جاري التحميل

نسيب عريضة

الأعلام

نسيب عريضة([1])
شاعر البؤس والكرامة العبقري المرحوم نسيب عريضة الحمصي

إذا أراد الله السعادة لإنسان جعل ألسنة البشر تلهج باسمه ومحامد ذكره وجليل صفاته وعظيم مواهبه، وهو شاعر مسهد القلب في أمانيه، معذب الروح في شعوره وحواسه، سابق الشهب بشهرته، ومات قبل أن يبلغ منتهى آماله وأحلامه، عبس الدهر بوجهه فمضت به الحياة في صراع وبؤس، فلم يستسلم للألم والقنوط، إنه من أولئك الشعراء التعساء الذين اعتاد الدهر أن يستهدفهم في محنه وآلامه منذ يبصرون النور حتى اليوم الذي يفارقون فيه الحياة آسفين، ولعمري فالحظ في الحياة شررٌ من نجوم السعادة وبرق يومض ثم يختفي، هو شاعر أمة أيقظ شعورها الوطني بسحر بيانه، فاح أريجه العبق الذكي فعطر الأجواء، فإذا كان الشعراء والأدباء هم الكواكب الساطعة في آفاق الأمم، فقد كان فقيدنا شاعر الوحي والإلهام، شاعر الوطنية والكرامة، البدر اللامع في ميدان النهضات الأدبية والسياسية، وسيظل اسمه ومآثره خالدة خلود شعره على قمم الدهر.

لقد درست تاريخ حياته فكان مليئاً بالمآسي والفواجع، نكبه الدهر في كل شيء ولم يستلب منه تواضعه ـ وكان سر عظمته ـ ولا كرامته ـ وهي سر حياته المجيدة ـ، لا أدري كيف أصف هذا الشاعر العبقري في نبوغه ومواهبه، وهو شاعر فذ لا يرى في كل ما نظمه شيئاً يذكر، وأديب ألمعي لا يودّ أن يقرأ الناس ما كتبه، هذا ما ذكره عن نفسه، ولكن الدهر الذي أرهقه بالعذاب والمناوأة يريد أن يخط تاريخه تخليداً لعبقريته ومواهبه، وهذه سيرة حياته، وهي تمزّق القلوب أسًىوحزناً وحرقة بأن يكون مدادها دم الأجفان.

أصله ونشأته: بزغ نجم الفقيد المرحوم نسيب بن أسعد عريضة في مدينة حمص سنة 1888م، وأسرته عريقة القدم، اشتهرت بالنبل والمحامد، درس في المدرسة الأرثوذكسية واكتسب من مواهب الأستاذ النابغة المرحوم داود قسطنطينالخوري، هاجر إلى أمريكا الشمالية سنة 1905م، وزاول الأدب والنظم فأتى بمعجزات من قوافي الشعر الرفيع الخالد، كان رئيساً لتحرير مجلتي الفنون ومرآة الغرب، ودبّج يراعه فيهما ما جادت به قريحته الوقادة من منظومات ومحاضرات أدبية تشهد له بالنبوغ وأنه في طليعة الشعراء والناثرين.

شعره: تتجلى في روح شعره براعة الاختيار وروعة الخيال، انبثقت شاعريته عن معين لا ينضب من البيان والبديع، فكان في حسن تصويره الوقائع شاعراً ملهماً يهز النفوس ويوقظ الحواس والمشاعر.

كان رحمه الله مثاليًّا في عزة نفسه وشممه، لا يحتمل منة مخلوق، ولم يتخذ الشعر وسيلة لتحقيق أمانيه، فإذا مدح إنساناً كان صادقاً في عقيدة مدحه، لقد تجلت عبقريته بإحساس غريب في إسداء الخير للناس، وكانت نفسه الوثابة تتغلب على آلامه النفسانية فلم يفقد سكينة صبره ولا فارقته فكاهته، فقد روض نفسه على الرضا بالأمر الواقع، وكانت عاطفته المتوهجة ميزة ظاهرة نسقتها عبقريته الشعرية في إطار من الخيال الرفيع.

وكانت طريقة قرضه الشعر وروعة مغزاها ومعناها عاملاً في ظهور عظمته، فإذا تجاوبت اللمحات الفكرية في خياله اختار منها أعذب المعاني والقوافي تأثيراً على النفوس، فترى في كل شطر من قصائده روائع الإلهام والإبداع في الوصف، يقذفها كالدر النفيس فيتغلغل مغزاها ومعناها في أعماق الأرواح.

