جاري التحميل

مصطفى وهبي التل

الأعلام

مصطفى وهبي التل([1])
شاعر الأردن الوطني الأبي المرحوم مصطفى وهبي التل

من اطلع على سير حياة الشعراء في التاريخ وجد أن أكثرهم لم ينج من غوائل الدهر، كتنكيل وسجن وتشريد، إذ كانت جرأتهم ووطنيتهم سبب آلامهم وشقائهم في الحياة، وشاعر الأردن العبقري المرحوم مصطفى وهبي التل من هذه العناصر البائسة، فقد تعرض لنقمة الحاكمين وذاق عذاب النفي والاضطهادبعيداً عن عائلته وأولاده، تحرقه لوعة الأسى والهجران، فغمرته المصائب السياسية؛ لأن شعاره الروحي في لسانه ويراعه كان (الأردن للأردنيين)، فما لانت قناته ولا ونى بالرغم من كل عَرْضٍ وإغراء.

أصله ونشأته: ولد الشاعر الجريء في إربد الأردنية سنة 1896م، انحدر من أسرة (التل) الشهيرة بوجاهتها ومنبتها العريق، تلقى دراسته في تجهيز (عنبر) بدمشق، واشتهر بين أقرانه بالذكاء والإباء وقوة العقيدة الوطنية، يهوى مجالس الشعراء والأدباء.

مراحل حياته: وفي عهد الإمارة الأردنية عيّن حاكماً إداريًّا لمنطقة (الشوبك)، ثم أقيل من منصبه وسجن لاعتبارات سياسية وطنية، ثم أفرج عنه وعين أستاذاً للآداب العربية في عمان، وكان رحمه الله يغرس في نفوس النشء المثقف حب الوطنية، مطلعاً على أسرار الأحداث التي مرت على الأردن وما مثلته السياسة في ميدانه من مآس ومهازل، فكانت صيحاته الوطنية الداوية وجرأته النادرة وتصويره وقائع الحوادث هي صدى آلامه في شعره الوطني الرائع، وسبب نكبته بنفيه إلى العقبة، وقد قضى شطراً طويلاً يعاني مرارة البعاد عن أهله ووطنه، ثم عفي عنه وعين مساعداً للنائب العام في القضاء، وبعدها عين في الديوان الأميري، ثم مأموراً للتنفيذ في إربد.

مؤلفاته: لقد ترجم رباعيات الخيام الشاعر الفارسي الخالد؛ لإتقانه اللغة الفارسية التي تعلمها اكتساباً على نفسه، وألف مسرحية بعنوان (سدوم)، فلم يتسن له طبعهما بسبب سجنه ونفيه، وكان مزمعاً على تسمية ديوانه الشعري (عشيات الوادي اليابس) مع أن هذا الوادي غضٌّ غزير الماء، وهو مواطن (النور)، وله قصائد كثيرة لم تجمع في ديوان.

شعره: كان شاعراً فذًّا في قوة التعبير، ذا خيال مرهف، يهوى الخمرة، ويرى في نشوتها بلسماً لجراح قلبه وآلام نفسه، عليماً بوصفها كأبي نواس، امتاز في نسج قوافيه بطابع خاص، له جولات قاتلة بالتهكم اللاذع، وقد اشتهرت قصائده بـ(العبوديات) نسبته إلى الشيخ عبود النجار الذي كان يحب مداعبته ويتوّج قصائده باسمه، وله قصائد كثيرة في (الهبر) وهو شيخ النور، يحب معاشرتهم، ويعتقد أن الشاعر لا يكون شاعراً إلا إذا خالط النور.

ومن شعره البديع أنه لما كان منفيًّا في العقبة ومستلقياً في فراشه تمثلت له زوجته وأطفاله في الرؤيا وهم يمرون أمامه في يوم عيد، فلا يؤدون عليه السلام، ورأى في ذلك عجباً وجفاء، فأمسى كئيباً تدمي قلبه ذكريات عزيزة، فجادت قريحته بوحي من الإلهام العاطفي، ونظم قصيدته البليغة (ذكرى وعهد)، استهلها معاتباً زوجته:

أهكذا حتى ولا مرحبا؟!

