ممدوح الشريف
ممدوح الشريف([1])
أستاذ الخطاطين السيد ممدوح الشريف
قال لي صديق: كنا في عام 1918 ثلاثة أشخاص نمر من سوق الحميدية، بيننا واحد يدعي أنه خطاط وقد حاز على أوسمة وجوائز، وأنه كتب على البيضة، وعلى حبة الرز، وعلى فص الخاتم، إلى غير هذا، واسترعى أنظارنا في ذلك الحين اللوحات الموجودة على المخازن، وكانت التجارة تتنفس الصعداء بعد الحرب العامة، والناس يتنافسون، وكانت معظم هذه اللوحات بخط المرحوم ممدوح الشريف أسـتاذ الخطاطين ونابغتهـم في سوريا، وكان صاحبنا الخطاط ينتقد كل ما وقعت عليه عينه من خطوط الأستاذ ممدوح الشريف ويرميها بالنقص، إلى أن وصلنا إلى آخر السوق، فضجرت وقلت: أتريد الحقيقة؟ قال: قل، قلت: أولم تغضبك؟ قال: لا ـ وأقسم بشرفه ـ، قلت: إن كاتب هذه الخطوط لو خط برجله اليسرى لأتى بأبدع مما تخطه يمينك!
وطبيعي أن تجرح هذه الحقيقة هذا الدعي، ولم أكن أعرف ممدوح رحمه الله، ولكن الاثنين ذهبا للبحث عنه والتعرف عليه، وقد ذكر له أحدهما ما سمعه مني، فأخذ السيد ممدوح يبحث عني حتى وصل وسلم، وقال بعد التعرف: لقد كسرت قلب الرجل، وأضعفت همته، وقضيت على معنوياته، قال: ومنذ تلك الساعة تعرفت بالأستاذ النابغة الفنان، وتوطدت الصداقة بيننا، ورأيت من أخلاقه ما حقق بأن ذلك الاسم على مسماه، والكنية على مكناها.
وعلى إثر الانقلاب التركي الأخير، وإلغاء استعمال الحروف العربية والخط العربي في تركيا، لا سيما الأستانة حيث كانت تخط الفرمانات السلطانية كسدت في تركيا صنعة الخط، وهاجر الخطاطون منها إلى البلاد العربية، وأم بعضهم دمشق، فكان المترجم رحمه الله يبحث عنهم ويتلقاهم بكرم وأريحية، ويهيئ لهم أسباب العمل، لكن ما استطاع أحد منهم البقاء في دمشق، بل توزعوا في الأقطار العربية.
ورأيت واحداً منهم في حلب، فسألته عن سبب تركه دمشق بعد أن عزم على الإقامة فيها، فقال: إن في دمشق الأستاذ ممدوح، وأنا لا أستطيع أن أظهر في دمشق ولا غيري من الخطاطين، فالأستاذ ممدوح ملأ المحيط وحده، ومثلنا يجب أن يبقى سنوات عنده ليستطيع عملاً في دمشق، بل إن كل بيروتي أو حلبي أو أردني أو حجازي أو عراقي يزور دمشق ويرى لوحاتها المدبجة ببراعة (ممدوح) لا يعجبه خط بعده.
فمن العراق والحجاز، بل من جميع الأقطار العربية تطلب خطوطه، وهو لا يسير في الخط على قاعدة معروفة أو معينة، بل إن جمال جرة القلم معه كل يوم فن وكل يوم في ازدياد، قال: وأطلعناه مرة على بعض ما في الصحف الحديثة من شبه الخطوط التي تنشرها الصحف والمجلات المصورة، فقال: إن هذا رسم وليس بخط، وأخذ يخط ما يماثله، فرأينا إبداعاً لم يسبق أن رأيناه من أساتذتنا الذين تعلمنا منهم.
لا نعرف بالتدقيق تاريخ ولادة المترجم، فقد توفي عام 1936م، ولم يتم العقد الرابع من عمره، توفي بعد أن أصيب بذات الجنب مدة يومين، وكان بصحة جيدة، فأقام له الطلاب ورجال العلم والأدب مأتماً حافلاً تبارت به الخطباء بمآثره وعبقريته الفذة.
تعلم الخط على الأستاذ رسا أفندي، ففاقه بمدة وجيزة، وكان كعبة الفنانين والمؤرخين والأثريين والمؤلفين.