أوصافه: لقد طغت آية النبل على شمائله الفريدة، وسخت عليه الطبيعة فحبته بالوقار المطبوع والمهابة الأصيلة، لا أثر لمظاهر الاستعلاء في نفسه، جمع إلى حدة الذهن وذكاء القريحة رباطة الجأش وسعة الصدر، إلى وسامة الوجه وإشراق الجبين كالبدر المنير، له عينان نضاختان بالسحر والذكاء، وفيهما عبقرية لا يستطاع سبر غورها وترجمتها بالألفاظ.

وفاته: لقد تعذر على أقرب الناس إلى الفقيد تحديد تاريخ وفاته، والمعروف أنه انتقل إلى رحمة ربه وهو في الثانية والخمسين من عمره، فتكون وفاته وقعت في سنة 1940م؛ لأنه لحق بأستاذه المرحوم داود قسطنطين الخوري بعد اشتراكه بحفلة تأبينه في سنة 1939م، لقد كان متشائماً في حياته، وتزوج ولم يعقب ولداً، وكأنه شعر بدنو أجله فقال:

ألا فاكتبوا فوق قبري

قضى عمره وليس يدري

وقال:

كم قطعت الأيام في طرب

هازئاً والحياة تهزأ بي

حاسباً أن لي بها أربا

وهي كانت تفوز بالأرب

وتجاوز اليأس حد القنوط في حياته المريرة فقال:

أقيموا على قبري إذا مت دمية

بها رمز عيشي بعد موتي يعرض

يدان بلا جسم من الصخر عادتا

إلى حيث كان الجسم يهوى ويبغض

فيمناهما مبسوطة تشحذ الجدا

لتشبع جوع النفس والجوع يرفض

ويسراهما فيها فؤاد مضرج

تقدمه للناس والناس تعرض

ورثى أستاذه الشاعر العبقري المرحوم داود قسطنطين الخوري بقصيدة بليغة تفيض حبًّا ووفاء واعترافاً بفضائله، فقال:

سار في موكب الحياة يغني

منشداً من فنونه كل لحن

آخذاً من حياته كل حسن

مانحاً من هباته دون من

شاعر عنده الحياة نشيد

من جنان العاصي جنى الإلهاما

من نسماتها استطاب المداما

صاغ من هيماتها أنغاما

فرأى الدهر عبقريًّا إماما

أريحيًّا بما لديه يجود

ومنها:

وسمت من جوار حمص مواكب

سائرات إلى العلى والرغائب

حاملات من نور (داود) ثاقب

مظهراً ما في روعها من مواهب

تتجارى إلى رضاها الوعود

ولها من أنغام داود حادٍ

ولها من علوم داود هاد

حافظات له خلال البعاد

عهد حب والذكر ملء الفؤاد

عهد داود كنزها المرصود

ومنها:

وليالي داود ليست تعود

والمغنّي رهن البلى والعود

هكذا سنة الخلود تريد

كلما اخضر برعم جفّ عود

فعليك السلام يا داود

ومن آثاره النفيسة رواية (احتضار أبي فراس) آثرت نشرها بكاملها لما تحتوي من نثر دري وشعر جوهري، مع مقدمة استطرادية لهذه الحادثة التاريخية.

كان أبو فراس الشاعر الفارس الأمير فرد دهره أدباً وفضلاً ونبلاً وفروسية وشجاعة، وهو الحارث بن سعيد الحمداني من أمراء بني حمدان الذين ملكوا الجزيرة، وكان لهم شأن عظيم في التاريخ الإسلامي، وهو ابن عم سيف الدولة ابن حمدان صاحب حلب، ورفيقه في غزوات الروم وحروبه المجيدة، والكوكب الساطع في بلاطه بين عقد يضم في سلكه من مشاهير الشعراء أبا الطيب المتنبي والسري الموصلي والناشئ والخليع السامي والببغاء والوأواء الدمشقي وأبا نصر ابن نباته وأبا بكر الخالدي وأبا عثمان الخالدي وابن الفياض وابن خالويه وأبا حصين القاضي وابنا ورقاء وسواهم، وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز، ويتحاشى جانبه فلا ينبري لمباراته ولا يجترئ على مجاراته تهيباً وإجلالاً، وكان الصاحب بن عباد يقول: (بدأ الشعر بملك وختم بملك)، يعني أمرأ القيس وأبا فراس.

