محيي الدين شاهين الحمصي
محيي الدين شاهين الحمصي([1])
البلبل الصداح المرحوم محيي الدين شاهين الحمصي
تجول الذكريات في الخواطر، فهي ذكريات لا تبلى، فإن كانت سعيدة حنت القلوب إلى ترديدها، أو مؤلمة اختلجت الصدور بأحاسيس مآسيها، فكم من فنان مرت حياته بالمتعة والسرور، ثم قست عليه الأقدار فجرعته غصص الألم والحرمان وابتلته بأرزائها، فقضى نحبه ولم يبق من اسمه إلا ذكريات فنه، فما أعذبها وروداً في البدء، وما أقساها حتوفاً في الختام، والمترجم المرحوم محيي الدين شاهين هو أحد الفنانين التعساء، فقد بسم له الدهر، فكان صوته الشجي المتنهد بلسماً للقلوب، ثم عبس فلم يرحم نضارة شبابه ولا قلوب الملتاعين بمصاب فقده.
أصله ونشأته: هو المرحوم محيي الدين بن أحمد شاهين، ولد بمدينة حمص سنة 1901م من عائلة كريمة الأصل والمنبت، وتعلم القراءة والكتابة فظهرت على ملامحه النجابة والذكاء والصوت الحسن، فلازم أهل الفن وحلقات الأذكار، وهي مدرسة الفن القديم في حمص، اشتغل في حياكة الأقمشة الحريرية، فكان صوته إذا غنى غذاء الأرواح، وكم نسي رفاقة العمال أنفسهم دون شعور فتابعوا العمل وهم جياع، فأثار عواطفهم فأشجاهم وأبكاهم.
ولما صار في العشرين من عمره ذاع صيته، فأصبح رئيساً للمنشدين في حلقات الأذكار، وكانت تزدحم التكايا والزوايا بعشاق فنه للاستماع إلى شدوه المؤثر، وكان مؤلف هذا الكتاب من المعجبين به، لا ينقطع عن الذهاب إلى زاويةالمرحوم الشيخ سعد الدين الجباوي في حمص لسماع صوته، ولا أبالغ في القول بأن هذا المنشد البارع كان يتلاعب بأفئدة الذاكرين والسامعين، فلا ينتهي من إنشاده إلا وهم صرعى فنونه ولهجته المتنهدة، فتراهم بين شهيق وزفير، وعيون تسجم العبرات وصدور تخفق بالأنات.
سفره إلى دمشق: ودعت أعماله الحرة أن يقيم بدمشق، فاستوطنها مدة عشر سنين في حي الميدان، كان خلالها يشتغل حائكا ويلازم حلقات الفنانين، فاستفاد من الوسط الفني، وحفظ الكثير من الموشحات القديمة وأوزانها بشكل دقيق، وكان رحمه الله يستعذب أسلوب الفنان المشهور محيي الدين بعيون البيروتي في إنشاد قصائده، فحفظها، وكان ينشدها بإتقان وإبداع، ويحفظ قصائد وموشحات شعراء الصوفية كابن الفارض والنابلسي واليافي والجندي وغيرهم، ويعتبر من أبرز المنشدين الذين أجادوا حفظ وإلقاء المواويل الإبراهيمية المؤثرة المنسوبة إلى إبراهيم المهدي، وكانت طريقته في إلقائها شجية تثير الحواس، وتدمى القلوب، وتشجي الأرواح، ويختار أعذب القوافي والمعاني شعراً فيلحنها وينشدها، منها:
أريقاًمن رضابك أم رحيقا | شربت فلست من سكري مفيقا |
للصهباء أسماء ولكن | جهلت بأن في الأسماء ريقا |
كان رحمه الله يهوى حياة المرح والانطلاق، فلم يشفق على نفسه، فقادته الصهباء إلى المصير المحتوم، فأضناه السهر ولم يدر أن المرض قد تغلب على قواه إلا بعد فوات الوقت، ودخل مستشفى ابن النفيس بدمشق خالي الوفاض، وبالرغم من نطاسة الأطباء وعنايتهم بأمره فإن المرض قد نشب أظفاره في جسمه فأضعفه، فعاد إلى حمص ينتظر أجله المحتوم، تنعكس على طلعته مسحة من حزن دفين، وقد ظفر بقلوب عطوفة وشعور كريم.
وفاته: وفي يوم الأحد الخامس من شهر آذار سنة 1944م عصفت المنية بروح هذا المطرب المبدع الذي كان موضع إعجاب عشاق فنه برقته ولطافته وعزة نفسه، وكان لوفاته وهو في كهولة الشباب رنة ألم وحزن، ومشى الذين كان صوته يشجيهم ويبكيهم يشيعون جنازته إلى مرقدها الأبدي، وقد غلبتهم العبرات والزفرات، ودفن في مقبرة أسرته بمحلة باب التركمان، ورثاه الشاعر عبد اللطيف الوفائي الحمصي مؤرخاً وفاته، فقال:
رمسٌ لمحيي الدين شاهين الذي | لبى دعاء الله رب العالمين |
ضاف المهيمن وهو في شرخ الصبا | فأثابه الحسنى بدار المتقين |
لما ثوى للعين قلت مؤرخا | اِبك، هنا مداح خير المرسلين |
رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته.
* * *