منجك الجركسي
منجك الجركسي([1])
الأمير منجك الجركسي
(1596 ـ 1674م)
مجد تليد بناه آل (منجك) على السيف والأثل والعلم والأدب، تسلقت هذه الأسرة سلّم الأقدار إلى قمم البطولات، انحدر منها أُمراء كانوا فرسان الزمن، ولهم في ميدان الحروب والعلم والكرم شأن تاريخي فذ، على أن المجال لا يتسع لتحليل شخصيات الأسرة المنجكية في هذه المقدمة الوجيزة، وكفى أن مواكب الذكريات التاريخية خالدة بجلائل أعمالهم ومآثرهم.
أصل الأسرة: تنحدر أسرة (منجك) من أصل جركسي، وفدت إلى دمشق في القرن الهجري السابع، ومن أبرز أمرائها إبراهيم منجك الذي خلد أثاراً عمرانية لا زالت قائمة تشهد بفضله، منها جامع منجك الذي بناه سنة 1361م بميدان الحصى المعروف الآن بموقع الجزماتية بحي الميدان بدمشق.
مولده: هو الأمير منجك بن محمد بن منجك بن محمد باشا منجك اليوسفي الجركسي، ولد بدمشق سنة 1596م، نشأ بكنف أبيه مستقيئاً ظلال نعمه، وعني بتثقيفه، فقرأ العلوم على أعلام عصره، وانصرف إلى العلم ودراسة الأدب، فكان شاعراً بليغاً مجيداً، وقد عبث الزمن بمنظوماته فتفرقت أيدي سبأ في مجاميع متفرقة، إلى أن تولى المرحوم عبد القادر بن الشيخ عمر نبهان تصحيح ديوانه المخطوط بعد جمع ما عثر عليه من شعره، فطبع بدمشق سنة 1882م، ويقع الديوان في (157) صفحة من القياس الوسطي، وهو نادر في المكاتب العامة.
شعره: كان في عصره أمير الأدباء وأديب الأمراء، طاوع بيانه لسانه ولسانه بنانه، وجادت قريحته بأبدع القوافي فكانت كدر الطل في أعين الزهر، لقد كان هذا الأمير الشاعر بعيداً في مدائحه عن الزلفى والرياء، فمرت عليه عوامل مؤلمة دعته يندم على ما فرط منه فيمن مدحهم، فقال:
دعني من الشعر إن الشعر منقصة | بالمجد يختال بين البيض والأسل |
لا تدركنهُ وإن راقت جواهره | فالعقد للخود لا للفارس البطل |
أستغفر الله من شعر مدحت به | قوماً مديحهم من أعظم الزلل |
وأظهر الندم فيمن مدحه بمناسبة أخرى فقال:
إن تغزلت أو مدحت فإني | لست بالشاعر المطيل كلامي |
أنا من معشر همُ الناس لكن | لم يداروا الورى لأجل مرام |
كل من قد مدحته فهو دوني | وحبيب هويته فغلامي |
غزله: كان قوته الروحي الحب والجمال والخمرة والفن والغناء، ونزعات حياته الخاصة تنحصر في قوله:
فأحلى الحب ما كان افتضاحا | وأشهى الوصل ما كان اختلاسا |
وله في الغزل جولات رائعة كانت نتاج قريحته الحافلة برياض الأنس والأدب في قصره الريفي الواقع في وادي النيربين، ومن خمرياته قوله:
قصر الأمير بوادي النيربين سقى | رياك عني من الوسمي مدرار |
كم منزل فيك أيام هواجرها | أصائل ولياليهن أسحار |
حيث الشبيبة بكر في غضارتها | وللصبابة أحلاف وأنصار |
حيث الخمائل أفلاك بها طلعت | زهر من الزهر والندمان أقمار |
حيث المدامة رقّت في زجاجتها | يديرها فاتن الأجفان سحار |
ومنها:
يسقي وأسقيه من ثغر ومن قدح | إلى الصباح فمرباح ومخسار |
يضمنا بأعالي القصر ثوب هوى | زرت عليه من الأشواق أزرار |
أمتّع الطرف مني في محاسنه | وليس عندي من العذال أشعار |
حتى تيقّظ دهري بعدما غفلت | عني حوادثه والدهر غدار |
وكانت قرية (عربيل) القريبة من دمشق موطن أسراب البلابل والعنادل قرة عينه يجد جذله وابتهاجه، يقضي فيها أيام أنسه ولهوه، تحف به حورها وولدانها، فقال يصفها:
إن عربيل أطيب البلدان | منزل اللهو والهوى والتهاني |
لك يهدي نسيمها ورباها | نفحات القرنفل الريحان |
كم غدير ينساب فيها لجينا | أعشب الروض منه بالعقيان |
وإذا ورقها تغنت سحيرا | فوق عود أغنت عن العيدان |
لي فيها أيام أنس تقضت | غرراً في أسرة الأزمان |
واتكاء على أرائك سعد | تحت ظلي رفاهة وأمان |
ويعتبر الأمير شاعراً متفنناً بروحه وطبعه، وله منظومات كثيرة من موشحات وقدود.
