جاري التحميل

نقولا أبو هنا المخلصي

الأعلام

نقولا أبو هنا المخلصي([1])
الأب نقولا أبو هنا المخلصي

(1888 ـ 1956م)

مولده وأصله: هو المرحوم نقولا بن ميخائيل أندراوس أبو هنا، ووالدته كاترين الحداد، ولد في 18 شباط سنة 1888م في قرية أم الشوف في لبنان، تدعى بطحة شرقي دير القمر على مسافة خمسة عشر كيلو متراً منها، وموقعها فوق المختارة مستوطن الجنبلاطيين، وتنتمي أسرة (أبو هنا) الكبرى إلى أصل يسمى (ربع مدّ)، وقد ورد في نسخة مخطوطة من تاريخ الأمير حيدر شهاب يقول فيها ما مفاده: إن أسرة (ربع مدّ) أصلها من آل الجناوي في دمشق، وقبل أربع مئة سنة خرج ثلاثة أخوة من آل الجناوي بتجارة أرز من دمشق إلى بلاد العرب، فوصلوا إلى مجمع البحرين حيث المغاص على اللؤلؤ، وكان الأعراب قد غاصوا هناك والتقطوا كميات وافرة من دقاق اللؤلؤ المسمى بالجمان، فأخذ أولئك الأعراب يبادلون الإخوة التجار كل ربع مد لؤلؤ بربع مدّ أرز، ولما عاد التجار المذكورون إلى دمشق اقتسموا اللؤلؤ بينهم بربع المد، فسماهم الناس لذلك بيت ربع مدّ، ثم نزح أولئك الإخوة عن دمشق، فسكن أحدهما الشوف، والآخر الساحل فوق صيدا، والثالث سكن الفرزل، ويظهر أنه كان كبير الرأس فسموه (أبو مخ)، ولا تزال سلائله منبثة في الفرزل وزحلة ونواحي بعلبك، وفي معلولا ويعرفون بـ (آل أبي مخ)، وبقي أخواه على لقب ربع مد، وسلائلهما منبثة في الشوف وكثير من القرى المجاورة لصيدا، وكثير من القرى اللبنانية، وفي عكار، ولكنهم في الأعم الأغلب تركوا لقبهم الأصلي، فبعضهم لقب بالحداد، وغيرهم بغير ذلك حسب عوارض الزمان والمهن، كما لقب الجد الرابع للمترجم بأبي هنا.

دراسته: تلقى المترجم دراسته الأولية في مدرسة القرية، وهي القراءة البسيطة ومبادئ الحساب، وفي العاشرة من عمره وضعه شقيقه الأكبر وكان يقطن بيروت في مدرسة الفرير الخارجية برأس بيروت حيث مكث فيها سنتين درس فيها مبادئ اللغتين العربية والفرنسية.

في دير المخلص: دخل مدرسة دير المخلص سنة 1903م، وأتم دراسته فيها سنة 1909م، ومال أيام التخرج إلى اللغة العربية، فلما أنهى دراسته وسيم كاهناً وضعته السلطة الروحية أستاذاً للغة العربية في مدرسة الرهبانية حيث بقي يدرّس اللغة صرفها ونحوها وآدابها العالية مدة (19) سنة متتابعة.

ثم طلب للتدريس في الكلية البطريركية في بيروت، فألقى فيها دروس البيان العربي والخطابة سنتين، وفي سنة 1930م طلب للتدريس في إكليريكية القديسة حنا المعروفة (بالصلاحية) في أورشليم، فمكث يدرّس فيها البيان والخطابة مدة خمس سنوات، ثم تقلب في خدمة الشعب كاهناً بين عكا والقاهرة، وبعد ذلك عاد إلى دير المخلص وعلم في مدرسة الرهبانية، وفي سنة 1939م دعي لخدمة الشعب في مغيره من قرى البقاع، ثم عاد بعد خمس سنوات إلى دير المخلص ولزم المطالعة والتأليف.

مؤلفاته: عرّب عن الفرنسية وهو في عهد التخرج رواية تنصر مكورفيس أول ملوك فرنسا، وقصيدة تتألف من نحو (330) بيتاً في وصف الحرب الكونية الأولى، وهي من أوزان مختلفة.

ألف رواية عربية عنوانها (العفو عند المقدرة)، وهي ذات أربعة فصول، تمثل ما جرى بين الخليفة العباسي المأمون وعمه إبراهيم بن المهدي.

وعرب عن الفرنسية رواية (البرج الشمالي) وأمثال الشاعر الإفرنسي لافونتين عربها نظماً فيما لا يقل عن عشرة آلاف بيت، وعلق عليها حواشي ذات فوائد جمة لمن يطالعها، وقد طبع المترجم منها نصفها الأول، وكان مزمعاً على القسم الثاني فعاجلته المنية.

ألف كتاباً في البيان العربي، تابع فيه أهل البيان الفرنسي في درس الحواشي الباطنة والظاهرة والقوى العاقلة والذاكرة والذوق مما يتمثل دوره في البيان والأدب.

أما البيان الذي كتبه أدباء العرب قديماً وتناقله عنهم المتحدثون فلم يرق للمترجم العلامة؛ لأنه مقصور على درس التراكيب اللفظية من مسند ومسند إليه، وفصل ووصل، وأشباه ذلك، إلا مسائل الاستعارة والتشبيه والمجاز، فهذه لها شأنها المهم، وقد توسع في درسها وتحقيقها، ومثّل على كل بحث بياني بأمثال أخذها عن العرب والفرنجة وعن هوميروس الشاعر اليوناني العظيم، وقصد المترجم من كل ذلك أن يكون لمطالع البيان مندوحة واسعة يحصل منها بسهولة مواقع الكلام ويميز بين مستحسناته ومستهجناته وثمينه وغثه.

