جاري التحميل

مصطفى زين الدين الحمصي

الأعلام

مصطفى زين الدين الحمصي([1])

الشاعر المتفنن المبدع المرحوم الشيخ مصطفى زين الدين الحمصي

أصله: هو المرحوم الشيخ مصطفى زين الدين، ولد في حمص سنة 1245ﻫ 1826م، وبها نشأ ودرس على علماء زمانه، فحفظ منها في مدة يسيرة ما يعجز غيره عن حفظه في أعوام.

لقد وهب الله المرحوم المترجم حسن الصوت وجودة الحفظ، وتولع بالعلوم الموسيقية فبرع بها، وأحبه أعيان البلاد وأكابرها، فكان سمير العلماء ونديم الشعراء والبلغاء، ثم زادت شهرته وبعد صيته، وتولع به الخاصة والعامة، وقد تعرف عليه المرحوم الشيخ أبو النصر بن الشيخ عمر اليافي المشهور صاحب المنظومات الدورية والقدود البديعة، فازداد عجباً من مواهبه العلمية وفنونه وذكائه، فاعتنقهونزل عـنده منزلـة عظيمـة، وحلت عليه أنظاره ونفحات روحه الكريمة، فكان لا يفارقه، وصار منشد ذكره وحضرته، وكانت حلقة الذكر تغص بالذاكرين من علية القوم، فإذا أنشد لا يسمع إلا خفقان القلوب وقد تعالت الآهات والأنات وغلب على السامعين البكاء من نشوة الخشوع وسحر صوته الشجي وتأثير إلقائهفي النفوس، ومن روائع إنشاده وتلحينه موشح من نظم المرحوم الشيخ عمر اليافي المشهور، وهو:

قضيتم بحكم الحب يا جيرة الشعب

وبدلتمُ بالبعد عن ربعكم قربي

وما لي سبيل للسلو ولم يكن

وحق هواكم لو قضيتم به نحبي

صفاته: كان رحمه الله فاضلاً ذكيًّا ودوداً صالحاً، حسن الهيئة، جميل المحادثة، مسامراً نديماً حافظاً، إذا جالسك يملؤك نكات وأخباراًوملحاً وآثاراً، مرعي الحرمة، يعرف كيف يسلك سبيل مراده، وكان أكولاً عظيماً يلتهم الحروف وتوابعه لوحده، وقد قيل: من أحب شيئاً أكثر من ذكره، وسوف نأتي على نبذ من شعره وشغفه بالمأكولات.

علاقته بالشعراء: لقد تعرف على الفنان الكبير المرحوم الشيخ أحمد أبي خليل القباني لما أقام بحمص مدة طويلة، وكانت حلقات مجالس الأدب والطرب تعقد في ضيافة المرحوم الوجيه محمد بن سليمان الجندي شتاء، وفي ضوء القمر على ضفاف العاصي صيفاً مع فريق من الفنانين الناشئين في ذلك العهد أمثال الحاج محمد الشاويش والشيخ مصطفى عثمان والشيخ إبراهيم الأعمى رحمهم الله، واستفاد هؤلاء من فنون القباني فتلقوا عليه موشحاته الخالدة وضروب إيقاعها، فكانوا حجة فيها... وفي حفلات الأفراح التي أقيمت ابتهاجاً بزفاف المرحوم أبي الخير بن محمد الجندي قال الشاعر الهلالي مهنئاً بقصيدة طويلة عارضها الشيخ مصطفى زين الدين فوراً، نذكر منها قوله:

زفاف به حق السرور وكيف لا

وليلته ما غيرها ليلة القدر

فعارضها بقوله:

فبان لنا الخاروف فيها موسدا

ومن فوقه الأمراق في دهنه تسري

وظن الهلالي رحمه الله بأن الأمر وقف عند هذا الحد من المعارضة، ولم يدر أنها ستأخذ شكلاً خطيراً بالنسبة إليه كان سبباً في تغيير مجرى حياته ورحيله من حماة إلى دمشق.

سفر الشيخ مصطفى زين الدين الحمصي: ولما أزمع شيخه السفر إلى الأستانة استعطفه ليرافقه في السفر، فرضي امتثالاً لرغبته، وكان في صحبته معززاً مكرماً، ونزلا عند المرحوم عبد الله باشا أحد وزراء الدولة في عهد السلطان عبد العزيز، فلقيا في محيط الخلافة من الحفاوة والتكريم ما أنساهما وحشة البعاد، ومن خلالها تعرف بأعظم رجال الدولة، وأعجبوا بعلمه وخفة روحه وفنونه، فوجهت عليه رتبة (روس إيبك) بواسطة الباشا المذكور، وانتظمت أموره بما أغدقت عليه من منح وهدايا كثيرة، وهام عبد الله باشا حبًّا بشمائله وإعجاباً بمنادمته، فحبسه عن المسير وأقام في ضيافته ونال منه الخير، ثم سافر عبد الله باشا إلى المدينة المنورة فاصطحبه معه، وبعد ذلك استأذنه بالعودة إلى حمص فأذن له، ورجع بمزيد الإنعام.

