جاري التحميل

مصطفى عثمان خليفة القباني

الأعلام

مصطفى عثمان خليفة القباني([1])

المتفنن الشهير المرحوم الشيخ مصطفى عثمان خليفة القباني

وسفير حمص في أفراحها وأتراحها

حيـاة الظرفـاء سـفر جليـل لا تخلـو صفحـة من صفحاته من المثل العليا والدروس المفيدة، وحق لحمص أن تفخر وتعتز بشخصية كتب الله لها الخلود في قلوب الناس، وأن يصون النسيان ذكراه، كان يفرض عليك أن تهابه وتحترمه، وقد يستطيع بحديث واحد أن يغير منك عقيدة راسخة في أغوار نفسك.

انطوت نفسه على نبل أتاح له أن يكون من أحب الناس إلى المجتمع، كان يطارح الناس النوادر، وقد حبته الطبيعة بكل الصفات التي تجعل منه أحب نديم وجليس.

هذا هو الشيخ مصطفى عثمان رحمه الله الذي ما كان ليعجز عن وصف المآسي وندب النوابع وبكاء الفواجع وعزاء المصابين، وله في ذلك جولات لا يستطيع تقليده فيها.

كان يتحدى كل شجوٍ في النفوس، ويريد حرباً من نوع آخر تنخذل فيها الأحزان وتنهزم الأشجان، ويحل فيها الانشراح محل البلايا والأتراح.

فقد كان المترجم طرازاً فريداً بين الناس، يعبر بلسانه أجمل تعبير وأكمله عن شعور الناس مهما تباينت مناهجهم في الحياة وتفاوتت أمزجتهم وطباعهم.

أصله: هو المرحوم الشيخ مصطفى بن عثمان، ولد في حمص عام 1852 ميلادية، ونشأ بحجر والده على التقوى والصيانة، وكان يسكن بجوار حي آل الجندي، وتربى بيـن أفـراد هـذه العائلة، وبينـه وبين البعض علاقات رضاعيه، وكانت الأوراد والأذكار تقام في أبي الهول أباً عن جد، تلقى المترجم قواعد الصرف والنحو على علماء زمانه، فكان بعيداً عن اللحن، ولما شب تقلد المشيخة بعد وفاة والده، فكان رئيساً لنقابة مشايخ الطرق، ومن صلاحياته تقليد المشايخ المناصب بالخلافة الوراثية بالمراسم المعتادة، وقد كان مطاعاً ذا شخصية قوية طاغية، يكفي إذا ذكر اسمه أن تهابه الناس.

تحول في مجرى حياته: لقد أنجب الفقيد ستة من الذكور، وكان يرعاهم بعطفه وحنانه الأبوي، يحيطون به إحاطة النجوم بالهلال، وبين عشية وضحاها رأى نفسه وحيداً، فقد ذهب أولاده إلى الخدمة العسكرية في الحرب العالمية الأولى وتشتتوا ميادين القتال إلا ولده الأصغر، فطار لبّه، وأصبح يجلس مع زوجته وولده على مائدة الطعام ويتذكر فلذات أكباده، فتجيش به الذكريات، وقد برح به الحزن واشتد به اليأس وضاقت به السبل في بحر الحياة الصاخب المصطخب، وشاءت الأقدار أن يمن الله عليه بسلامتهم، فعادوا إلى أحضانه بعد انتهاء الحرب وتعاطوا المهن الحرة، فكانوا في بيته وتحت طاعته ونالوا من تهذيبه وتثقيفه أوفر قسط، وقد وهبه الله الأصوات الجميلة، فكانوا إذا حضروا إلى التكية شعّ فيها نور سماوي وانبثق عن شعاع إلهي.

فنه: كان صوته بحالة متوسطة، يجيد الأداء، وحافظاً الشيء الكثير من الموشحات والقدود والأوزان، ولا غرو في ذلك فهو أحد تلامذة المرحوم القباني البارزين الذين لازموه خلال إقامته في حمص، وممن أنبتهم نباتاً صالحاً في الفن، وقد تلقى عنه أولاده وأبناء أخيه وغيرهم أصول الفن، ويعتبر هذا البيت عماد الفن في حمص.