وضع درساً انتقاديًّا على نسختين من ديوان الشاعر العربي أبي تمام، النسخة الأولى طبعها الشيخ محيي الدين الخياط البيروتي مفسرة المفردات بقلمه، وقد وقع له في تفاسيرها أخطاء لغوية أوضح صوابها، والنسخة الثانية للدكتور ملحم إبراهيـم الأسـود، وهـي مشروحة شرحاً مطولاً، لكن بين معنى الشاعر وشرح الشارح مدًى واسعاً، والأغلاط المعنوية كثيرة مستفيضة حتى ليندر أن يجد القارئ صلة بين كلام الشاعر وكلام الشارح، وانتقد المترجم كلتا النسختين في رسالة مسهبة عنوانها (فوضى الأقلام).

وجادت قريحته بمحاضرتين ألقاهما في القصيدة العصماء التي نظمها المرحوم خليل المطران وعنواها (نيرون)، بيَّن في المحاضرة الأولى محاسن هذه القصيدة بالتفصيل، وفي المحاضرة الثانية أوضح فيها ما اعتورها من الأغلاط اللفظية والبيانية، وقد اطلع الشاعر خليل المطران عليها، فكان معجباً جدًّا بانتقاد المترجم لقصيدته، وقد طبع القصيدة ولائحة الأغلاط في كراس واحد.

ولديه مجموعة كبيرة من كتاباته الخاصة ومثلها مجموعة من معرّباته لقطع أدبية وأخلاقية عن أشهر الكتبة الفرنسيين.

ألف رواية ذات فصل واحد عنوانها (الأمير بشير الشهابي) بين نابليون بونابرت والجزار وهي مخطوطة، وعرب عن الفرنسية رواية دينية عنوانها (دعوة الرسول متى) تقع في خمس مئة بيت شعر.

وألف سنة 1911م رواية بناء الدير المسمى دير المخلص، وهي مخطوطة، وعرب عن الفرنسية كتاباً ضخماً للكردينال (جيبونس الأميركاني) عنوانه (إيمان أبنائنا)، وهو كتاب جدلي في القضايا المختلف عليها بين الكاثوليك والبروتستانت، ولا يزال مخطوطاً.

ونشر مقالات لغوية وبيانية وأخلاقية كثيرة في بعض المجلات والجرائد.

رحلاته: قام في سنة 1938م برحلة إلى فرنسا وإيطاليا استغرقت أربعة أشهر قضاها بالبحث والاستقصاء في النواحي الأدبية، وشاهد المتحف والمكتبة الوطنية، وفيها كنوز من الكتب العربية مالا يعلم له اسم عندنا، وكلها من المخطوطات النادرة، وشاهد بينها مخطوطين: أحدهما لمقامات الحريري، والثانية لكليلة ودمنة، وكلتاهما من المخطوطات الفنية البالغة الإتقان في خطها وصورها وتذهيبها من الداخل والخارج.

شعره: ومن تراثه الأدبي ديوان يحتوي على مجموعة شعرية لا تقل أبياتها عن عشرة آلاف بيت، وهذه قصيدة من شعره وصف بها قلعة عربية قديمة على مقربة من دير المخلص إلى الجنوب فوق النهر، وهي من بناء الصليبين، قال:

خرائب تنطق في صمتها

بما يعجز البلغا من عِبَر

تقول انظروا عبرة الدهر فيّ

عسى يستفيد الصحيح والنظر

لقد كنت عالية الرأس قدما

ولي منعة الطود دون الخطر

يلوذ من الخطب بي معشر

فأدرأ عنهم عوادي البشر

تسيل دماء العداة أمامي

كما سال نهر لديّ هدر

إلى أن أغارت علي الخطوب

فلم أر من صد عني الغير

لقد تركوني أغالب دهري

وما غولب الدهر إلا قهر

وهذي رسومي علي شهود

بذل حديث وعز غير

لقد صرت مثل كتاب قديم

أرث البلى صفحه ونثر

ومحى رسوماً به وجروفاً

فصارت دوارس تعيي الفكر

فيا زائري استفيدوا إذا ما

وقفتم عليّ وغُضوا البصر

فإني صورة دنياكم

فباطلها في هوائي ظهر

لقد كان مَن شيدوني رجالا

أشداء بأس فصاروا خبر

ألحت عليهم ليالي الفناء

وأيامه فتولوا زُمر

وقد جرفتهم سيول الخطوب

إلى لجّ موت لهم قد غمر

ونهري رمز لتلك السيول

وفي البحر من بعد رمزُ الحُفَرْ

كذلك عقبى الخلائق طرّا

وكل على أرضنا في سفر

فيمضي الذين بنوا أوّلا

وما قد بنوا تابعٌ للأثر

وفاته: أصيب المترجم بمرض القلب قبل وفاته ببضعة أشهر، وبالرغم من أنه ملقى مهد الضنى تنتابه الآلام والنوبات الشديدة والأطباء مشددون عليه المنع عن شغل الخاطر والجسم، فإنه كان يجالد ويعمل في الحقل الأدبي، وآخر كتاب أنجز طبعه عنوانه (التعليم فن ولذة).

واشتدت عليه العلة فطواه الردى يوم الأحد في الحادي عشر من شهر آذار سنة 1956م، ووري لحده في مدافن دير المخلص، وهكذا خسر ميدان الأدب شاعراً أديباً وناثراً خطيباً ومؤلفاً عبقريًّا خلف للمكتبة العربية تراثاً أدبيًّا سيخلده على كر الدهور.

*  *  *

 



([1])  (أ) (2/396 ـ 399).

الأعلام