جاري التحميل

ميخائيل عبود البحري

الأعلام

ميخائيل عبود البحري([1])

(1718 ـ 1803م)

للنوابغ آيات في مواهبهم، ينصفهم التاريخ بما خلفوه من سمو الآثار والمآثر، وهم في حظ الحياة بين مد وجزر، فمنهم من دانت له العبقرية والشهرة والثراء في حياته، ولما انصرمت أيامه انطفأ مجده واندرس ذكره، ومنهم من تنكر له الدهر في حياته فلما قضى أنصفه التاريخ بتخليد مواهبه، ومن العسير الخوض في تحليل هذه العوامل بين ذوي المواهب للتباين الواقع في نواحي الغموض، وشاعرنا الحمصي المجهول هو من الفريق الأول الذي تلألأ مجده الأدبي وبسم له الدهر، فأثرى في حياته وأنعم الله عليه بأولاد ثلاثة كانوا ليوثاً في ميدان الأدب والعلم والسياسة، وتفرغت عنهم ذرية تسنمت أسمى المناصب، ولم يبق من ذكرهم إلا ذرة من شعاع خامد مدفون في الثرى، لا يشع نوره الساطع إلا عند التنقيب حوله ليأخذ مكانه المخلد في الثريا، بعد أن تكاثفت على طمس أثارهم الأدبية عوامل شتّى لا سبيل إلى سردها الآن، وقد تحدث غيري بشكل مقتضب عن آل البحري، ورأيت أن أتوسع في ترجمة هذا الشاعر المجيد الذي تعتز حمص بعبقريته ومواهب أولاده، فاصطدمت بعقبات تاريخية تتعلق بحلقة حياته المبتورة، وتعقبت أثاره وراجعت كل ماله صلة بتاريخ معاصريه من الأمراءالشهابيين وتاريخ الحملة العسكرية المصرية التي اجتاحت سورية بقيادة إبراهيم باشا المصري، فوقفت على بعض ما أبتغيه من معلومات تاريخية متفرقة.

أصل الأسرة: لقد تحقق أن أسرة (البحري) قديمة العهد في حمص، وكانت قبلاً تدين بالمذهب الأرثوذكسي، وقد انتشرت فروعها في دمشق ومصر والشيلي، أما أسرة (البحري) المعروفة في فلسطين فإنها لا تمت لأسرة البحري الحمصية الأصل بصلة القربى.

مولده ونشأته: هو ميخائيل بن عبود البحري، ولد في حمص سنة 1718م، وتلقى علومه الابتدائية على شيوخ عصره، وتجلت مواهبه وميلة للعلم والأدب، فأكب على المطالعة والدراسة الخاصة، ورأى هذا الفتى أن بيئة بلده حمص الاجتماعية والعلمية لا تستوعب مدى مواهبه، واضطرته الأحوال أن يرحل مع والده إلى دمشق.

نزوحه: لقد استوطن دمشق بضع سنين، وعاشر في فجر نبوغه فضلاء العلماء والأدباء، وفي سنة 1770م اعتنق مذهب الروم الكاثوليك، وقد أدى لطائفته أجل الخدمات، فوهب إلى الكنيسة منزل العائلة في حمص، ويعود الفضل إلى وساطته في بناء كتدرائية لأفراد الطائفة المولودين في دمشق التي لم يكن أي بطريريك كاثوليكي يستطيع الدخول إليها منذ عام 1724م، وبفضل مساعيه لدى إبراهيم باشا بنيت كتدرائية يبرود على بقايا معبد جوبتر التاريخي، ولم يكن تشييد كنيسة درب الجنينة التي يفصلها باب صغير عن قصر ولده حنا بك البحري القديم، وتعيين أول أسقف ليمثل السلطة البطريركية لأول مرة في مصر إلا ثمرة جهود حنا بك الذي كانت له حظوة كبيرة لدى محمد علي باشا وولده القائد إبراهيم باشا.

خدمته في عكا: ترك الشاعر المترجم دمشق مع أبيه، وأقام في عكا حيث عكف على الدراسات الأدبية تحت إشراف العلامة الشيخ أحمد الشويكي مفتي عكا، وقد ذاع صيته واشتهر علمه وأدبه، فدخل ديوان الشيخ ظاهر العمر الزيداني حاكم أيالة عكا بالتماس وزيره إبراهيم الصباغ الكاثوليكي، فقربه الحاكم تقديراً لمواهبه، وكان زميله الصباغ يرشده ويتولى تهذيبه ويشد أزره، وبقي في ديوان عكا من سنة 1771م حتى سنة 1775م.

النكبة الأولى: لقد كان إبراهيم الصباغ مناظراً على أموال الحاكم الشيخ ظاهر العمر وموارده ونفقاته، فتخلف الحاكم عن دفع الأموال الأميرية المفروضة عليه، فحاصر حسن باشا قبودان أمير البحر عكا واحتلها عنوة، وقتل الشيخ ظاهر وهو من شيوخ القيسيين المناوئة الذي اغتصب الحكم في عكا، فكان ذلك في أوائل سنة 1776م، وضبط خزائنه واستصفى أمواله، وكان سبب هذه النكبة إبراهيم الصباغ الذي تلكأ بدفع الأموال المفروضة، وكان نصيبه الشنق في (صاري) مركب أمير البحر.