لله أشكو قلبك القُلبا

أهكذا حتى ولا نظرة

ألمح فيها برق شوق خبا

ناشدتك الله وأيامنا

ونشوة الحب بوادي الصبا

لا تسأليتي أي سرّ لقد

أحال عمري خاطراً مرعباً

خيال أطفالي، وقد زرتني

غداة أمس العيد مستعتبا

من كوخ منفاي وهذا الحمى

حذار بعد اليوم أن تقربا

فالناس إنسانان: من هَمُّه

أن يرتوي ذلًّا وأن يلعبا

وآخر تأبى عليه الحجا

والحب أن يشقى وأن يتعبا

ما قيمة الألقاب منصوبة

والظهر بالخزي قد احدودبا

كم مطلق العنوان، ألقابه

ما حقّقت سؤلا ولا مطلبا

يستنسب المجدبصفع القنا

يا بئس ما اختار وما استنسبا

وهذه قصيدته البديعة بعنوان (سكر الدهر) قال:

سكر الدهر فقل لي كيف أصحو

والندى يبخل والجود يشح

وحياتي لا تسل عن كنهها

إنها حان وألحان وصدح

فهي أحياناً بشعري آهة

وهي أحياناً جوى يُشجي وبَرْحُ

وهي طوراً في مغاني قصفهم

عربدات تضحك الثكلى وردْحُ

وأمانيَّ شباب فاته

مثلما فات بني الأوطان نُجح

سَكِرَ الدهر ولم يفطن إلى

سكره حرٌّ أبيُّ النفس قِح

فانتفى الإنصاف، والعدل عفا

وأسف الحكم فاستجبل سفح

أيها الشيخ الذي دستوره:

إنما الإفتاء إرشاد ونصح

بعضهم يسكر للسكر وفي النْـ

ـنَاس من يسكر يا شيخ ليصحو

قد قلوت القيل والقال وما

لي غنًى عنه وما لي منه ربح

ونذرت الصمت لما قيل لي

من يقول الحق يؤذى ويُدًحُّ

أنا إن أصمت فصمتي حسبه

أنه صوت الأرقاء الأبحُ

بارك الظلمَ وصفق للأذى

فهما نصر من الله وفتح

وله أبيات متفرقة مليئة بشعور الوطنية تنطوي على السخرية والتهكم والثورة على الأوضاع الراهنة الغاشمة، ومنها قوله:

كم صحت فيكم وكم ناديت من ألم

فلم يصيخوا لصيحاتي وأناتي

والله ما اغتالكم واجتث دوحتكم

بين الشعوب سوى حب الزعامات

وفاته: لقد أثرت الخمرة في عناصر جسمه، فاعتلت صحته، وبقي مريضاً مدة طويلة، فكان المغفور له جلالة الملك عبد الله بن الحسين يتفقده بعطفه ويحدبعليه بالرغم من موقفه السياسي السلبي ضده، وقد خصص له (50) ديناراً راتباً شهريًّا طوال مرضه، ولعمري فهذا النبل والأريحية والمكارم لا يستعظم صدورها من الملك الهاشمي رحمه الله الذي يقدّر وطنية شاعر الأردن وإخلاصه لأمته ووطنه.

وفي اليوم الرابع والعشرين من شهر مايس سنة 1949م وقد كانت البلاد العربية تحتفل بذكرى يوم الجيش قضى هذا الشاعر المتألم نحبه في عمان، وأنجب ذرية كريمة، منها ولده البكر الشاب وصفي، وسيبقى ذكره حيًّا في قلوب الأردنيين وفي سجل الخالدين.

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/383 ـ 384).

الأعلام