جاري التحميل

ميشيل الله ويردي

الأعلام

                                     ميشيل الله ويردي([1])

الشاعر الملهم والمتفنن العبقري الأستاذ ميشيل الله ويردي

من البديهي أن المؤرخ ومواضيع بحثه ليست ابتكار فكرة أو استحداث خيال، بل هي حقائق مجردة ينقلها للتاريخ بكل أمانة وصدق، وإني أتحدث الآن عن متفنن لامع أنجبته البلاد الشرقية، ألا وهو الأستاذ ميشيل الله ويردي، فهل تشهد عند ربك أيها القارئ بأن في سوريا قوماً لهم أذواق وقلوب؟ وما هي نسـبة الفهـم والإدراك في أدمغـة البعض فـي النواحي الفنية؟ فإن في الناس من لا يتردد في انتقاد المؤلف أو التنديد بما يكتب، غير مقدرين ما يعانيه في هذا السبيل، ولا شاعرين بما تكلفه من إعنات للذهن واعتصار للقريحة.

والتفسير لهذه الظاهرية هو أنه لابد للناقد إذا أراد أن يلقي حكمه عادلاً على عمل من الأعمال الفنية أن يدقق فيه ويراجعه ويتأمله، فإن أدركت مفاهيمه ما حواه أعطى حكمه فيه، وإن لم تستسغ قابلية مداركه سبر غوره فالأولى أن يلزم الصمت وكفى دون أن يكون ضرام التنديد عليه دسًّا وحقداً.

لا شيء كالحسد يقرض نفوس الشعراء والأدباء والفنانين، ومن الألم أنه لا يكاد يلمح ذكر الموهوب ويبهر ضوءه عيونهم حتى تبدأ وخزات العاجزين عن بلوغ مكانته بالدس والكيد عليه، وليت ندًّا يخاطب ندًّا، فالتاريخ مليء بالعظماء والمؤلفين الذين خانهم الحظ، فإن صدقت تقديرات العظماء وأصابت الهدف، وأخطأت تقديرات المنددين بهم؛ فهم ليسوا بمسؤولين عن إدراك غاياتهم وما أصابهم من فشل، وكثيرون هم الذين اصطدموا بالعقبات في مطلع حياتهم، فإن مضت بهم الحياة كما لا يشتهون فسيأتي اليوم الذي يطؤون بأقدامهم العراقيل ويتخطونها إلى المجد، فإن كتبت لهم الحياة قرت أعينهم بتمجيدهم، وإن قضوا نحبهم دون بلوغ الأماني والأرب فالتاريخ وحده ينصفهم ويخلد أسماءهم.

لقد صدق من قال: (لا كرامة لموهوب في وطنه)، فهذا القول ينطبق فعلاً على النابغة الأستاذ ميشيل الله ويردي الذي لا يقدر المجتمع فنه حق قدره، أو بالأحرى لم تخلق بعد العقول التي تستطيع فهم أسرار نفائس مؤلفه (فلسفة الموسيقى الشرقية)، فإن لقي من بعض الشخصيات معاكسات أو عدم اكتراث فسيأتي اليومالذي يطأطئ الدهر نفسه رأسه خاشعاً أمام عبقرية هذا المؤلف، وتنقلب عقول البشر فيقتني كل فرد نسخة من هذا الكتاب الفريد كما يقتني الأفراد الكتب المقدسة.

ورب سائل يقول: من هو ميشيل الله ويردي؟ وما هي العناصر التي تتكون منها عظمة هذا النابغة الفذ؟ فأحببت أن أقتصر ترجمته بما يلي:

نشأته ودراسته: هو الأستاذ ميشيل بن المرحوم خليل الله ويردي، تنحدر هذه الأسرة من أصل تركي واستوطنت دمشق منذ أربع مئة سنة، ولد سنة 1904م بدمشق، ونشأ في أسرة جمعت بين العلم والأدب والوجاهة والثراء، وقام على تهذيبه وتثقيفه والده منذ نعومة أظفاره، فتلقى في المدارس الأرثوذكسية الذي كان المرحوم والده مديراً لها تحصيله، وظهرت مواهبه وتفوق على أقرانه في مراحل دراسته، فأكمل دراسته على معلمين اختصاصيين، وأخذ من أبيه العالم المتضلع قواعد اللغة العربية، وألم باللغتين الفرنسية والإنكليزية.

دراسته الفنية ومؤلفاته: إذا كانت البيئة هي التي تلون العبقريات بألوانها الزاهية فلا شك أن بيئة الأستاذ المترجم الاجتماعية والثقافية كانت زاخرة بالعلم والفضائل، فأنضجت فنه الرائق وشاعريته الخصبة الزاخرة بمعاني الوحي والإلهام، هذه الظواهر مجتمعة قد فتحت أمام عينيه آفاقاً جديدة في ميدان التأليف، لم يك ناقلاً أو مقتبساً، وإنما كان مبتكراً مجدداً، ومن مؤلفاته القيمة: بدائع العروض، العروبة والسلام، الموسيقى في بناء السلام، الإنسانية نحو الكمال، وله ديوان شعر سماه (زهر الربا) حوى قصائد متنوعة كاسمه الباهر.

زار الأستاذ البلاد الشرقية لأسباب علمية وفنية، فأنتجت قريحته الجبارة سفر علمي فني هو (فلسفة الموسيقى الشرقية)، وقد قرظه المستشرق البريطاني العلامة الدكتور هنري جورج فارمر بأنه آية المؤلفات العربية من نوعه بلا منازع، عالج فيه المؤلف الألمعي فلسفة الموسيقى العربية، فأظهر للوجود فضلها، وأثبت تفوقها ومدى استيعابها للأصوات الطبيعية المختلفة، فرفع لمعالم الفن الشرقي أعلاماً باسقة.

ومن أبرز مواهبه التي تدل على ذكاء نادر وقريحة وقادة أنه تلقى دراسته الفنية على نفسه، فكان يلتمس المطالعة والنظم والتأليف في ساعات العزلة والتأمل في بيت فسيح نضير، وهو مغرم بالمساجلات والمناقشات، ومغرم بأن تكون له الغلبة دائماً.

أما قوته في نظم الشعر، فقد انقادت ليراعه القوافي فكانت طوع بنانه، وكفاه شرفاً وفضلاً وشكراً ما حوته خريدته الفريدة (وحي البردة) التي مدح بها الرسول الأعظم ﷺ من آيات البيان والبديع، تلك القصيدة التي ما قرأها مسلم إلا وسالت عبراته خشوعاً وهياماً، ومطلعها:

أنوار هادي الورى في كعبة الحرم

فاضت على ذكر جيران بذي سلم

ومنها:

يا أيها المصطفى الميمون طالعه

قد اطلع الله منك النور للظلم

ومنها:

أقول للمصطفى أعظم بما ابتدعت

آيات برك من خير ومن نعم

لقد تجلت في روح ناظمها أنبل أريحية تختلج في نفس عربي فياضة بشعوره الصادق نحو نبي العرب، فكانت للعاشقين برداً وسلاماً، وللبائسين عطفاً وحناناً، ولليائسين عزًّا وسلواناً، وللمثقفين عبرة ونبراساً، لا فض فوه بغير اللثم والقبل.

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/243 ـ 244).

الأعلام