جاري التحميل

مختار الدروبي

الأعلام

مختار الدروبي([1])

المرحوم مختار الدروبي

(1864 ـ 1934م)

أصله ومولده: هو المرحوم مختار بن برهان بن عمر بن سليم الدروبي، حضر الجد الأعلى واسمه صادق جمال الدين في سنة 1735م من العراق، واستوطن حمص، وأصل الأسرة من عرب (الدريب) القحطانية، ولد المترجم في حمص سنة 1864م.

نشأته: توفي والده وعمره ثمانية أشهر، فتربى يتيماً، وكفلته والدته التي عنيت بتربيته ورعايته، ولما شب تلقى الدروس العربية والبيان والبديع على العلامة المشهور المرحوم محمد المحمود الأتاسي، ثم حضر إلى دمشق وأقام فيها سنين عدة، أخذ العلوم على أفاضل العلماء، ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره فتح محله التجاري بسوق آل الجندي لبيع الأقمشة، وقضى أكثر من خمسين عاماً من عمره جاراً عزيزاً يسكن في حي الأسرة الجندية، حتى إنه كان يلقب بـ (مختار الجندي) بدلاً من مختار الدروبي.

كانت حياته الاجتماعية تنحصر في بيئة علمية راقية، فكان يلازم أعلام حمص البارزين في العلم والأدب والفضل ويساجلهم بالأدب والأبحاث المفيدة.

شعره: كان يقضي أكثر أوقاته وهو ينظم القريض في محله التجاري، وقد راقت له الحياة وبسم له الدهر في مطلع شبابه وكهولته، واتسع رزقه، وجمع شعره في ديوانين كبيرين مازالا مخطوطين، وفيهما من جميع أبواب الشعر، في المواعظ والحكميات والزهد والغراميات، والغزل والحماسة والوطنيات والرثاء والمدائح النبوية وتشاطير وتخاميس كثيرة، وقد أكثر من نظم الغراميات والغزليات وحارب السفور والمتفرنجين، وذم العهد التركي بما سببه للبلاد العربية وأهلها من خراب ودمار ونفي وتشريد وتجويع، وصب جام غضبه على المنتدبين الفرنسيين، وندر نظمه بالمديح، وكان يهوى الفن وسماع الأصوات الحسنة، وله موشحات وقدود جميلة، وهذا نموذج من شعره الغرامي، وهو يدل على متانة أسلوبه وروعة وصفه:

أرى وجه بدري مشرقاً فأخاله

صباحاً مضيئاً أو نهاراً تبلجا

وأحسب ورد الخد من سفح مدمعي

وسفك دمي يوم الوداع تضرجا

وما ذاك ورد بالخدود وإنما

رأى القلب مني موقداً فتأججا

نعم أنت غصن فوقه الشمس أشرقت

وبدر جمال ظل يشرق في الدجى

كان الشاعر ذا طلعة جميلة في شبابه، ترمقه العيون، فقال في مناسبة خاصة يتغزل:

سهام لحاظ أم رماح قدود

وريح صبا أم ذا أريج برود

ونار بذاك الخد مثلجة ترى

وجمر بصحن أم نضار ورود

وماء بوجنات تموج تلألؤا

وإلا رياحين وعذب ورود

وقلبي به نار الجحيم تسعرت

وإلا فذا دمعي يزيد وقودي

إلا أن الدهر الذي بسم له شطراً طويلاً من حياته قد خانه وعكر صفوه، وقد أصابته بعض الهزات التي أثرت في حالته الاجتماعية، فكان يرى من عطف جواره وحبهم وإعجابهم بعلمه وأخلاقه الفاضلة بلسماً لقلبه الكليم، فقال في قصيدة طويلة يصف حالته ونجدتهم له، نقتطف منها ما يلي:

أتيت كرام الحي والدهر جائر

وما لي سواهم في البرية ناصر

أجلاء أخيار بعز جوارهم

ليوث لنصر المستهام كواسر

رجوتهم إذ ضاق أمري بعلتي

وباحت بما أضمرت مني السرائر

جرت أدمعي نهلاً وهدت جوارحي

وبت بنيران تشب الضمائر

ومنها:

فيا سادة حطت رحالي بحيهم

وجئت وظني أن حظي وافر

ألا أنقذوني من غمومي بحقكم

وجودوا بعطف علّ تجلى النواظر

لقد طالما أشكو ودائي مؤلم

وحاشا بكم لي أن يخيب خاطر

وكان يكره العلماء الذين يتظاهرون بالورع الكاذب، فقال يصفهم:

كم عالم ورع يحكي لنا جملا

يفتي على إبرة قد يبلع الجملا

يخشى البعوضة لكن لو يصح له

دم الحسين توضا فيه واغتسلا

وابتلاه دهره بنقاد حساد، فقال عنهم:

يعيبونني أني نظمت جواهرا

تضيء بجيد الدهر كالعقد بالنحر

فقلت عديم الذوق يعذر كونه

بليد فلا يدري الشعير من الشعر

وزاد حساده بالتجني عليه، ولم يكن الشاعر الجبار لتلين له قناة أو يخشى أمرهم، فكلما أغضبوه فاجأهم بقصيدة جديدة، ونرى حماسه قد بلغ ذروته فقال:

أنا ابن جلا وابن القريض وبيته

ولي فيه أبكار بحسن معاني

لها عشقت أهل النهى وتفاخرت

بأوصافها الحسناء حور جنان

على هام حسادي أدوس بأرجل

لها الشرف العالي بكل مكان

إلى أن قال:

أنا بن الحجي (مختاره) ومليكه

وبدر المعاني والأوان أواني

وإن يك قد جاد الألى بقريضهم

فخاتمهم نظمي وحسن بياني

وأشهر عليه بعض أهل العمائم حرباً عواناً فسمع بأقوالهم فقال القصيدة يفند مزاعمهم:

كثر من الناس المرائي صلاته

وتسبيحه فخ به يتصيد

فإن صح في أيديه مال محمد

يطلق ديناً بالثلاث ويجحد

وأكثرهم أهل العمائم أمة

لها الغدر دين والخيانة معبد

واشتدت المعارك الطاحنة بين الشاعر وأخصامه، بالرغم من أنه من أهل اللحى والعمائم، فقال في إحدى قصائده عنهم:

أخاف على الدين القويم تضيعه

من الناس كبار اللحى والعمائم

والتجأ أخصامه إلى العلامة حافظ الجندي مفتي حمص في ذلك العهد، ورجوه أن يكف الشاعر لسانه وقلمه عنهم، وكانت بينهما مودة، فانصاع إلى رجائه، ولما انتقل المفتي إلى جوار ربه قال يبكيه ويرثيه:

فقدنا من الدر الثمين يتيما

فأصبح هذا الدهر بعد يتيماً

بكته السما والأرض زال تضارها

وأضحى فؤاد العالمين كليماً

لقد كان بحراً في العلوم لسائل

ويزري الدراري حيث فاض علوما

سقى الله منه (حافظ) المهد رحمة

وأسكنه دار الخلود نعيما

وطنيته: كان شديد التعصب لقوميته العربية، جريئاً في رأيه، لا يدع وسيلة لبث الروح العربية في النفوس ضد المستعمرين الفرنسيين، وله قصائد وطنية كثيرة، وكلها تفيض حماسة وإخلاصاً، فقال في أحدها:

لقد ندب الدهر البلاد وعزها

وجار عليها الانتداب فملت

إلى أن قال:

أمن نهضة يا للحمى عربية

يشيب بها للدهر أسود لمة

فترجع مجداً شامخاً لأصوله

وإلا سلام ليس من وطنية

أجلق صبراً للنوائب واحملي

خطوباً عظاماً بالبلاد ألمت

وتبدلت أحواله عندما نكب المستعمرون البلاد بتدني العملة السورية، وأصيبت تجارته بخسائر فادحة كان لها أبلغ الأثر في حياته، فتعرض للهموم والأسقام، فقال يصف ما ألم به:

العمر سبعون عاماً إن يطل وبه

عشرون من أصله بالسقم والعلل

وأغلب العمر أكدار كذا تعب

فقبح الله هذا العمر من أجل

وضاق ذرعاً من الحياة، فقال يشكو أهله:

حنانك يا دنيا وحسبك يا دهر

فما فيكما إلا المذلة والقهر

ألا قبح الله الزمان وأهله

وزوجاً وأولاداً ويتبعهم صهر

أودهم يجفونني وأعزهم

يهينونني هذا جزاؤك يا دهر

ورأى في الفن والغناء ما يخفف عنه بلوى الحياة، فنظم الموشحات والقدود، وهذا أحدموشحاته الذي كان ينشده ألمع المطربين في حمص:

قد ذاب قلبي والحشا شوقاً إليك

أقضي الليالي ساهراً وجداً عليك

أو يا ترى دهري يساعدني لديك

ويمن لي يوماً أراني في يديك

أحظى بوصلك أو بطيف من منام

أنا مغرم بين الورى كلي شجون

أنا واحد بالوجد مني والجنون

جسمي وقلبي والحشا كل عيون

ما من مجيب قد مضى أو قد يكون

إلا ودوني في الهوى أو في الغرام

وفاته: اقترن من أسرة الحسامي الحمصية، وقد توفيت قبله بسنتين، فاعتراه اليأس والغم، وبدأ الأسقام والعلل تتغلب على صحته، فوافته المنية في يوم الخميس 1 كانون الثاني سنة 1934م، ودفن بمقبرة الشيخ سليمان بحي باب هود بحمص، وأنجب السادة المرحوم إحسان ومصباح وزاهر.

*  *  *

 



([1])  (أ) (2/72 ـ 75).

الأعلام