مصطفى خلقي الدمشقي
مصطفى خلقي الدمشقي([1])
الشاعر المتفنن العبقري المرحوم مصطفى خلقي الدمشقي
أصله ونشأته: هو مصطفى خلقي بن عثمان بك النوري القائد الألباني، سليل عائلة عريقة بمجدها تدعى (أوليا زاده) من مدينة قوهلا بلد خديوي مصر محمد علي باشا الكبير، كان والده قائداً في الحملة التي غزا بها إبراهيم بلاد الشام، فاستوطن دمشق، وأنجب الشاعر المترجم، فكانت ولادته سنة (1851) ميلادية، كان في الخامسة من عمره لما توفي والده، فأدخلته أمه المدرسة الإعدادية العسكرية بدمشق، فكان الأول بين أقرانه، وحظي من أساتذته بالعطف والتقدير.
حياته العملية: لقد تخرج المترجم من المدرسة الحربية في استانبول، وهنالك اصطحب أشهر شعراء الأتراك وأدباءهم الذين اعترفوا بفضله وأدبه، وبدأ حياته العملية في الحقل السياسي بثورة عنيفة على السياسة الخرقاء التي كانت تسود ذلك العهد والجهل المطبق الذي يعيش في ظلمته الظلماء أبناء العرب خاصة، فكان أحد أقطاب الثورة الفكرية والإصلاحية الذين لاقوا أشد العذاب في سبيلدعوتهم الحرة وإخلاصهم لقوميتهم وعنصريتهم، وكان يجيد اللغة الفرنسية وضليعاً بالعلوم الشرعية والفقهية.
وطنيته المثالية: وأخذ الناس يتداولون شعره الثوري سرًّا وعلناً، فسعى به بعض الوشاة المفسدين لدى الباب العالي، ولكنهم لم يجدوا البرهان القاطع لإدانته، فجوزي بالحرمان من تخطي الرتب الرفيعة في السلك العسكري، وإبعاده إلى قضاء(دوما) القريب من دمشق.
ومما يستدل به على رفعة مكانته وسمو قدره أن ناظم باشا والي دمشق لما علم أنه عين في قضاء دوما ذهب لزيارته، وكان باستقباله وفق الأصول العسكريةالقائد الفقيد الشاعر مصطفى خلقي على رأس ثلة من الجند، فلما رآه نزل من مركبته الفخمة وأسرع لتقبيل يده فأبى عليه، ولكن الوالي أصر قائلاً سأخلع ردائي العسكري وأعود كما كنت تلميذك الصغير، فكان موفقاً تجلت في ظاهرتان: ظاهرة الأدب، وظاهرة العلم والفضل، وقد اشتهر بشجاعته في حملة القائد سامي باشا لإخماد ثورة جبل الدروز.
مصائبه واحتسابه: وقسى عليه الدهر فكف بصره، وكان يعتمد على الدكتور سعيد عودة الدوماني بكتابة ما يمليه عليه من مقالات أدبية ورسائل سياسية يوجهها إلى فيلسوف الشرق الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية يوم كان أستاذ الأدب العربي في المدرسة الإعدادية السلطانية بمدينة بيروت، وكان مديرها آنئذ صاحب هذه الترجمة مصطفى خلقي، وقد اطلعت صدفة على كلمة ذكرها الشاعر الكبير الأستاذ سليم عنحوري في ديوانه المسمى بدائع هاروت وماروت حول تقريظ ديوانه (القول الحق)، تكرم به مشروحاً شاعر الترك في العرب وقلادة جيد البلاغة في الشرق والغرب صاحب العزة خلقي أفندي مدير المكتب السلطاني، وأحد ضباط أركان الحرب.
ولما اطلع الشاعر الكبير خير الدين الزركلي على ديوانه الشعري باللغة العربية، وقد أراد أحد أولاده نشره وطبعه، قال له: إن أباك أكبر من من أن يكون هذا أثره يابني... لقد كان شاعر الترك وأديبهم الأوحد.
