مصطفى الحريري الرفاعي (البشنك)
مصطفى الحريري الرفاعي (البشنك)([1])
إمام الفن (البشنك)
أصله ونشأته: هو الحاج مصطفى بن الشيخ أبي بكر الرفاعي نسباً وطريقة، الملقب (بالبشنك)، ولد بمحلة قلعة الشريف بحلب سنة 1184ﻫ ـ 1765م، ولما بلغ السادسة من عمره لازم الشيخ محمد بن عبد الكريم الشراباتي العالم المحدث، فأخذ عنه القرآن العظيم والكتابة والصرف والنحو والفقه، وتلقى وهو ابن أحد عشر عاماً القراءات على الروايات السبع من عدة قراء مشهورين، وتلقى الفن الموسيقي عن الشيخ عبد القادر بن إسكندر المصري ومن منشدي الأذكار، ولما بلغ الرابعة عشر من عمره ترأس إنشاد الذكر لأبيه في جامع العاشورية الكائن في قلعة الشريف، إذ لم تعد داره تستوعب المريدين والقاصدين حلقة الذكر من كبار العلماء، فكان الناس يأتون لسماع صوت المترجم الذي ذاع صيته وعلت مكانته في عالم الفن، فتمتلئ الشوارع والميادين والأسطحة بالسامعين من رجال ونساء، وفي عام 1781م عين رئيساً للإنشاد في الزاوية الهلالية الكائنة في محلة الجلوم، وبقي فيها (72) عاماً، أي حتى وفاته، وكان يقوم بالإنشاد في أكثر زوايا حلب الشهيرة، وكان رئيساً للمؤذنين في الجامع الأموي الكبير بحلب، ويغص بالمصلين للاستماع إلى صوته وأذانه البديع.
لقب البشنك: ولما اشتهر صيته وبلغ قمة المجد أصبح إمام الفنانين في جميع البلاد العربية، ولقب (بالبشنك)؛ لأن هذا الاصطلاح في حلب كان يطلق على كل من تقدم أمام قوم أو برز في أمر، كما ذكره صاحب تاريخ أعلام النبلاء في الصحيفة (493) من الجزء السابع، وقد غلب هذا اللقب عليه وعلى جميع أسرته، وممن تلقى عنه هذا الفن المنشد الكبير المرحوم السيد أحمد عقيل والأستاذ الشاعر المرحوم الشيخ محمد الوراق وابن عبده الشهير ومحمد المعظم والحاج أحمد الشعار الأصولي الكبير وطاهر النقش صاحب الصوت الرخيم والدرويش صالح الذيل مؤذن القصر الملكي في استانبول والحاج إسماعيل الشيخ وزرزور الناياتي وأحمد الشيخ شريف والشيخ صالح الجذبه الذي اختص بفرع السماح فقط وغيرهم ممن لا يدخلون تحت حصر، وهؤلاء كانوا أعلاماً اشتهروا، وأخذ عنهم فنانو هذا العصر.
رحلته إلى الحجاز والعراق: وبعد أن أدى فريضة الحج عرج على الديار العراقية لزيارة ضريح جده الرفاعي، ورافقه في هذه الرحلة بعض تلاميذه ورفاقه الموسيقيين الذين لا يستطيعون مفارقته، فلما وصل بغداد حط رحله في إحدى خاناتها الشهيرة، إذ لم يكن حينئذ فنادق، وما أن سمع بقدومه قراء وشعراء وأفاضل بغداد حتى تقاطروا إلى محل نزوله ودعوه إلى منازلهم، ولما لم يجد بدًّا من النزول عند إرادتهم وهم كثر؛ جنحوا إلى القرعة، فكان نصيب آل العمري تلك الأسرة العريقة إلى المجد التي أنجبت العالم والشاعر والحافظ والفنان، وقد أقيمت على شرفه حفلات عظيمة لدى الأسر الشهيرة في بغداد، فانحنت له الرؤوس إجلالاً لعلمه في الفن الموسيقي، وأخذ عنه أشهر الموسيقيين في العراق، وصاهر المترجم عائلة الراوي، ثم عاد إلى حلب فاستقبل من أهلها الذين استوحشوا لفراقه بالحفاوة والتكريم.
فنونه: كان في علم الموسيقى والأنغام آية ونابغة من نوابغ العصر، أذعن له بذلك أبناء هذا الفن، واعترفوا بأنه السابق في حلبة هذا الميدان وصاحب القدح المعلى.