ومن مآثر الفقيد الطريقة أنه كان يجيد حفظ التشابية التي تغنى بها الشعراء، كتشبيه الحاجب بالنون، والصدغ بالواو، والثنايا بالسين، والقامة بالألف، والخدود بالتفاح، والشفة بالعناب، والثدي بالرمان، والوجنة بالورد، والعين بالنرجس، والعذار بالآس، والأسنان باللؤلؤ ، والوجه بالبدر، والفرق بالصبح، والشعر بالليل والنار، والريق بالخمر.

مزايا الفقيد: لقد كان رحمه الله سفير حمص في أفراحها وأتراحها، وكم نال أهل مصر بسببه وفضله ومعرفته أداء الواجب أمام الأغراب والثناء والحمد المستطاب، فكان إذا نزل عالم مستطرق في حمص خفّ للتعرف عليه، ودعا زمرة من العلماء لتحيته ودعوته، فكان العالم الغريب يلقى من ضروب الحفاوة والتكريم ما يؤانسه ويدهشه، ويعود لبلده وقد حفظ لحمص وأهلها كل فضيلة وتقدير، كان ذلك يجري بفضل المترجم اللبق.

صفاته: لقد منحه الله ذكاء فطريًّا وثقافة كونية، كان من أساطين المنطق، قوي الحجة، واسع الاطلاع، يدهشك ما يختزنه في صدره وذهنه من أخبار الناس ونوادرهم، قوي التأثير على النفوس، جذاباً في أحاديثه الممتعة، يحب أن تكون له صلة بكل قلب وعلقة بكل نفس.

كان يشارك رجاله ما أصابهم ويتتبع بالعناية والحدب أمورهم، ويشترك في تصريف ما نزل بهم باهتمام، فهو خير غربال للرجال، يفصل بين العظيم والمتعظم، ويميز بين الكبير والمتكبر، فيعطي كل ذي حق حقه في الهيئة الاجتماعية، لا تطاحن ولا اغترار في وجوده، ومن سولت له نفسه التطاول فلسانه ـ وهو كالمهند البتار ـ كفيل بإنقاذ الموقف من الشطط، وهبه الله الجرأة القوية التي لا تعبأ بالحوادث، قاسٍ في هجومه، يحاسب الناس حساباً عسيراً، ويقابلهم بعنف وشدة حيثما اقتضى الأمر، فهو عنيف في كرهه كما هو عنيف في حبه، يمقت الحديث إذا ما بدأه صاحبه بمقدمات طويلة، وكثيراً ما يرد المحدث إلى الموضوع بلطف ولباقة.

كان رحمه الله أبلغ الناس أثراً في التنكيت الطريف، فهو يعتبر أفصح المتحدثين وأكثرهم امتلاكاً وانطلاقاً لناصية الكلام والحجة، لقد شرّقت تلك الشخصية وغرّبت حتى عطرت أنفاس الناس، وهي قيثارة صوفية تصدح بأشواق المحبين إلى الجوهر المكنون في صدر الوجود.

ومن مآثره أنه كان يقول: من حزن فليستمع إلى الأصوات الطيبة، فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها، فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد.

مصابه بولده: وشاءت الأقدار أن تمعن بقسوتها عليه، فقد شرب كأس المصائب حتى الثمالة، إذ اختطفت المنون ولده الأصغر بعد أن أخذ شهادة الحقوق وأصبح قاضياً، فكان لفقده أبلغ الأثر في نفسه، وأخذ الظن يمتلك القلوب بأن الفقيد الذي حطمت قلبه هذه المصيبة سوف لا يحتمل هذه الصدمة ويقضي نحبه متأثراً على ولده، غير أن الفقيد كان مثالاً يقتدى به بالصبر، فقد صارع الأحداث بإيمان قوي، وأعانه الله بالعزاء والسلوان، فكأن قلبه قدّ من صخر.

كان رحمه الله قادراً على أن يلبس لكل حالة لبوسها، ويعرف بأن الأنغام المشجية للحزين غيرها للمتحمس، وللقانط غيرها للمؤمل، وللمستبشر الراضيغيرها للمبتئس الغاضب، وينشد هذه الأنغام، ويعطي لكل موقف اعتباراته.

وفاته: وبالرغم من شيخوخته فقد كان مالكاً لجميع حواسه، ويتذكر كل شيء، وفي يوم 13 مايس سنة 1936م فاضت روحه الطاهرة، وشيع جثمانه باحتفال مهيب، وخسرت حمص بفقده شخصية نادرة لا تعوض، رحمه الله.

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/77 ـ 78).

الأعلام