جاري التحميل

نصر سمعان (ديك الجن الثاني)

الأعلام

نصر سمعان (ديك الجن الثاني)([1])
ديك الجن الحمصي الثاني الشاعر نصر سمعان الحمصي

هو شاعر ساحر في رنات قوافيه المؤثرة، انطلقت من شاعريته أسرار فيها آيات بينات من الحكمة والبيان، هي ترياق الحياة ينعش بأوزانها الأرواح، ضرب في أنغامها الشجية على أوتار البلاغة، فأبكت وأدمت وصبت إليها الجوانح، هو شاعر تسامى مغرّداً ينجلي تيهاً بمعاني نظمه بين الكواكب ومن حوله أرواح شعراء العاصي وصنوه ديك الجن في نشوة قدسية مما يسمعون.

لقد طافت روح ديك الجن في سماء موطنها حمص فهفت وتقمصت شاعريتها الخالدة فـي روح نصـر سـمعان، فإذا بـه شـاعر روحاني تجاوز في إخراج قوافيه النورانية كصائغ الدر الذي تجاوز بفنه حد الإبداع إلى الإعجاز.

فإذا سألتني أيها القارئ: هل هو شاعر؟ أجبتك وقد تجاوزت في سؤالك هذا شططاً: إنه شاعر فذ، وساحر مكين في صفاء قريحته وروعة أسلوبه وبلاغة ديباجته، ومن الشعراء من أنشد بيتاً فتمنى غيره أن يكون له ولو بمجموع شعره، ومن درر نظمه قوله:

وطنٌ تضمّد بالحسام جراحه

فاعجب لجرح بالحسام يضمّدُ

أصله ونشأته: ولد الشاعر العبقري نصر بن سليم بن عيسى سمعان في قرية القصير القريبة من حمص سنة 1905م من أسرة حمصية قديمة، درس سنة واحدة في المدارس العلمية الأرثوذكسية، ولما أغلقت المدارس أثناء الحرب العالميةالأولى عاد إلى القصير وأكب على المطالعة.

هجرته: وضاقت بهذا الشاعر العصامي سماء بلاده فآثر الهجرة، فسعد بمواهبه الوطن والمهجر، واعتز بعظمة شاعريته.

ورأى بفراسته أن يزاول التجارة، فأقدم عليها بجنان ينظم في فترات راحته شعره في حنان وأمان.

هو شاعر خُلقتْ في نفسه غريزة نظم القريض منذ الصغر، وكانت ثقافته اكتساباً، فزخرت ذاكرته بمجموعة نادرة من أشعار العرب، وهو من شعراء حمص السواطع التي تتيه عجباً وافتخاراً بنبوغهم.

شعره:  وهذه القصيدة رائعة في قافيتها مؤثرة في مغزى حكمتها، رثى بها عبقري الأدب والعلم والفن والأخلاق الفاضلة المرحوم داود قسطنطين الخوري، ومطلعها:  

رثاؤك يا أبا الحسنات حق

وفضلك في الضمائر لا يعقُّ

تنازع فيه تصوير المعاني

رقيق الشعر والدمع الأرق

وسادت روعة الذكرى قلوبا

نواقيس الأسى منها تدق

شققت سبيل مجدك يوم كانت

سبيل المجد أوعر ما يشق

ومنها:

سألتك حمص عن داود لما

نعته بلابل وبكته ورق

ألم يحضن فراخك يوم كانت

تزقزق في الرياض ولا تزق

نعهدها وحقل العلم محل

لديك وتربة الآداب محق

فلم يخفق بغير العطف قلب

ولم ينبض بغير العز عرق

وحسبك أن فيهم كل نسر

له في الفضل غايات وسبق

ومنها:

أبا الحسنات عذرك أن عصاني

بيانٌ أنت تعرفه ونطق

أكفكف دمع من يبكيك حزناً

فيلمع في مجاري الدمع برق

وأذكر عهدك الماضي فألقى

شمائل كلها شرف وخلق

وقال في المتنبي بمناسبة مرور ألف سنة على وفاته:

أُسكب أبا الطيبات الراح صافية

ونقل الدهر من دن إلى دن

لقنت ألحانك الدنيا وقلتَ لها

ما دُمتِ باقيةٌ غنى بها غنى

ما ذر نجمٌ تزين الشرق طلعته

إلا وفي فمه أسطورة عني

مروية بلسان الشعر ينشرها

في الخافقين لسانُ الأنس والجن ْ

فيم التغني بذكري في محافلهم

وأي يوم خَلت دنياهم مني؟!

ورأى الأيتام فأدمتُ عوامل الشفقة قلبه وتأججت نيران الحنو والعاطفة في صدره، فقال:

أأنت راضٍ عن الإحسان تقبله

منا وأنت أجل الناس إحسانا!

كفى دموعك فضلاً أنها خلقت

في قلب من ضيعَ الوجدان وجدانا

سحت فكانت دماء القلب تنزفها

يأساً وشحت فكانت فيه نيرانا

لما رأيت يد الإحسان تمسحها

أيقنت أني رأيت الله إنسانا

قُلْ للمدل بجاه لا تزخرفه

إلا الأباطيلُ أشكالاً وألواناً

الفقر في أن تراك العين مرتديا

ثوب الغنى ويراك القلب عرباناً

وجالت في خاطره ذكريات حمص، وكم في الذكريات ما يدمي القلوب ويشجي الأرواح حناناً ولوعة، فقال:

إن أنس لا أنس في الميماس ليلتنا

والجو صاف ونور البدر ألاق

وبلبل الروض يعلو بالنفوس إلى

حيث الملائك أسراب وأجواق

يشدو فتخلج الآفاق زافرة

والنجم مصغ وقلب الليل خفاق

لاح الصباح لنا من قبل موعده

كأنه لسماع الشدو مشتاق!!

والطير هاج حنين العود لوعته

فقال والدمع في عينيه رقراق

هذي القلوب التي ضمت عواطفها

كما تضم ندي الزهري أطباق

تهفو إلى رنة الأوتار خافقة

كأنها فوق عود (العود) أوراق

قال الزمان وقد راحت ترنحنا

صهباء فيها لروح الله إشراق

هم السكارى بخمر جل عاصرها

يا ليتني ذقت منها بعض ما ذاقوا

وله ديوان شعر كالروض الزاهر الأنيق يعجز القلم عن وصفه، وحسبي به حبي وإعجابي بمواهبه ونبوغه.

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/118 ـ 119).

الأعلام