كانت حياة أبي فراس مجيدة نبيلة، قضى معظمها في الحروب والغارات، وأسرته الروم في إحدى الغزوات، فمكث في بلادهم ردحاً من الزمن يقاسي المضض، فأنتج في الأسر غرر قصائده المسماة بـ (الروميات)، وعاد إلى بلاده بعد أن افتداه سيف الدولة.

ختمت حياة أبي فراس بفاجعة كانت ثمرة طموحه ونزوعه إلى المعالي، فقد أراد أن يستأثر بالسلطة بعد وفاة ابن عمه سيف الدولة، فأعلن استقلاله في حمص، فجرّد عليه أبو المعالي بن سيف الدولة جيشاً بقيادة غلام أبيه (فرعويه)، فالتقى الفريقان على مقربة من صدد إلى الشرق الجنوبي من حمص، فأسفرت المعركة عن قتل أبي فراس وانهزام أصحابه، وبقيت جثته مطروحة في البرية إلى أن جاء بعض الأعراب فكفنه ودفنه، وقد قتل سنة 357ﻫ، وله من العمر (37) سنة.

(احتضار أبي فراس):

قفر تصهره الشمس بعيد عن العمران يلعب فيه السراب، أبو فراس ملقى على الأرض الغراء على مقربة من شجرة وحيدة مثخن بالجراح مضرج بالدماء غائب عن الصواب، وقد نفذ من صدره سنان رمح طعن به في ظهره، فانقصفت خشبة الرمح وهي ملقاة بجانبه على الأرض، يهذي في احتضاره ولم يبق منه إلا حشاشة.

الطبول! الطبول! أنا انتصرنا

فأريحوا قناً براها الطعان

صح حلمي وعاد لي أمر قومي

ولي الصولجان والسلطان

قد ظفرنا... دقوا الطبول وسيروا

موكباً ناظراً إليه الزمان

موكب المقسمين أن يأخذوا الحقْـ

ـقَ بحد السيوف أو يتفانوا

موكب الظافرين، ذامو كب الحبْـ

ـبِ تلاقيكم عليه الحسان

يا غواني كللن بالزهر والعطـ

ـف رجالاً في الحرب لم يتوانوا

قبليني يا ربة الحسن إني

في وغى الحب طائع مذعان

فأوار الهوى يزيد اضطراماً

في فؤادي ويسرع الخفقان

ذاك سلم الغرام أصمى فؤادي

فسرت في صميمه النيران

يشعر بلذع الشمس فيتململ دون أن يعود إلى صوابه.

قبليني أيضاً كذا يعذب الحبْـ

ـبُ لقاء وقبلة واحتضان

قبليني لا لا كفى ويك ما هـ

ـذا... أثغر الحبيب أم ثعبان

قبلات كأنها ألم المو

ت وفي طعمها له ألوان

أبعدي ثغرك الملظى... لحاك

الله ثغراً لم تحوِهِ الغيلان

يفتح عينيه وقد عاد إلى رشده.

أنا وحدي... ترى أهذا منام

آه لا... إن ما أراه العيان

ههنا... ههنا لقد قبلتني

ههنا الصولجان... لا بل سنان

تتجلى له الحقيقة الهائلة، فيحاول النهوض فلا يقدر، فيمد يده مدًّا بطيئاً وقد برح به الألم، ويحاول إمساك السنان النافذ من صدره.

نافذ في الحشا، لقد أحكم المر

مى عدوي وخانني الأقران

طعنة لو تجيئني من أمامي

لهوى من مهابتي الطعان

قد دحرنا وفر صحبي وزال الـ

ـحلم عني وهدت الأركان

ويل حلم صدقته فإذا بالـ

ـتاج يهوي وتبرز الأكفان

خاب ظني... تعال يا موت أسرع

لست أرضى الحياة فيها الهوان

يسمع هدير حمامة باكية على الشجرة، فينصت لها ثم يخاطبها:

أقول وقد ناحت بقربي حمامة

أيا جارتا، هل تشعرين بحالي؟

معاذ الهوى لا ذقت طارقة النوى

ولا خطرت منك الهموم ببال

أيا جارتا، ما أنصف الدهر بيننا

تعالي أقاسمك الهموم تعالي

أيضحك مقتول وتبكي طليقة

ويسكت محزون ويندب سال

لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة

ولكن دمعي في الحوادث غال

تعالي تري روحاً لدي ضعيفة

تردد في جسم يعذب بال

تسكت الحمامة فجأة وتفر مذعورة وقد رأت نسراً قادماً في الجو، يحوم النسر على جثمان أبي فراس ويحجم عنه إذ يراه يختلج، فيقف أمامه على مقربة ويصبح صياحاً يسترعي انتباه أبي فراس، فيخاطبه بهذا القول:

ألا أيها النسر الذي جاء يبتغي

فريسته، أي الولائم تنظر؟!

