جاري التحميل

نجيب زين الدين

الأعلام

نجيب زين الدين([1])
المطرب المبدع الذي وهب حياته للفن
وأشجى البلبل بصوته فارتمى في حضنه

السيد نجيب زين الدين هو البلبل الغريد والمنشد المطرب والمغني الساحر بصوته الشجي الرخيم. ولد في حمص سنة 1881 ميلادية، ونشأ في حجر والده المرحوم الشاعر الفنان الشيخ مصطفى زين الدين، وتلقى عليه وعلى علماء زمانه علوم اللغة العربية، فكان عالماً بقواعدها، ولما شبّ اشتغل بالتجارة فكان ميسور الحال، وقبل الحرب العالمية الأولى زار مصر بدعوة من صديقه المرحوم جودت الجندي ـ وهو شقيق المؤلف ـ فاحتفى به معارفه وأكرموه، فطابت له الإقامة فيها مدة طويلة، وقد تعرف خلالها على أكابر الشخصيات والمتفننين وارتشف من مناهل الفن ما يهواه ذوقه السليم، ثم عاد إلى وطنه، ولما أعلنت الحرب العامة التحق بالجندية فاستخدم في الوظائف العسكرية الخفيفة بعيداً عن ميادين القتال ضنًّا على حياة هذا الموهوب الذي يعتبر من تحف الدهر، وقد رأى أمراء الجيش وقواده في شخصه غايتهم المنشودة وبقربه منهم أبلغ العزاء والسلوان في غربتهم، فكان نديمهم ومطربهم، فكم أشجاهم وأبكاهم بصوته الرخيم، ولما وضعت الحرب أوزارها عاد إلى حمص، فكانت أحواله المادية حسنة مما وفّره من ثمن إعاشته التي كان يبيعها بأسعار غالية، ومن العطايا التي كان يغدقها عليه المعجبون بفنه.

فنه وصفاته:ورث المرحوم نجيب زين الدين حلاوة الصوت عن المرحوم والده، وهذه هبة إلهية عز نظيرها، فكان في حسن الصوت وإجادة المغنى آية باهرة، فإذا غنى ألهب عواطف السامعين وجعلهم سكارى غنائه وصوته الذي فاق بسحره وشجنه حد الوصف، وتراه إذا خيمت على مشاعره نشوة التجلي في ساعة الطرب قلت: هذا ملك في صورة إنسان، لا يفتر عن المغنى حتى مطلع الفجر، يجاوب من يكرر الطلب عليه من السامعين، ويجيد في الطرب إذا رأى تقدير الناس لصوته وألحانه، ويتعكر صفوه إذا لم يجد التشجيع والإصغاء ويتوقف عن الإنشاد، وهيهات أن يرضى.

كان رحمـه الله ذا ذاكـرة قويـة، حافظاً مـن الأدوار والقصائد والموشحات القديمة ما يشق على غيره حفظ مثلها، وكان يغني الموشحات والقصائد من تلحينه، ويتلاعب في تلاحين غيره فيضفي عليها روعة ورقة، وما زال الناس يتذكرون آيات إبداعه إذا غنى (يا ليل الصب متى غده)، وكيف كانت ألحانه الإضافية ـ وهي من ابتكاره ـ تفعل بالألباب فعل بنات الدنان.

كان رحمه يعزف على العود بحالة يستطيع معها التعبير عن شعوره وإخراج ألحانه وإطراب السامعين، ومن ميزاته الفنية أنه كان ينشد من المقامات العالية ويتجول في ميادين الأنغام الجوابية لدرجة بلغ بها حد الإعجاز، وكان يغني أكثر الدوار بدون مساعد، وبهذا لا يستطيع أي مغن أن يجاريه.

كان هادئاً لا يعرف حماقة ولا طيشاً، بشوش الوجه، ترمقه عيون المعجبين بفنه فيتيه دلالاً عليهم، وهذه الصفات أعانته على تحديد وضعه ومصيره أيام الحرب، فنجى من أخطار الحرب وأهمها الموت جوعاً.

