻫ، ومطلعها:
علامَ يامن أفاض الدمع كالديم | تبكي وتعلن بالأشجان والسقم |
ومن مزج الدما بالدمع من ألم | أمن تذكر جيران بذي سلم |
مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم | |
أشمت من أبرق بالأنس باسمه | أم هل شجاك غراماً نوعحائمة |
أم ذاك من فرط أشواق ملازمة | أم هبّت الريح من تلقاء كاظمة |
وأومض البرق في الظلماء من إضم |
ومن غزله البديع قطعة من موشح:
يا مهاة البان يا ذات الدلال | جلّ من أبدع ذا الوجه الجميل |
غلب الوجد دليل الهجر طال | وأنا المغرم بالفرع الطويل |
ومن موشحاته التي اشتهرت بين القاصي والداني وتغنى بها كل إنسان هو الموشح المشهور من نغمة الجهار كار المتداول حتى يومنا هذا، قاله وهو متوجه إلى استانبول سنة 1220ﻫ.
يا مجيباً دعاء ذا النون | في قرار البحار |
استجب دعوة لمحزون | قد دعا بانكسار |
وله شعر كثير من جميع أنواع الشعر يضيق بها المقام، وهي مثبتة في دواوينه ومؤلفاته الكثيرة.
رحلته إلى استانبول: ولما أدرك العجز والده انتقلت المشيخة إليه، ووقعت منازعة بينه وبين بعض مشايخ حلب على إحدى التكايا التي كانت تحت توليته، فقصد استانبول سنة 1220ﻫ، ولقي فيها من حفاوة وزرائها وكبرائها ما يقصر عنه الوصف، ومدحوه ومدحهم بالمنثور والمنظوم، ثم عاد إلى حلب يحمل براءة سلطانية تمنع كل حاكم فيها استماع أي دعوى عليه في التكية المذكورة.
أوصافه وأطواره: كان رحمه الله أبيض اللون، صبيح الوجه، أسود العينين، مليح الأنف والفم، ممتلئ الجسم، بهي المحيا، ورث حسن الصوت عن أبيه وجده، وكان كلما رتّل في الجامع أو في زاوية يجتمع الناس من كل حدب لشغفهم باستماع صوته.
وفاته: وفي سنة 1264ﻫ ـ 1845م انتقل إلى دار الخلود، ودفن في تربة الصالحين تجاه جدار مقام إبراهيم من الشرق، ورثاه الشاعر المرحوم سعيد القدسي بقصيدة طويلة قال فيها:
بكائي بفقد النازحين يزيد | وحزني عليهم وافر ومديد |
وأجفان عيني بالدموع تقرّحت | ومنهن فوق الخد سال صديد |
ومنها:
هو السيد الحبر الإمام أبو الوفا | ملاذ الورى بحر العلوم فريد |
* * *