ألا اصبر قليلاًإن فيّ بقية

يمد إليها الموت كفًّا وتعسر

رويدك! واعذرني فإنك جائع

ومثلك يا طيار من كان يعذر

أتيت إلينا تطلب القوت والقرى

فأهلاً بضيف جاءنا ليس يزجر

فدونك شلوى ذاك يا نسر ما بقي

وأنت به يا جائع الجو أجدر

فمزق ولا ترحم! فما أنت واتر

لتثأر مني حين جل المقدر

لقد مزقته الناس قبلك: إخوتي

وأبناء عمي والعدو المكشر

وأطلق فؤاداً كان في أسر أضلعي

عليه سلام الله كم كان يصبر

يغمض عينيه تململاً من الألم ثم يفتحها ببطء وقد تراءى له ملاك الموت آتياً نحوه بجلال، فيضطرب ويقول:

رفقاً، ملاك الموت رفقا

لو كنت ما ألقاه تلقى

للويت وجهك عن صريـ

ـع في حضيض اليأس ملقى

طال انتظارك في الجوار

تريد ديناً مستحقا

من ذا يماطل أو يسوم

إذا تقاضى الموت حقا

فإليك روحي إنها

لوديعة ليست لتبقى

خذها إلى الخلاق دا

مية وقل: ما كان أشقى

روح تحشر ضمن جسم

سامها أسراً ورقا

يا روح، لا تستعجلي

فلأنت لي ما القلب دقا

مهلاً، ملاك الموت، لا

تغضب فإن البين شقا

بين بلا أمل اللقاء

وسفرة تزداد سحقا

دعني فأروي بالوداع

حشاشة في الصدر حرقى

دعني أقلب ناظري

متمتعاً غرباً وشرقا

وأودع الأفق البعيد

فلن أرى ما بعد أفقا

أين الأماني المغريات

المحرزات الدهر سبقاً؟

أين الفوارس والصحاب

وكيف ذا فروا وأبقى

أواه خانتني الجيوش

وأقسموا الأيمان صدقا

أين الغواني، طالما

كاشفتني وجداً و عشقا

أعرضن عني بعدما

ذللن لي في الحب غبقا

كسونني من بعد ثو

ب الوصل ثوب الغدر خلقا

صه، يا لساناً مظهراً

ضعفي ولا جاروت حلقا

إن أعرضت عني الحياة

فإن لي في الموت حقا

أسرع، ملاك الموت، لا

ترفق فلا أحتاج رفقا

واقبض فذا ثمن الحياة

أفكيه لأنال عتقا

تختفي الرؤيا، ويعود أبو فراس بفكره إلى أهله فتتراءى له ابنته وقد جاءها نعيه، فناحت ولطمت وشقت ثوبها حزناً عليه، يهلع قلبه ويخاطبها بصوت متهدج:

ابنيتي، لا تجزعي!

كل الأنام إلى ذهاب

نوحي علي بحرقة

ما بين سترك والحجاب

قولي إذا ناديتني

وعييت عن رد الجواب

زين الشباب أبو فراس

لم يمتع بالشباب

تنزل غشية الموت بأبي فراس ويخيل له أن ملاك الموت آت نحوه بخطوات ثابتة باسطاً يديه لاقتبال روحه كما يقتبل الطفل، فيقول وقد دنا منه السباق:

يا موت، يا ملك الحياة

وسبيل كل الكائنات

يا ناثر الشمل الجميع

وجامعاً كل الشتات

أبسط يديك وحل أسـ

ـر الروح من هذا الرفات

خذها إليك عصية

سالت على حد الظبات

ألم الحياة لذي الحياة

أشد من ألم الممات

هات اعطني حق الأخير

فذاك من خير الهبات

قد كنت في أسر ولم

أفقه وقد حانت نجاتي

إني أرى نور الخلود

يضيء في كل الجهات

أطفي سراجي واسبل السْـ

سَتر الأخير على حياتي

رحمه الله وعزى بعبقريته حمص والعروبة.

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/105 ـ 109).

الأعلام