اتخذ دكاناً في سوق مدحت باشا، وفيها احترف كتابة الخطوط واللوحات، استكتبه صاحب معمل في الباب الشرقي مرة لوحة، ولما سأله عن ثمنها أجاب: عشر ليرات عثمانية، فقال: والله أنها تستحق عشرين، وأنا لا أدفع إلا العشرين، فاقبلها مني، وتردد رحمه الله في قبولها، وأخيراً بعد إلحاح اتفق على أن يقدم للرجل لوحة ثانية هدية منه، فقبل الرجل.
تدريسه في مدارس الحكومة: لم تجد وزارة المعارف أستاذاً لمدارسها غيره، فكان مع زهده ومشاغله الكثيرة لا يقصر بالذهاب إلى مدارس المعارف ليؤدي هذه المهمة.
وقررت وزارة المعارف في إحدى السنوات أن يكون المعلمون اختصاصيين، وشكلت لجاناً لفحص من لم يكن من ذوي الاختصاص، وجاء دور المترجم رحمه الله، فكتب استدعاء للوزارة بثمانية عشر نوعاً من الخطوط طالباً تعيين لجنة ليتقدم إليها للفحص، فأخذ الوزير استدعاءه ـ وكان الأستاذ محمد كرد علي رحمه الله ـ وطلب إليه أن يكتب استدعاء ثانياً، ففعل، وجاء الثاني أبدع من الأول جمالاً وتركيباً، واعتمد الوزير أن يعلقه ضمن إطار، ثم جاء الثاني فعرضه على المستشار، فقال: ومن أين لدمشق أن يكون فيها لجنة تفحص الذي خط هذا؟ إن هذا الاستدعاء هو فحص مقبول بذاته، وأمر الوزارة أن تبلغ المترجم هذه الكيفية والقبول.
وكلفته مرة دائرة الأوقاف بكتابات في المساجد وعلى بعض أبنيتها الحديثة، ولما أنهى ما طلبت منه طالبها بالأجرة، فأخذت تماطل حسب العادة، واضطرته المماطلة للجوء إلى القضاء، وحسب القانون أحضرت المحكمة خبيراً ليخمن قيمة هذه الخطوط، وكان الخبير مسيحيًّا من موظفي دائرة الآثار، فخمنها بأكثر من عشر أضعاف قيمتها، فسألته المحكمة: هل يشتريها هو بالقيمة المخمنة؟ فقال: اقلعوها وسلموني إياها وخذوا القيمة مضاعفة مع ما يحتاج قلعها من نفقات.
وحكمت له المحكمة بما ادعى مع المصاريف والرسوم، ولكن دائرة التنفيذ اعتذرت قائلة بأنها لا تحجز على صندوق دائرة رسمية، وعليه أن يراجع رئيس الوزارة ليأمر بالدفع ـ وكان رئيس الوزارة آنئذ السيد حقي بك العظم ـ فكتب إليه المترجم معروضاً بيّن به الكيفية، ولكن المعروض أدهشه أكثر من القضية، وحسبه فرماناً سلطانيًّا في أول الأمر، ولما انتبه إليه ووعى ما فيه تبنى الأمر بنفسه، وهدد مجلس الأوقاف بأخذه تحت المحاكمة إذا لن ينزل عند حكم المحكمة، وتابع القضية حتى أخذ الحق مجراه، فكتب له المترجم كتاب شكر أخذت عنه صور، وأرسلت للمتاحف وللمولعين بالخطوط.
ثروته: جمع المرحوم من صنعته ثروة لا يستهان بها، وبالرغم من أنه كان كريم اليد سخيها، وكانت له حسنات صامتة، وعائلات مستورة يساعدها، فمع الأسف ضاعت ثروته أو سرقت، ولم يجد أقرباؤه منها شيئاً، ولم يتزوج، بل اقتدى بأبي العلاء.
أخلاقه: يقول أحد أصدقائه بأنه على تواضعه كان عظيم النفس، له أيادٍ عند الكثيرين من أصدقائه ومعارفه، وليس لأحد منهم عليه يد.
جاءه مرة شخص من حلب يستكتبه عنواناً لمجلة، فطلب أجرة ليرة عثمانية، ولم يتنازل عنها، ورأى الطالب أن هذه الأجرة كثيرة، فذهب إلى أحد أصدقائه يتوسطه، ولما جاء للمترجم عن لسان صديقه استقبله وأكرمه وكتب إليه عدة عناوين، ولم يأخذ أجرة ما، وكثيراً ما كان يقبض أجرة من شخص فيناولها حالاً لآخر مستحق، رحمه الله رحمة واسعة، وعوض الفن بأمثاله النوابغ الأريحيين.
* * *