في خدمة الأمير الشهابي: وتشتت الشمل بعد هذه النكبة، فشد المترجم رحاله إلى الأمير يوسف الشهابي والتحق في خدمته وحاز على ثقته، واقتضى الأمر أن أوفدة الأمير بمهمة إلى أحمد باشا الجزار، وكان والياً على عكا، فاستبقاه في ديوانه للاستفادة من مواهبه.

النكبة الثانية: وعلى الرغم من أنه كان مخلصاً في عمله، فإن السفاح الجزار الذي كان دستوره في توطيد دعائم حكمه القتل والتعذيب على الشك والشبهة سجن صاحب هذه الترجمة مع فريق من زملائه، وبقي حتى سنة 1789م في سـجنه، وكـان نتـاج عبقريتـه ديوان شعر نظمه، وقد لاقى من صنوف العذاب ما لا يمكن وصفه، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن قطعت أذناه وأنفه، ومن زملائه في السجن الشاعر الناثر حنا بن ميخائيل عورا، فقد كان نصيبه قطع أذنيه وأنفه، ولم يجد شاعرنا بدًّا من الهرب إلى بيروت، وعاش في عزلة حتى وافاه الأجل.

ومن المحتمل أن يكون الطاغية الجزار قد أساء الظن بالمترجم ورفاقه، حتى إن الأمير يوسف الشهابي كان نصيبه القتل شنقاً مع قاضيه، وذلك سنة 1790م، وكان عمره أربعون سنة، ومدة ولايته ثماني عشرة سنة.

وذكر الأمير حيدر الشهابي في كتابه (حوادث الزمان) بعض أبيات من قصيدة ميخائيل البحري لما كان مسجوناً.

شعره: إن ديوان شعره الذي نظمه خلال نكبته وسجنه قد ضاع أكثره، وبقي منه بعض شذرات ننشرها ليعلم القراء علو مقامه في الأدب، فقد مدح العالم المعروف والشاعر المبدع أحمد البربير من بيروت بقوله:

لولا فضائل أحمد قصّت لنا

فيها وفي آياتها الأخبار

وكذاك لولا المعجزات فلم تكن

حجت لكعبة فضله الأقطار

فأجابه الشاعر البربير، وفي ذلك مما يدل على سمو أدب المادح والممدوح:

أرى الفاضل البحريّ أحيا بفضله

معالم أبيات درسن من الشعر

ولا غرو أن حاز الفنون بأسرها

على المثل المشهور حدث عن البحر

ومنها:

لقد آنس البحر يبرّي وأهله

فأسمعته عذري ولم أهده شعري

فإن لم يكن درًّا فذاك نقيصة

وإن كان درًّا كيف يهدي إلى البحر

ومن بديع شعره قوله يمدح أبا بكر آغا ميري زاده في حلب 1791م، وهي طويلة، ومطلعها:

ماست بقد كالغصون تميد

ورنت بطرف كالظباء تغيدُ

خود غزت منا القلوب لحاظها

فكأنها ضمن القلوب مهند

شعره الغنائي: كان هذا الشاعر الحمصي فناناً بروحه وطبعه، فقد حن إلى حمص وأهله وأحبائه، ومرت في خاطره أيامها الخاليات، وتذكر عهد صباه فحيا حمص بموشح يعد من غرر الشعر، وهذه بعض مقاطعه:

حي ذاك الحي يا ريح الصبا

وأهيل الحي عني والصبا

إن قلبي هام فيهم وصبا

فمتى يسمح دهري باللقا

يا بريقاً في الدياجي لمعا

هيج المحزون حتى أوجعا

يا سقى الله الحمى ثم رعى

يا رعى الله الحمى ثم سقا

حبذا حمص وهاتيك الربوع

وكرام أشرقوا مثل الشموع

يا لعمري هل إليها من رجوع

أين أين الربع ثم الملتقى

حبذا عيش مضى في ظلها

وزمان قد خلا مع أهلها

أضمر الشوق الغضا من أجلها

في فؤاد جف حتى احترقا

ومنه:

أحمد البربير من أنشأ الأدب

وعلوماً بين عجم وعرب

وحوى فخراً سما أسمى الرتب

قدره ثم السماكين ارتقى

وفاته: وفي سنة 1803م وافته المنية في بيروت، ودفن بمقبرة الروم الكاثوليك، وأعقب ثلاثة أولاد نجباء، وكلهم اشتهروا بعد أبيهم، وهم عبود وحنا وجرمانوس، ولكل من أولاده تاريخ مجيد في الأدب والسياسة، ولا بد لنا من الإشادة بفضائلهم.

*  *  *

 



([1])  (أ) (2/62 ـ 64).

الأعلام