جاري التحميل

محمود العظم الحموي

الأعلام

محمود العظم الحموي([1])

الشاعر العبقري المجهول المرحوم محمود العظم الحموي

بينما كنت أتعمق بالبحث عن الغواة من الموسيقيين الذين عاصروا الفنان العبقري المرحوم القباني، إذ بي أمام شاعر مجيد لا يبارى، وفنان موسيقي لا يجارى، هو المرحوم محمود بن خليل العظم، فسألت أحد أقطاب العلم من أسرة العظم عنه، فكانت دهشتي عظيمة عندما أجابني بأنه لم يسمع باسمه، فقلت: وكيف ذلك وهو من فحول الشعراء والأدباء؟! فقال: سيبحث عنه في شجرة النسب العائلية ليعلم من هو، ولم أتلق منه الجواب حتى الآن.

الشاعر المجهول: هو محمود بن خليل بن أحمد بن عبد الله باشا العظم، وهذه الأسرة العريقة في المجد والشرف قد أنجبت أفذاذ الرجال من وزراء وولاة وقواد وحكام وشعراء وكتاب ومؤرخين، اشتهروا بفضائلهم وتسنموا مراقي المعالي بسيوفهم المرهفة، فوطئوا هامة الدهر، فاصطفاهم، فكانوا غرة في جبينه، ازدانت بهم الأيام والليالي...

ليس الغرض الإحاطة بجميع رجال العصور الناشئين مهما وصل الواحد منهم في دنياه إلى المكانة العليا دون أن يترك أثراً خالداً أو قولاً مفيداً يذكره بعده، لأن الذين يولعون بالعلم للعلم في هذا العالم قلائل جدًّا، ولكنهم يكونون على الأكثر ممن نسميهم بأهل النبوغ والعبقرية، لأنهم يتفانون في قصدهم ويأتون بالجديد والإبداع، فيبرزون على من اتخذوا العلم آلة للمظاهر وعنواناً للتصدر، وهم الذين يذهبون بفضل الشهرة في الأرض، وتبقى أعمالهم شاهدة بعد موتهم أحقاباً ودهوراً، والمترجم المرحوم هو من هذا النوع النادر.

أصله: ولد المرحوم سنة ألف وثمان مئة واثنتين وثلاثين ميلادية، ونشأ في مهد الفضائل والكمالات، وهو نجل السراة الصنايد جامعاً لطارف مجده وتالده، درس على علماء زمانه في دمشق ولازمهم وعشق مجالسهم، منهم الشيخ حامد العطار والشيخ محمد الفاسي الشاذلي.

صفاته: كان فاضلاً ألمعيًّا محبًّا للعلماء مكرماً للأدباء والشعراء، تهرع إليه الأكابر من كل جانب، وتوافي ناديه من اللطفاء كواكب، وكان غنيًّا من جهة أمه، حاتمي المشرب، كثير الصدقات والمبرات، ولما تسلطت يد الإسراف والإتلاف على تلك الثروة من غير إدارة ولا إنصاف؛ قل ماله، وانحرفت عنه أصحابه، فاختار العزلة، وانفرد في دار وحده وانصرف إلى النظم والتأليف، حتى نزل دمشق الشيخ محمد الفاسي الشاذلي، فأقبل عليه وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وكان تجليه جالياً للبهجة والفرح مذهباً للترح، وحصل له نفحات رحمانية، فانطلق من عزلته، فكان حسن المعاشرة، جميل المذاكرة، كثير الابتسام، عذب الكلام، وكان أهله وجلهم من الأثرياء يبعثون إليه بالمنح والعطايا، فتأبى عزة نفسه قبولها، فيترنم بقول الشاعر امرئ القيس:

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ولم أطلب قليل من المال

ولكنما أسعى لمجد مؤثل

وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

فكان يعيش من الصناعات اليدوية التي تفرد بصنعها بذوق لطيف، منها صنع الورق الملون النافر على ألواح البللور بنقش نفيس يقتنيها أهل الذوق الذين لهم شغف بالوقوف على النوادر واقتنائها.

مؤلفاته: هذا هو الشاعر المجهول بحق، فقد نسيه الناس وأهملوه، حتى أفراد عائلتـه لا يعلمـون عنـه شـيئاً، ولكـن التاريـخ ينصف الموتى من العباقرة والعصاميين، فإن نسوه فقد تبناه الدهر، وإذا عدت السجايا عرضاً فسجاياه جوهر، له مؤلفات كثيرة في ميادين الشعر والأدب والفن، ومنها: البحر الزاخر والروض الباهر في التصوف، وله رسائل الأشواق في وسائل العشاق في الأدب تتألف من ثلاثة مجلدات، وله عدة دواوين شعرية جامعة بين المنظوم والمنثور والمخمسات والرسائل البليغة وأنواع الموشحات والمقاطيع الجميلة، وله معرفة تامة في علم الموسيقى، لنا جولة خاصة فيها في مناسبة أخرى، وله شرح على مناجاة الشيخ عبد الغني النابلسي.