كان يدق النقرظان وهو المسمى بالنقارات، ويحب التنكيت ومداعبة الشعراء لاستثارة قرائحهم، وذكر الفنان المشهور أحمد عقيل وهو أحد تلامذته أنه لم يأت أحد قبله مثل البشنك في فنون الموسيقى والإيقاع، وأنه زاد علم الإيقاع أحد عشر أصلاً، ولحن أكثر من مئتي موشح، وأن أكثر الموشحات المعروفة عند الناس اليوم أكثرها من تلحينه، منها الموشح المتداول المشهور من نظم الشيخ محمد أبي الوفا الرفاعي:
يا مجيب دعاء ذا النون | في قرار البحار |
استجب دعوة لمحزون | قد دعا باضطرار |
فكان إذا أنشد الموشح المذكور بكى الناس من سحر صوته وروعة تلحينه، وله موشح من نغمة السيكاه من تشطير الشيخ محمد أبي الوفا الرفاعي، وهو:
ما زال يرشف من خمر الطلا قمر | حتى غدا ثملاً ما فيه من رمق |
وراح يشربها جنح الدجى عللا | حتى غدت شفتاه اللعس كالشفق |
ومنها:
وقال لي برموز من لواحظه | يا شيخ أهل الهوى يا شيخ كل تقي |
ماذا نقول وقد قال الرواة لنا | إن العناق حرام قلت في عنقي |
وتناقل الرواة بأن الحاضرين الذين سمعوا هذا الموشح قد طاشت عقولهم، وغابوا عن صوابهم من شدة الطرب، وقد لحن هذا الفنان الأوحد أكثر موشحات الشيخ محمد أبي الوفا الرفاعي المثبتة في ديوانه الموجود في مكتبة آل الرفاعي في الزاوية الإخلاصية بحلب.
ولحن بعض موشحات الشاعر النابغة الشيخ داود المصري، منها هذا الوشح البديع:
يا هلالاً قد سبى شمس الضحى | كل ما فيك جميل وحسن |
يا مريض الجفن يا من لحظه | سل سيفاً للمحبين وسن |
وكان ممن لازمه الظل إلى ظله العلامة المحقق الشاعر النائر الشيخ عبد الله العطائي صاحب الباع الطويل في كل علم وفن، فكان يطلب إليه تلحين موشحاته وقصائده، فيلحنها المترجم العبقري بألحان عذبة وينشدها بصوته الرخيم، منها:
عارض الخد عذار دائر | دوران الليل في ضوء الشفق |
وغدا يسري بداجي شعره | فوق خال مسكه ثم عبق |
أوصافه: كان المترجم رحمه الله طويل القامة، عظيم الهامة، بعيد ما بين المنكبين، ممتلئ الجسم، رشيق القوام، حنطي اللون، أسود العينين أدعجهما، مستدير الوجه واللحية، خفيف العارضين، طويل العنق، حلو المبسم، فصيح اللسان، طلي الحديث، قوي الحجة، يمقت الكذب والادعاء، ويحب الأدب والأدباء والشعر والشعراء، كلف بمداعبتهم وإليه ينتمي التنكيت الظريف والتبكيت على الثقلاء، حسن الصوت، صافي الحنجرة، يتلاعب بالأنغام ويصورها كما يشاء، ويؤثر على سامعيه بواسطة جدول مرتب على علم الفلك مطبق على الأبراج الفلكية، فإذا أراد تنويمهم غنى من ألحان مختصة بتلك الساعة، وإذا أراد ترقيص السامعين فأجابه بنغم، ونزل عن التخت مع زملائه، وباشر برقص السماح مبتدئاً بنغمة أثارت شجونهم، فلم يبق أحد منهم لم يدخل حلقة السماح مشاركاً إياهم بالرقص، يتقدمهم الشيخ محمد أبو الوفا الرفاعي.
وفاته: لقد كانت وفاة المترجم سنة 1272ﻫ، ودفن في تربة السفيري الوسطى المعروفة بتربة المشايخ بجانب الشيخ قاسم الخاني، ومكتوب تحت اسمه في شاهدة الرأس (أمر بعمارة هذا الضريح الوزير الأكرم الحاج حمدي باشا والي ولاية حلب سنة 1272ﻫ)، وكتب على شاهدة الرجلين:
قد كان صاحب هذا القبر جوهرة | نفيسة صاغها الرحمن من صدف |
وفي ذلك تنويه بعظم شأنه وتقدير أهل عصره له، ولم يخلفه في حذقه الفني أحد مثله في البلاد العربية، وتوفي عقيماً لم يولد له ولد، رحم الله هذا الفنان العبقري وما تركه من آثار خالدة.
* * *