مؤيد شمسي
مؤيد شمسي([1])
الشاعر الصوفي الفنان الشيخ مؤيد شمسي باشا (الحمصي)
وتناثرت ذرات صوته الجميل في أرجاء الكون الفسيح، وتعالى صداه إلى ملكوت السماء، أرهفت أرواح شعراء الصوفية السمع إلى شعر صوفي في قوافيه سحر البلاغة والبيان، وفي مغزاه أسرار الاتصال الإطلاقي، وحنت الأرواح شوقاً لمعرفته قائله، واختارت فترة قبيل الفجر لمناجاته، فأحاطت به إحاطة الهالة بالقمر، فإذا به قد انتهى من صلاة الليل وقد أفاض الله على قلبه السكينة والرضا، فخاطبته روح الشيخ أمين الجندي الشاعر الصوفي المشهور وسألته: أأنت الشاعر الصوفي الملهم المتفنن بصوتك الرخيم؟ ولعلك يا هذا من أسرة شمسي باشا الحمصية القديمة التي أنجبت أفذاذ العلماء والشعراء؟ فأجاب بتواضع: نعم، ونحن ننطق بإذن الله وبما توحيه لنا عواطف التقديس للخالق والحب الخالص لرسوله الأعظم ﷺ، فقالت: لله درك ما أبلغ وما أبدع براعة الاستهلال في قصيدتك هذه التي يتغزل بها عشاق الفن والطرب:
قسماً بصبح جبينكم لما بدا | حارت بطلعة حسنه الثقلان |
ما اشتقت طيبة والعقيق ورامة | إلا تحرك ساكني وجناني |
شوقاً لمن تخذ البراق مطية | ودنا لأشرف منزل ومكان |
أعطاه رب الخلق منه مهابة | عن خلقه قد نص في القرآن |
وسألته الأرواح عن هويته وعن سر تسمية أسرته (بشمسي باشا)، فأجاب: أنا مؤيد بن المرحوم نجم الدين بن الشيخ وحيد شمسي باشا، ولدت في حمص سنة (1898) ميلادية، أما اسم الأسرة فهو سر قديم تحتفظ به الأسرة، ولا مجال للإفصاح عنه، فقالت الأرواح: لا بأس عليك، نحن يسهل علينا الاتصال بأرواحالأقدمين من شعراء وعلماء هذه الأسرة، وقد شاقنا معرفة هذا السر المكنون.
وأردفت الأرواح تسأله عن العلماء الذين تلقى عليهم العربية، فأجاب بأنه أخذ البيان والبديع عن المرحوم العلامة الشيخ عبد القادر الخجة، وقواعد اللغة العربية عن العالم اللغوي المشهور المرحوم الشيخ فائق أتماز السباعي، والفرائض في الميراث الشرعي عن المرحوم محمد ياسين عبد السلام، ومصطلح الحديث والتفسير عن المرحوم الشيخ أحمد صافي، وهؤلاء من أعلام العلماء.
وانشرح صدر المسؤول فاسترسل ودمدم بالسر الصوفي، فهامت الأرواح وشطحت، واستأنس لها فقال: لِمَ هذا النجني، وغايتي المثالية قد تجلت في تشطيري أبيات ديك الجن في (الخمريات)؟! ألم تكن الخمرة في معناها ومغزاها من الأسرار الصوفية الاتصالية، وتقدير وصفها يعود للشاعر، فمن الشعراء من صرح بإطلاقها، ومنهم من قال بتقييدها؟! فاسمعي أيتها الأرواح، فهل في قولي ما تستنكره الأسماع والأذواق ومكارم الأخلاق؟!