علاقاته الفنية: لما حضر الشيخ السيد الصفتي المصري مع جوقته إلى حمص في عام 1921م لازمه وتلقى عليه وعلى معاونه الشيخ عوض الجرجاوي بعض الموشحات وأوزانها، ثم حضر إلى حمص المرحوم محمد عابدون أحد شيوخالفن في حلب، فتلقى بعض الموشحات القديمة وأوزانها الصحيحة.

كان يطرب لألحان المرحوم الفنان محيي الدين بعيون، ويحفظ له قصائده وينشدها، ولما انتشرت أدوار المرحوم الشيخ سيد درويش وقف أمامها مذهولاً من روعة ألحانها، ولم يهو حفظها في بادئ الأمر لتعلقه بالمغنى القديم، ثم رأى ميل الناس لسماعها فأكب على حفظها، فكان إذا غنى على عوده دور (أنا هويت وانتهيت) أو غيره من الأدوار فتن الناس بروعة صوته وجودة إلقائه، كما قال الشاعر:

رعى الله من حمص العدية شادنا

طروباً إذا غنى عن العود لي يغني

فلا تحسبوا أني بكيت لشدوه

مدامع أجرتها المحاجر عن حزن

ولكن هو الدر الذي اجتاز مسمعي

أذابته نار الوجد فانهل من جفني

ومن الطريف أن المرحوم الشيخ مصطفى زين الدين والد الفقيد كان يبارز ويعارض قصائد المرحوم الشاعر الهلالي المشهور، وقد افترقا أحياء وعلى خصام ونزاع مستمرين، وتوفي الهلالي قبله، ولم يعرض عنه بسبب هذه المعارضة، مع أن الأب والابن رحمهما الله كانا ينشدان موشحات الهلالي ويستعذب الناس سماعها، ولهما الفضل بنشرها والترحم على الهلالي ناظمها، فهل يكون لصوتهما وإبداعهما في إنشاد موشحاته الأثر الحميد والشفاعة في روح الهلالي فيرضى ويصفو قلبه عليهما في قبره.

وفاته: لقد أصاب الفقيد نزلة صدرية قوية، فجرعته كأس المنية وذلك في اليوم الثاني والعشرين من شهر كانون الثاني 1946م، وقد وصف شاعر العاصي الكبير الأستاذ بدر الدين الحامد صديقه الفنان بقصيدة تعتبر من غرر الشعر حيث قال:

أطبق الجفن راضياً مطمئنا

عندليب على ذرى الفن غنى

يا حليف السهاد تلك الأغاني

غمرتنا لحناً يلذ ومعنى

الندامى على الكؤوس حيارى

أين منهم سجع العنادل وهنا

ناد يا ليل تملأ الليل وحيا

يترامى على المسامع لحنا

ومنها:

كنت لي يا نجيب روحاً وفنا

أنت أيقظت شاعري فتغنّى

في سجون الدجى هزارات تشدو

ضجت الرض والسماوات منا

ولنا الكأس والظباء وشدو

منك يذكي الهوى عفا الله عنا

لو سألنا الميماس أين هوانا

(يوم كنا ولا تسل كيف كنا)

لأجاب الميماس كل جديد

في ممر الزمان يبلى ويفنى

شعل نحن في الشباب أضأنا

ساحة الحب فترة وانطفأنا

ومنها:

لست أنسى ليل (الخراب) وكنا

لؤلؤ العقد بالصفاء انتظمنا

أشرق الفجر يا نجيب وهذا

بلبل الروض مد جيداً وحنا

من أعالي الغصون ألقى جناحيـ

ـه وأصغى إليك عيناً وأذناً

بيدي قمت أمسح الطل عنه

وأواسيه وهو مثلي معنى

قد سحرت الحمام صوتاً وفنا

(أيكون الحمام أطرب منا)

أسفي يا نجيب أصبحت في القبر

وبدلت أنسنا بك حزنا

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/84 ـ 85).

الأعلام