جاري التحميل

ندرة الحداد الحمصي

الأعلام

ندرة الحداد الحمصي([1])
شاعر العاصي الحساس المرحوم ندرة الحداد الحمصي

أصله ونشأته: ولد المرحوم ندرة حداد بحمص في 30 تشرين الأول سنة 1881م، وهو من أسرة حمصية قديمة، تلقى علومه في مدرسة الطائفة الابتدائية بحمص، ظهرت عليه آيات النبل والذكاء والوطنية منذ صغره، فتوسم الجميع بمستقبله خيراً، وفي 26 كانون الأول سنة 1897م هاجر إلى أمريكا الشمالية، وأقام في مدينة نيويورك يتعاطى التجارة، ثم انقاد بشعوره ومواهبه إلى ميدان الأدب والصحافة، فكان يساعد شقيقه الأديب اللوذعي الأستاذ عبد المسيح الحداد في تحرير السائح الغراء، ثم توظف في بنك لبنان الوطني، فسدّ عليه هذا العمل طرق إلهامه، ولذلك قلّ شعره حتى أصبحت قصائده تستحق أن تدعى بالحوليات.

ومن الذكريات أن الفقيد كان استقبل المؤلف عند سفره إلى الولايات المتحدة في سنة 1921م، وبين أسرتي الجندي والحداد صلات ودية وراثية.

شعره: لقد كان رحمه الله عظيماً في إحساسه وعاطفته ووطنيته، وهو من أعلام الشعراء الذين أنجبتهم حمص وتعتز بمواهبه ونبوغه وما أسداه من خدمات كبرى لوطنه ولغته، لقد لقب بشاعر العاصي لأن شعره في طلاوته ورقته ينساب في النفوس انسياب مياه العاصي العذبة بين الرياض والمروج الغناء في أكناف حمص مسقط رأس هذا الشاعر، فيسقيها وينعشها ويترك فيها آثار جماله، فتزهر براعم أشجارها وتتفتح أزاهير رياضها.

كان رحمه الله صوفيًّا في زهده وقناعته، ومن شعره الجيد في هذا المعنى قوله:

إذا ما رمت من دنياك شيئا

يُسرك فالمسرّ هو القليل

وكن بقليل ما جادت قنوعا

فليس إلى الذي ترجو وصول

كشمس الأفق نلسمها خيوطا

وإن رمنا المزيد فلا سبيل

ولما بلغه نعي أستاذه الشاعر العبقري المرحوم داود قسطنطين الخوري ثارت كوامن ذكرياته وعهد صبوته، فبكاه وأبَّنه بمرثيته الرائعة:

لملمت بالذكرى لعهد هاني

ما بعثرته يد الزمان الجاني

نتفاً من الأوراق مثلن الهوى

بنعيمه الخالي من الأشجان

فإذا أمامي صفحة دمعت لها

عينا غريب الأهل والأوطان

وإذا الصبا الشادي يعيد لمسمعي

عهد الرفاق بأعذب الألحان

فنسيت ما ألقى ورب معذب

بالهم يقضي الهم بالنسيان

وعجبت من حالي وقد شمت الصبا

والشيب بعد اليأس يلتقيان

يا حمص ما أحلى زمانك إنه

قد كان لي والله خير زمان

إني هجرتك هجر طفل لا يعي

ما الأم أو ما الفرق في الأحضان

بدلت صافية الأديم بضدها

وحمائم الميماس بالعقبان

فكأن رسمك إذ يبين لمقلتي

رسم الحبيبة في يد الولهان

لو جاد دهري بالرجوع لكان لي

بالقرب من عاصيك عمر ثان

في ذمة الرحمن أبطال مضوا

لجوار ربهم بكل أمان

كانوا كما شاء العلى من جنده

ومسيرهم في طاعة الرحمن

العلم من إيمانهم وكفى به

ديناً يصال به على الأديان

جادوا فشادوا إنما من فقرهم

والجود فقراً غاية الإحسان

ومضوا كراماً لا يفيهم حقهم

شكران قلب أو مديح لسان

واليوم بالذكرى تكرم منهم

أحد الهداة وكل هاد بان

أودى الردى بمهذب الأبناء بـالشْـ

ـشَادي من الشعراء بالفنان

بمثل الأيام بعد مرورها

عبراً لباغ في الحياة وجان

بالعالم المعطي وكم من عالم

لا نفع منه لطالب العرفان

داود لا أبكي على ماض لنا

قد كنت فيه بهجة الخلان

لكنني أبكي حياة أصبحت

بعد التشتت بؤرة الأحزان

فأنا المقيم بغربة لا تنتهي

أيامها إلا مع الأكفان

وفاته: لقد تعذر تحديد يوم وفاته مع قرب العهد، وعدت إلى الذكرى، فرأيت أن الشعراء الثلاثة وهم نسيب عريضة وبدري فركوح وشاعرنا المترجم رحمهم الله كانوا اشتركوا بحفلة أقامتها الجالية الحمصية في نيويورك لتأبين أستاذهم المرحوم داود قسطنطين الخوري، وقد أبنوه ورثوه وبكوه ولحقوا به تباعاً إلى دار الخلود، ومن ذلك يتضح أن الأجل وافاه في غضون سنة 1940 ـ 1941م، والله أعلم.

*  *  *

 



([1])  (أ) (2/109 ـ 110).

الأعلام