ولما أقام بدمشق كانت داره تغص بكبار العلماء والأدباء، أذكر منهم العلامة الأستاذ الطنطاوي الكبير والشيخ عبد الرزاق البيطار وعلامة الشام الشيخ سليم البيطار رحمهم الله، ومن تلامذته المشهورين المرحوم أمير البيان الأمير شكيب رسلان، وإني إذ أقتطف من شعره بعض شذرات القصائد ألفت النظر إلى أن الحكومة العثمانية كانت تدرس اللغة العربية للطلاب باللغة التركية، فكان المترجمينظم قوافي الشعر وهو أشبه بالمستشرقين، وقد بلغت به الشاعرية حد الإجادة من حيث المعاني الرقيقة والخيال البديع، مع سلامة اللفظ وقوة البيان، ومن نظمه البديع مجاورة بين الهزار والفراش، قال:
قال الهزار إلى الفراش فما لكم | تتهافتون على لهيب النار |
أما أنا أهوى الزهور وعرفها | وأرتل الإنشاد في الأسحار |
صوتي يهيم العاشقين بلطفه | يغني الورى عن نغمة الأوتار |
سكت الفراش هنيهة وأجابه | متجملاً بسكينة ووقار |
مه ياهزار فلا تلمني بالهوى | ما أنت دار لوعتي وأواري |
تبدي الغرام تصنعاً ولربما | في مذهب العشاق لست بدار |
عرضت نفسي للهلاك تعمدا | ألقى الحشا متلذذاً في النار |
أنا لست مثلك من يبوح بسره | يشكو الجوى متهتك الأستار |
فانقل حديث العشق عني إن تكن | مثلي محبًّا كاتم الأسرار |
وكان الفقيد صريحاً جريئاً في الحق، يعلم ما تنم عنه لبانة البشر في السر والجهر، فقال:
كم عابد يبدي النزاهة والتقى | ويباشر الآثام في الخلوات |
وإذا رأى الدينار يسجد قائلا | يا ربنا يا قاضي الحاجات |
وكان يصارع الدهر ونوائبه بالصبر، ويرى في التغزل ما يعبر عن شجونه وفنونه، ومن نظمه البديع قوله:
لفرط اشتياقي ألفت السهر | بحب الغواني وصوت الوتر |
وكأسي عيوني ودمعي الطلا | ووجدي سميري ونقلي الكدر |
ومنها:
وما العمر إلا زمان الصبا | تراه كطيف تبدى ومر |
فلما تناهى حديث الهوى | تثنى دلالاً وعني نفر |
فهاجمت شجوني بما قد روى | وفاضت دموعي كسح المطر |
وكانت قريحته تجود في نشوة الطرب بين الراح والجمال، فقال:
شربنا من لمى الساقي رضابا | سكرنا بين ريحان وآس |
ومنها:
أخذت أدغدغ النهدين منها | وبنت ألحان قد لعبت براسي |
وجدنا البطن بحراً من لجين | ركبناه وألقيناه المراسي |
وقال رحمه الله مرتجلاً ومضمناً أسماء ثلاث فتيات في ليلة سمر:
إن كنت في أفق المحاسن (زهرة) | فأنا لوصلك يا (ثريا) مشتري |
أو كنت أنت الفرقدين تلألأ | (فسهيل) قلبي قد حواك وناظري |
وكان صادقاً في مبادئه فلم تلن قناته لرغائب الاتحاديين في العهد العثماني، فأبعد إلى قضاء دوما، فقال:
لا يخضع الحر الأبي إلى الورى | أبداً وإن جارت عليه ملوكها |
أبت المروءة أن تشان بذلة | ولو أن أنياب الخطوب تلوكها |
وقال يخاطب الاتحاديين بقصيدة طويلة مطلعها:
لا تسل عن حالها أهل الاتحاد | إنهم في الأرض جرثوم الفساد |
وكان رحمه الله عليماً بالفن الموسيقي وأوزان الموشحات، ويعزف بالقانون، ومن نظمه وألحانه موشح من مقام البيات نوى:
بأبي ذاك الغزال | سل سيفاً مرهفاً |
راش سهماً صائباً | ولقلبي استهدفا |
وله موشح من مقام الحجاز كار كردي:
إن قلبي مستهام | وبرى جسمي السقام |
آه من حر الغرام | ذبت شوقاً يا سلام |
مال قلبي وصبا | وألفت الوصبا |
زر حبيبي يا صبا | واهده مني السلام |
وفاته: كان الفقيد رحمه الله ساعة وفاته يفسر قصيدة لولده المرحوم جودة من ديوان اللزوميات لأبي العلاء، مطلعها: (يا أم دفر إنما أكرمت عن)، وحين أنهى تفسيرها قال: الله، الله، إن أبا العلاء كان كفيفاً، وأنا صرت كذلك، ولكن بيني وبينه درجة، (تف على هذه الدنيا)، ثم استلقى على الوسادة ونطق بالشهادتين، وكانت وفاته في الساعـة الواحـدة بعـد ظهـر يـوم الخميس في 7 ربيع الثاني سنة 1334ﻫ و28 كانون الثاني سنة 1916م، وأعقب خمسة ذكور، منهم الفنان والشاعر والمصور والممثل المبدع، ودفن بمقبرة الدحداح بدمشق، وقد رثاه الشاعر الأستاذ سعيد المسوتي مؤرخاً وفاته:
أيا قبره لولا ضريح بيثرب | لحج إليك الناس باد وحاضر |
بكت ضيفك الدنيا وناحت لفقده | وأربت عليها بالعويل المآثر |
لئن دفنوه في الثرى فهو لم يزل | بمثله منا فؤاد وناظر |
لتبك عيون المجد لحد هدى ثوى | به مصطفى خلقي فشقت مرائر |
أيفنى وقد أحياه ذكر مؤرخ | والسن مدح باهر ومفاخر |
147 52 208 927
* * *