كرمه: كان حاتمي المشرب في كرمه، لا يطيب له أكل الطعام لوحده، فكانت موائده العامرة تستقبل الضيوف وشريعته إسداء الخير والمعروف، لا يخشى تقلبات الدهر، وفي ذلك يقول:
ليس الطعام يطيب لي أكله | ما لم تكن عندي رجال تأكله |
وإذا الغني طغى عليه ماله | ما لم يكن يقتله بذلاً يقتله |
وفي معاني هذا البيت مآثر تنطلق على متن الدهر، وهي تمثله وتدل على ما في جوارحه وجوانحه من سمو الوحي:
والدهر إن وضع الكريم على الثرى | فكواهل النعم العوالي تحمله |
فواجعه: وفجعته الأقدار بوفاة والده، فتغير مجرى حياته، واكتسحته الأحزان والأشجان، فقال ينعي قصر الأمير الراحل:
من مبلغ قصر الأمير بأنه | فجعته فيمن قد بناه منون |
قد أسكنته بعدما وطئ السها | جدثاً فأمسى فيه وهو رهين |
لا أخصبت فيه الحدائق بعده | أبداً ولا مادت بهن غصون |
وجفا ملث الغاديات رسومه | وأزيل عنه الدمع وهو مصون |
ولئن خلا منه فبين جوانحي | ربع له طول المدى مسكون |
أقوى فغشت كل قصر وحشة | ونأى فكل قد عراه أنين |
يبلى الزمان وذكره متجدد | إن الزمان بفضله مشحون |
ولكل عز في سواه مذلة | ولكل صدر في المجالس دون |
فسقاه من سحب الفضائل صيب | يهمي على ذاك الضريح هتون |
والدهر الذي أترع الشاعر الأمير كؤوس الجاه والنشوة والغبطة فخاض رحاب الحياة في أروع معانيها ترى اليأس قد داهمه، فكان صابراً، يشكو دهره الغدار، فيقول:
خلقت على ريب الحوادث صابرا | وفي كل حال للمهيمن شكراً |
لئن كان خظي نائم السعي في الورى | فطرفي لم يبرح على المجد ساهراً |
وأهلي وإن كانوا صدور أولى النهى | فلا أشتهي في الدهر إلا المقابرا |
تسيء لي الأيام حتى كأنها | تراني من بعد التجارب صابرا |
وطوّح به اليأس والتشاؤم في الحياة، فانطوى على نفسه وترك الخمرة، وفي ذلك يقول:
لا تلمني على اجتنابي للكا | س رويداً فما علي ملام |
ما ترى الشيب فضة في عذاري | سبكته بنارها الأيام |
هجاؤه: كان الأمير الشاعر عف اللسان، ولكنه ثار لكرامته عندما تعرض له علي بن الأرنؤوط، وقد انتقص كرامة آل منجك، فقال يهجوه:
لعمري ليس بالأشعار فخري | ولكن بالقواضب والعوالي |
وأحساب لسان الدهر يتلو | مآثرها على سمع الليالي |
وبذل للنضار بغير منّ | على مقدار موجودي وحالي |
وآلي نستقي منها بحور | وأبحر من يفاخر لمع آل |
فقل لي يا ابن بنت أبي مداس | بعم أنت تفخر أم بخال |
وترفل في ثياب الكبر تعسا | لمثلك قد عريت من المعالي |
وترمي آل منجك بانتقاص | وهم أهل الفضائل والكمال |
أتنصدع السماء بنبح كلب | أم الشعرى العبوربه تبالي |
تسبُّ صحابة المختار حينا | وحيناً تدعي حبًّا لآل |
ويكرهك الجميع كما كرهنا | لأرجلنا العتيق من النعال |
أتنقد من أسرته سيوف | طبعن لضرب أعناق الرجال |
وفاته: كانت وفاته قبل اليوم الرابع من شهر جمادى الثانية سنة 1085ﻫ وأيلول سنة 1674م، ودفن في تربة أجداده في جامعهم المعروف بجامع منجك، وهكذا طوى الدهر أنصع صفحة في تاريخ أمراء آل منجك الذين تحلوا بسجايا الكرم والشهامة والنجدة، وزالت هذه السجايا بزوالهم، وقد اقتران أحد أفراد أسرة آل العجلاني الدمشقية بإحدى أميرات آل منجك وجاءتهم الثروة بالوراثة منهم.
* * *