شعره: هو في التصوف والغزل كالشاعر المتصوف الفارض، وله قصيدة تقرب من مئتي بيت بلغت في الحسن والقوة مبلغاً عظيماً، نقتطف منها هذه الأبيات:

سلوني فأحكام الهوى بعض حكمتي

وأحكام آيات الغرام مزيتي

بدا لي به نور الحقيقية ظاهرا

فشاهدت ذاتي تنجلي لبصيرتي

فمحبوب قلبي إن تأملت واحدا

أنست به للانفراد بوحدتي

مظاهر أسماء له قد تعددت

وما ثم إلا واحد في الحقيقة

فطوراً بليلى والرباب تغزلي

وطوراً بزيد واللوى والثنية

ولم يبق شيء ما تعشقت حسنه

ولا ثم كون ما تراءى لمقلتي

إلى أن رأيت الكل في الكل فانيا

وذاتي هي المقصود من كل صورة

ومن شعره الجيد في الفخر والحماسة قوله:

سل الخطار والبتار عني

وسل جود السحائب عن سخائي

ظمئت فما شربت الماء صرفا

ولا أدليت دلوي في الدلاء

أأشرب والزلال يخاض فيه

ومن نهر المجرة كان مائي

ولما أن سموت إلى الثريا

أنفت بأن أسير على الثراء

وإني سوف ابتكر المعالي

وأبلغ من نهايتها منائي

ولي نفس الملوك بجسم عبد

تنزه أن يذل له ثرائي

وله قصيدة نبوية رائعة مطلعها:

هذا الحمى فانزل على باناته

وانخ بنا يا صاح في عرصاته

عفر خدودك من ثراه بعنبر

تتمسك الأرواح من نفحاته

لقد عاصر الفقيد رحمه الله من الشعراء الهلالي الحموي المشهور، وكان الأخير معجباً بفنونه وشعره الفائق وأدبه الرائق، ويأنس بلقائه، ويشكو له تباريح الفراق لبلدته حماة وهجرته منها إلى دمشق، وقد أسمعه الهلالي قصيدته الرائية الشهيرة، فأطرى المترجم قوتها ومعانيها، ومنها قوله:

يا طائراً يشجي الفؤاد حنينه

هل أنت بي وبما أكن خبير

بيني وبينك في النواح علاقة

فمدامع مني ومنك هدير

ما حيلتي وأنا الهلالي الذي

عني تعامى الدهر وهو بصير

وكان الهلالي يتعزى بالفقيد لوجود الشبه بينهما من ناحية ضيق ذات اليد، فكان الهلالي يشكو دهره صاخباً، والفقيد يتغزى بالصبر والسلوان.

لقد كان المترجم آية في الجمال ذا هيبة ووقار، فمدحه الهلالي بموشح يعتبر من أبدع الموشحات نظماً ولحناً، وهو:

يا من لنالحظه يكلم

خدك أحسن به وأنعم

بقدك العادل استجارا

قلب عليه الغرام جارا

ليتك للصب كنت جارا

ولي بطيب الوصال تنعم

سبحان من في الخدود أبدى

خالاً بماء البها تندي

يا نار كوني عليه بردا

ثم سلاماً له يسلم

بدا تجلى أضاء لاحا

شمساً هلالاً نوراً صباحا

والفجر فوق الجبين زاحا

ليلاً على صبحه مخيم

وفاته: ويل للدهر ما أقساه، لقد قل حظ الفقيد وأملق حاله وتكدر باله في آخر حياته، ولم يبق عنده شيء، وكان زاهداً في الجاه، مائلاً عن الدنيا والمال، وكأن الأقدار تشاء أن تحرم العباقرة من صفاء العيش في حياتهم، وأن لا تقترن عبقريتهم بعناصر الوسعة والرخاء ليثوروا وتجود الوقادة بنفائسهم الخالدة.

وفي اليوم الخامس عشر من شهر رجب سنة اثنتين وتسعين وألف هجرية الموافقة لسنة ألف وثمان مئة وست وسبعين ميلادية عصفت رياح المنية بروضه الخصيب، وهصرت يد الردى يانع غصنه الرطيب وهو من العمر في الأربعين، فشق نعيه على الناس لوفاته في حياة والده الذي هده هذا المصاب الجلل، وبكى عليه بكاء حارًّا صديقه الوفي المرحوم الأمير عبد القادر الجزائري الكبير، ودفن في تربة أسلافه، وأعقب رحمه الله ولدين هما: المرحوم بك العظم المؤرخ والخطيب المشهور الذي توفي في مصر سنة ألف وتسع مئة وخمس وعشرين، والثاني عثمان بك العظم.

وإنا نرجو ممن يقدرون الأدب من أفراد أسرة العظم الكريمة أن يهتموا بطبع مؤلفات الفقيد القيمة لإحياء ذكرى شاعر عبقري مجهول، هو يتيمة الدهر، ومؤلفات ولده المرحوم رفيق العظم، ومؤلفات المرحوم مختار بن أحمد المؤيد بن نصوح باشا العظم النفيسة التي تدل على غزارة علمه وفضله، وقد مات عقيماً سنة ألف وتسع مئة واثنتين وعشرين ميلادية، فمآثر هؤلاء خالدة ولكنها شبيهة بمشكاة من الدرر النفسية تشرق أنوارها قاع البحر المظلم حتى يتيح الزمن إخراجها إلى عالم الوجود، ليطلع الناس على عظمتهم في ميدان التأليف وآياتها الباهرة، والتي تجعل ميزان كل واحد منهم يوازن بعبقريته مجموع أمة كاملة، والسلام.

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/187 ـ 189).

الأعلام