ميخائيل مشاقة الدمشقي
ميخائيل مشاقة الدمشقي([1])
العالم والمؤلف والفنان الألمعي الدكتور ميخائيل مشاقة الدمشقي
لا استئثار بالاعتزاز والفخار في العبقرية الإقليمية، بل العبقرية مشاعة بين العرب، وهي موهبة خص الله بها ذلك العبقري لينعم المجتمع بمواهبه، فإن كان للقرية التي ولد فيها فضل؛ فالفضل أيضاً للمدينة التي ترعرع ونشأ وتثقف فيها، والبيئة الاجتماعية التي صهرته فصاغت عناصر العبقرية وأظهرتها للوجود في ميدان الحياة.
أصله ونشأته: ولد ميخائيل بن جرجس مشاقة في قرية (رشميا) بلبنان في يوم الخميس الموافق لعشرين من شهر آذار سنة 1800م و23 شوال سنة 1241ﻫ، وجده الأعلى يوسف بتراكي هو أحد أهل مدينة كورقو اليونانية، لقب بمشاقة لاتجاره بلحاء القنب والكتان بسفينة له كان يقصد بها القطر المصري وسواحل سوريا وخاصة طرابلس الشام التي استوطنها أخيراً وتزوج بها.
ولما ترعرع عاد والده إلى دير القمر، وهناك نشأ المترجم، واستفرغ والده المجهود في تهذيبه وتثقيفه، وتعلم القراءة والكتابة، وأحكم ست صناعات يدوية وهو لم يبلغ تمام الرابعة عشرة.
استيطانه دمشق: كانت دمشق وما زالت قرة عين اللبنانيين النازحين، فهم ينعمون بظلالها، فتتقد قرائحهم ويرونها مرتعاً خصباً لنضوج مواهبهم وميداناً واسعاً لاستثمار نبوغهم.
أم الفقيد دمشق سنة 1831م، واشتغل بالطب، وسبب ميله للطب أنه أصيب في شبابه بمرض أقعده خمسة أشهر متوالية في بيت أبيه بدير القمر، فتألم لذلك كثيراً، وأحب أن يتعلم صناعة الطب ليحارب المرض، فعكف على مطالعة الكتب الطبية العربية وغيرها، وكان يتفهم من كل طبيب أجنبي أنواع الأمراض والعلاجات في زمن كانت البلاد السورية واللبنانية محرومة من المدارس العالية، وقد أقامته الحكومة رئيساً للأطباء، ومع انهماكه بأعماله فقد حصل علم المنطق فبرع به وفاق، وكان في الوقت ذاته ترجماناً لقنصل دولة إنكلترا.
ولما زحفت الجيوش المصرية على سوريا ولبنان في عام 1831م لافتتاحها التحق الفقيد بمعسكر الجيش المصري بقتادة إبراهيم باشا الذي كان يحاصر مدينة عكا، ورافق الطبيب المشهور كلوت، فذهب مع الحملة إلى حمص ودمشق يطبب جراحها ويعتني بمن أصابه الطاعون الذي فتك بالحملة المصرية.
ولما تم الجلاء المصري عن البلاد العربية التحق سنة 1845م طالباً في المدرسة الطبية المعروفة بقصر العيني بالقاهرة، وواظب على دروسها ومستشفياتها بمساعدة خاله المرحوم بطرس عنحوري حتى نال منها لقب دكتور، وكان ذلك سنة 1846م، فعاد المترجم من مصر إلى دمشق ومارس مهنة الطب وأدى للإنسانية خدمات جلى.
الحالة الاجتماعية في عهده: لقد كان الفقيد من أبرز العناصر النبيلة، فعمل للإصلاح والسلام، تشهد له مواقفه الوطنية بإخلاصه لوطنه العربي الكبير في عهد اضطراب الفوضى، فضعف الأتراك في الإدارة، وقيام الأجانب بالدس والتفرقة بين الطوائف، كل ذلك كان من جملة العوامل التي أدت لوقوع حوادث سنة الستين المشهورة.
كان حبيباً لجميع الولاة والرؤساء والأعيان وأهل العلم والفضل من سائر الملل، ولما حضر فؤاد باشا الوزير التركي المفوض إلى دمشق للتحقيق في أسباب حوادث الستين، واتخاذ ما يقتضي من التدابير لإعادة الأمن إلى نصابه؛ أبلغه المترجم بجرأة نادرة بأن سياسة الدولة التركية الراهنة إذ ذاك هي عامل طبيعي لهذه الكارثة.
كانت بينه وبين المرحوم العلامة محمود حمزة مفتي دمشق مودة عظيمة ومذاكرات في علم المنطق والرياضيات، وكذلك بينه وبين الأمير عبد القادر الجزائري الذي حماه من اعتداء العامة في مذابح الستين بدمشق، وكان المترجم يشغل في ذلك العهد مركز نائب قنصل الولايات المتحدة.