وموسدين على الأكف خدودهم | قد هالهم خوف الإله وهالني |
خفضوا الرؤوس لربهم خوفاً وإذ | قد غالهم نوم الصباح وغالني |
ما زلت أسقيهم وأشرب فضلهم | من خمرة التوحيد لله الغني |
وبمدح طه قد شربت مدامة | حتى سكرت ونالهم ما نالني |
والخمر تعرف كيف تأخذ ثأرها | خمر المعاصي ليس ما أنا أجتني |
بالذكر أشرب خمرتي متمايلا | إني أملت إناءها فأمالني |
ألم يقل الشاعر الصوفي الشيخ أمين الجندي رحمه الله:
هات اسقني يا نديمي رائق البكر | فالروح تهواه |
ولا تلمني إذا ما غبت في سكري | فليس إلاه |
ألم يقل كذلك:
ومن خمرة التوحيد في حانة الصفا | سقانا بأكواب قديم مدامها |
ألم يقل الشاعر الصوفي الشيخ عمر اليافي رحمه الله:
كأن الحميا باحمرار خدودها | تدير على العشاق صهباء خمرة |
هي الراح والريحان والروح والشذا
| هي الروح والأرواح إن هي هبت |
ألم يقل ابن القارض رحمه الله:
وعندي منها نشوة قبل نشأتي | معي أبداً تبقى وإن بلي العظم |
عليك بها صرفاً وإن شئت مزجها | فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم |
أما أبو الخير الجندي الشاعر الصوفي فقد تغنى بالخمرة وتقيد بوصفها فاشتهاها من (لمى ذات الخمار)، فقال:
فاسقني صافي الحميا | من لمى ذات الخمار |
وها هو شاعر العاصي الأستاذ بدر الدين الحامد كان قوله في الخمرة تقييداً ظاهراً، فقد قال بصيغة الأمر في قصيدته الرائعة (أنا في سكرين):
اترع الكأس وطيبـ | ـها بعرف من لماك |
واسقنيها إن عيني | لن ترى شيئاً سواك |
وليقولوا ما أرادوا | أنا صب في هواك |
جنتي كأس الحميا | ونعيمي في رضاك |
فهـذا الشاعـر المحبـوب يريـد ارتشـاف الخمر مطيبة بعرف اللمى تطييباً لا مزجاً، وفي ذلك حد القناعة والرضا، فأجاد وأبدع في الوصف لما قال:
(واسقنيها إن عيني | لن ترى شيئاً سواك) |
أترى لو مزجت الخمرة باللمى مزجاً لا تطييباً، فأي وصف بليغ تجود به قريحة هذا الشاعر الخالد الذي جعله هذا الشطر في طليعة شعراء الصوفية؟!
وللشيخ مؤيد شمسي باشا شعر رائق في الغزل، فمن قوله:
وردية الخد مثل الليل طرّتها | كحيلة الطرف جلّ الله باريها |
لها عقارب في أصداغها حرسٌ | على الخدود من الألحاظ تؤذيها |
سألتها رشفة من ريق مبسمها | وقبلة من وريد الخد أبغيها |
قالت فلثم خدودي عزّ مطلبه | ألم تَهَبْ عقرباً باللسع يحميها |
فقلت ما حيلة المشتاق فيك إذا | ونفسه باللقا أضحى يمنيها |
قالت ليصبر فإن الحر شيمته | حمل النوائب إن أرخت مراسيها |
وله جولات شعرية رائعة في ميدان التشطير بمواضيع شتى، وقد شطر بعض أبيات لعنترة، منها قوله:
أُحبك يا ظلوم وأنت عندي | أعز الناس من قاصٍ ودان |
ولم أر موضعاً يحميك إلا | مكان الروح في جسد الجبان |
ولو أني أقول مكان روحي | فروحي للمخاوف والسنان |
وقد رمت الجبان حمى لأني | خشيت عليك بادرة الطعان |
وطلب منه في مجلس أدبي تشطير هذين البيتين، والأصل إلى الشاعر السيد فهمي الأتاسي بمدح الرسول الأعظم ﷺ فقال:
(يامن تشد مطايا الزائرين له) | وفي حماة يزول الهم والقلق |
(لو كان حبك ميداناً تجول به) | فرسان أهل الهوى من عهد ما خلقوا |
ويشتفي القلب من وجد ألم به | وتستنير بمرأى قبره الحدق |
وسابقت فيه قلبي حينما برزت | (خيل القلوب لأضحى لي به السبق) |
ويعتبر الشاعر الملهم من الأعلام التي أنجبتهم حمص.
* * *