نجيب السراج الحموي
نجيب السراج الحموي([1])
البلبل المتفنن الموهوب الأستاذ نجيب السراج الحموي
هو الأستاذ نجيب بن المرحوم أحمد بن نجيب السراج، وتكنت هذه العائلة بالسراج لمجيئها من بلدة سروج في تركيا. تنحدر هذه الأسرة من أصل تركي واستوطنت مدينة حماة منذ ثلاث مئة سنة. ولد هذا الفنان في حماة سنة 1923 ميلادية، وعندما بلغ من العمر سنتين انتقل مع والده إلى دمشق فأقام فيها ثماني سنوات، وتلقى دروسه في مدرسة أهلية ابتدائية، ثم انتقل مع والده إلى بيروت وبقي فيها مدة عامين التحق خلالها في مدرسة حكومية، وبعدها عاد مع والده إلى حماة، ولما بلغ الثانية عشرة من عمره بدأ يشعر بميل شديد نحو الموسيقى، وكان كلما سمع غناء في الشارع أو في بيت استحوذ على مشاعره ووقف يستمع بنشوة فطرية جامحة، وكان يتمنى لو يهبه الله صوتاً جميلاً ليشبع به رغبته وميله، ومشى الزمن وهذا الحس يزداد في نفسه، فإذا به يشعر أنه يستطيع أن يغني، وغنى لنفسه وبين رفاقه، وشجعه بعض الأصدقاء الذين توسموا بمواهبه الفنية خيراً أن يذهب إلى دمشق ليغني في أول محطة إذاعة أسست سنة 1945م، وكانت تلك الإذاعة عبارة عن مدرسة تجريبية تعلم فيها ما كان ينقصه من معلومات فنية.
دراسته الفنية: درس علم العود على رجل كفيف البصر بحماة، وعلم النوطة عن الفنان المرحوم الشهيد طارق مدحت، وتمرن فأصبح بجده وذكائه يلحن قطعاته الغنائية وينوطها بنفسه، وسجل أكثرها في محطة الإذاعة العربية وفيمحطة إذاعة لندن.
ألحانه: لقد تمنى هذا الفنان على ربه أن يكون ذا صوت جميل، فحقق أمنيته وجعله عندليباً يشـدو فيشـجي القلـوب، أما الطبيعـة فقـد سنحت عليه فحبته بالمؤهلات المثالية، فقد زخرت روحه بالمشاعر المرهفة والذوق الفني، فجاءت ألحانه منسجمة فتانة في روعتها ومتانتها الفنية، فقد لحن أكثر من ستين قطعة غنائية، أبرزها: (بلقيس)، وهي عبارة عن قطعة تصويرية رائعة من نغمة العجم كرد، وقصيدة (البردة) للإمام البوصيري، وهي من نغمة الحجاز، وسجلها في الإذاعة، و(طلعت ليلى مع الفجر صباحاً)، وهي قصيدة من نظم الأستاذ يوسف الخطيب من نغمة النهوند، و(المساء) وهي قطعة من نظم الأستاذ عارف تامر، مطلعها:
أيها الشادي على الشا | طئ أقبل نحونا |
واسمع الموج أغاريـ | ـداً وذكرى ومنى |
وهي من نغمة الفرحفزا |
وموشح حديث، وهو من نغمة الراست:
شفت بالروح ثناياها | جنت بالكأس فأدماها |
وله ألحان تغنيها المطربة ماري جبران، منها قطعة (يا زمان) وقطعة (الغريب)، ويغني أكثر المطربات والمطربين من ألحانه المسجلة ومن ألحانه الكثيرة، تلك الألحان الشعبية الرائعة، أذكر أشهرها: يا بيضة يا ست الملاح، كرمال عيونك، ويغني أيضاً ألحان شعبية من التلحين القديم: (فوق النخل فوق يا سليمي).
ودعي المترجم إلى شرق الأردن لحضور حفلات تتويج الملك حسين بن عبد الله، فنال منه الاستحسان والإعجاب، وطاف المدن السورية لأشغال فنية، وقام بتمثيل فيلم سينمائي سوري في مدينة حلب باسم (عابر سبيل) من قبل شركة عرفان وجارلق.
أوصافه وأطواره: لقد أراد الله السعادة لهذا الفنان فحباه بالصوت الجميل، وهي موهبة عز نظيرها، فالصوت الحسن نعمة تتمتع بها الأرواح، وهي غداء للقلوب وسلوى للنفس، أما سماياه الفاضلة، فهي بين تقدير المعجبين ونقد المنددين، ولو سبر المنددون غور إحساس هذا الفنان ومدى ما يختلج في روحه من آلام نفسانية لتراجعوا عن زعمهم وعذروه، إذ لا يدرك هذه الحال إلا من عانى هذا الشعور، ومن تأمل في غنائه ولحنه لقطعة (بلقيس) يدرك أن لهذا اللحن علاقة صميمة بمراحل حياته، فقد عبرت مقاطعها ونبرات صوته الحادة الرخيمة وتنهداته الشجية عن أسرار مكنونة في صدره لا يطفئ قبسها ماء العاصي والفرات، وإذا نظرت إلى وجهه تجلت في قسماته عزة النفس والتواضع والاعتداد بالكرامة، وهي شمائل ورثها عن جد أمه المرحوم الشاعر الهلالي الحموي الخالد.
أما الفنانون والسامعون فبينهم صلة متبادلة من العواطف تتصل بأعماق الأرواح، فإذا كان بعض الفنانين قد وصموا بالشذوذ، وافترضناهم كذلك؛ فهل تنزه ناقدوهم عن الشذوذ أيضاً؟! ومن يدري؟! إذ ربما كان الناقدون أنفسهم السبب في خلق عوامله في نفوس الفنانين، وعليهم تلقى تبعاته المريرة، فأمنية الفنان الوحيدة هي أن تلقى فنونه التقدير والإعجابـ وأن يؤخذ بلسان العاطفة فلا يساق إلى التمتع بروائع صوته وفنه بشكل يسيء إلى كرامته، وكم من فنان كبت عواطفه وكتم شعوره وآلامه لهذه المظاهر، فانطبعت على أسارير محياه ما يعير عنه بالشذوذ، وليرحم الجمهور أهل الفن فهم ذوو كرامات وميزات طبيعية جديـرة بكـل عطـف وتقدير، فكفاهم جور الدهر بالأسى والحرمان إلا ما ندر منهم، والنادر لا حكم له.
* * *