طوافه في مصر:وفي طريقه عرج إلى مصر وطاف البلاد المصرية، وتعرف على أدباءها وأهل الفن فيها، فرأى في تلك المدة انتشار المنظومات الهلالية والناس منها بين إعجاب وإطراء، ولما عاد إلى حمص شمر إلى مبارزة قصائده.

فإن حق لحماة أن تفخر بالشاعر المرحوم الهلالي وإن هجاها وفارقها، فقد حق لحمص أن تفخر بشاعرها المرحوم مصطفى زين الدين الذي لا يقل عن زميلهشأناً في ميدان النظم والنثر البديع؛ وقد أبى الدهر إلا أن يقترن ذكرهما معاً بالرغم من إرادة الهلالي الذي كان يرتجف حنفاً وغيظاً إذا ذكر اسم خصمه أمامه لمعارضته شعره، على أن الشيخ مصطفى لم يقتصر نظمه في المآكل، إنما كان يأتي بذلك على سبيل التفكه والمجون والمداعبة، ونزولاً عند الحاح وتشويق وإغراء أعيان حماة الذيـن كانـوا يقصـدون حمص ويغدقـون عليـه الهدايـا، فكانـوا يتسامرون بمعارضاته الشعرية، ويتعمدون دعوة الهلالي إلى مجالسهم، وبينما هم يطرون عذوبة شعره وفصاحته إذا بهم يقرؤون معارضات الشيخ مصطفى زين الدين لقصائده، فيزداد تضجراً وامتعاضاً من مزاح بدَرَ من أشخاص كانوا إلى قبل هنيهة يتظاهرون بالتمجيد والإطراء والإعجاب بشعره، فيغضب ثائراً، وهيهات أن يرضى ويهدأ غضبه.

ولما قرأ المنكتون على مسامعه قصيدته التي مدح بها أحمد باشا الشمعة وعارضها الشيخ مصطفى زين الدين، ونقتطف منها بعض أبياتها لطرافتها، وهي:

الأبيات الأصلية

الأبيات المعارضة

أما والسنا الوضا من جيدها الفجر

أما ولحوم الضان من غنم الحمر

وسود ليال من ذوائبها العشر

وكثرتها في العيد في موسم النحر

ومن كاسها بالنجم وهي تديره

ومن دهنها كأس يلذ لشارب

ومن شهب الأزرار بالشفع والوتر

إليه اشتياقي لا إلى الكأس والخمر

انتحب وبكى لولع الناس بأمر معارضته، ومزق جيوبه حزناً على إهمال نظمه الذي فاق الدر المنثور، وكان يقول: اسمعوا ياناس، أنا في واد، والحمصي في واد.

ومن دهنها كأس يلذ لشارب

إليه اشتياقي لا إلى الكأس والخمر

وهذه كانت من أهم العوامل لهجرة الهلالي من حماة، ومما قاله بحق مناوئيه:

واحذر تغرنّك الذوات فربما

كانت أناساً والصفات حمير

خشبٌ مسندةٌ وأحسن ما يرى

عند النخاة لجمعهم تكسير

شعره: كان الشيخ مصطفى زين الدين رحمه الله شاعراً مجيداً، انقاد له هام النظم والنثر، وله من المنظمات الفائقة والأدوار الرائقة ما يدل على رصانة مبانيها، ودقة معانيها وفصاحتها، ومن نظمه البديع قوله:

رماني بسهمٍ من لحاظ فواتك

غزال له دانت أسود المعارك

فما البدر يحكيه ولا الغصن إن بدا

أو اختال في ثوب البها في مسالك

يلذ لي التعذيب في حب من غدا

وأصبح من دون البرية مالكي

فليت الكرى لما شواني بحبّه

أراقب زهو الليل ضمن الحيالك

وفاته: كان رحمه الله قوي الجسم، فاعترته نزلة صدرية، وفي سنة 1319ﻫ ـ 1900م كانت وفاته على هيئة تشعر بحسن الختام، فإنه أصبح يوم الجمعة حتى إذا كان قبيل الصلاة رأى في نفسه خفة وراحة، فطلب ماء ليتوضأ معولاً على النزول إلى الجامع، وكان قريباً لبيته، ولما أتي له بالماء توضأ محسناً للوضوء، ولما أتم أمر بفرش مصلاه وشرع في صلاة سنة الجمعة قبل المسير إلى الجامع، فقبض قبل التشهد في السجود الأخير، ودفن في عصر ذلك اليوم، وكان له مشهد عظيم، مشى في جنازته أهل حمص بأجمعهم، وقد أرخ وفاته العلامة المرحوم خالد الأتاسي مفتي حمص قائلاً، وقد رقم على القبر:

هذا الضريح لمصطفى

مداح خير المرسلين

من لابن زين الدين يعـ

ـزى نسبة في العالمين

لبّى المهيمن ساجدا

لما رأى عين اليقين

العفو أرخ وافر

ولنعم دار المتقين

وقد أعقب من الذكور المرحوم نجيب زين الدين صاحب الصوت الساحر والفنان الكبير.

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/39 ـ 40).

الأعلام