علمه ومؤلفاته: لقد برع المترجم في علوم الطب والرياضيات والفلك والموسيقى وعلم الهيئة بقسميه النظري والعملي والجغرافيا بأقسامها، وله مؤلفات كثيرة في الدين والعلم، أهمها الرسالة في الألحان الموسيقية العربية، وهي بيت القصيد في هذا البحث الفني، والتحفة المشاقية في علم الحساب، والمعين على حساب الأيام والأشهر والسنين، وكتاب مشهد العيان المعروف باسم الجواب على اقتراح الأحباب، وكتاب في الدروز أرسل إلى ألمانيا، وهو مفقود من سوريا، وكتاب في آثار دمشق القديمة، وكتاب في تقاليد اليهود وعوائدهم، ورسالة في السعد والنحس والعين، وجواب لصديق، وكشف النقاب، وتبرئة المتهم، ورد المنشور، والبرهان على ضعف الإنسان، والرد على النصيري المرتد، والرد على ابن الحموية، وجغرافية دمشق ومتعلقاتها، ورسالة في مساحة المنحرفات، ورسالة في النسبة الهندسية سهل بها كثيراً من المسائل الجبرية، وغير ذلك عدة كتب فقدت.
فنه: لقد بلغ به النبوغ الفني أنه كان رحمه الله يحسن توقيع الألحان على كلذوات الأوتار، عوّد يده اليسرى أحكام العمل كاليمنى، فكان يعزف بها على العود، وأصبحت له بعد ذلك أحسن معين يوم فلج شطره الأيمن سنة 1870م، لم يترك أي أثر في الألحان، مما يدل على أنه كان عالماً لا ملحناً في الفن الموسيقي وفروعه.
أما الرسالة الشهابية في الألحان الموسيقية العربية التي وضعها فهي رسالة شيقة، جمع بها كل ما له علاقة في الفن الموسيقي العربي، وأهم أبحاثها حول تفسير الأنغام المسماة أبراجاً، وفي تقسيم الأرباع، وجدول حسابي في الفرق الكائن بين الأبراج والأرباع العربية، والأبراج والدقائق اليونانية، وفي قسمة الديوان إلى ديوانين متشاكلين، وفي افتراق الألحان عن بعضها واقتسامها إلى أنواع، وفي ترتيب آلات الموسيقى المعروف بالأوزان، وفي آلة العود وترتيبه، وفي شتى الآلات، وفي التصوير أو قلب العيان، وفي تعريف الألحان وكيفية إجرائها وما استعمل من الأرباع في الألحان، واعترف بأنه لم يكن مجدداً فيها، بل نقل عن غيره من الفنانين الأقدمين، وارتكر في الأخذ والجمع عن الفارابي وصفي الدين، وهذا أكبر دليل على سمو أخلاقه وابتعاده عن الأنانية والادعاء.
كان حسن الإنشاء، منسجم العبارات، يستحسن من البديع التورية، والاستخدام، وحسن التعليل، ويستظهر كثيراً من أشعار العرب والمولدين، ويعجب بحكم المتنبي.
أخلاقه وأوصافه: كان على جانب عظيم من حسن الخلق والخُلق، مهاباً وقوراً، طويل القامة، جسيماً، أحمر الخدين، أسود العينين، أنجل، واسع الجبهة، ذا سمرة زهيدة، حسن المظهر، اشتهر بالتواضع واللطف والفطنة والذكاء والنظر في العواقب، وشدة الرغبة في مجالسة العلماء والأباء، وإعلاء مجالس زائريه ولو كانوا من فقراء الناس، يسدي الخير إلى المجموع، كان يهوى المساجلات الأدبية والمناظرات العلمية، وقد وقعت بينه وبين البطريرك المرحوم مكسيموس مظلوم مناظرة جاهر المترجم على أثرها بانتمائه إلى مذهب الإنجيليين في نهاية سنة 1847م، وألف في هذه المناظرة رسالة خاصة.
مرضه ووفاته: كان الفقيد متكلاً على الله أيام صحته وسني بلواه، ألم به مرض الفالج، فكان صابراً في مرضه نحو ثماني عشرة سنة، ولما اشتدت وطأته إلى حد عز فيه العلاج كانت الفاجعة بوفاته في يوم الجمعة السادس من شهر تموز 1888م، ودفن بمقبرة أسرته في الباب الشرقي، وكانت جنازته حافلة بالمشيعين، وفاضت قرائح الشعراء برثائه وتعداد مآثره ومناقبه، منهم تلميذه الشاعر الحمصي البليغ المرحوم إبراهيم الحوراني حيث قال في قصيدة مطلعها:
لم يبق بعد غروبكم من مطلع | في شرقنا لسوى نجوم المدمع |
يا نور أهل العلم بعدك أظلمت | حلل العلوم فإنها لم تلمع |
يا رمس ميخائيل لو درت العلا | أمسيت محسود المحل الأرفع |
منها:
علمتني صبر الكرام من الصبا | واليوم بت ألوم من لم يجزع |
والصبر يأباه الكريم لحادث | من هوله شابت رؤوس الرضع |
والحزن ناف للعزاء كغصه | تنفي الخطاب عن الخطيب المصقع |
* * *