جاري التحميل

الهلالي الحموي

الأعلام

الهلالي الحموي([1])
شاعر الفن والعبقرية الهلالي الحموي

أقف حائراً حيال تحليل نفسية هذا الشاعر الفحل الذي كانت أحاديثه وطرائفه في عهده زاد النفوس والأدب، هذا الناظم الذي سحر الألباب بنظمه وانتشرت في فرائده عقود الدرر، هذا الذي سارت ألحانه مسير القمر في الأفلاك.

أصله: هو الشيخ محمد بن الشيخ هلال بن الشيخ مصطفى مفتي حماة سابقاً ابن الشيخ عباس بن الشيخ إسماعيل ملا زاده، ولد في حماة سنة 1235ﻫ ـ 1816م، ونشأ في حجر والده مهد العلم والعفة والصيانة، ودرس علم النحو والصرف والمنطق على فحول العلماء، فبرع وآية النجابة ترمقه، وقد ساعده حسن ذكائه وقوة نباهته وسعة تضلعه على التفنن في الأدب وأساليبه.

صفاته: كان رحمه الله نير الوجه، ذا شمائل حسنة، محمود السيرة، حافظاً للوداد، صلب الرأي، جسوراً مقداماً، عصبي المزاج، ذرب اللسان، يحب الجد ومنادمة الأدباء والشعراء في جو هادىء، ويكره الهذر والمزاح، والويل لمن يمس كرامته أو يستفزه، فلا نجاة له من لسانه وهو كالسيف البتار، ويحب الكرم والكرماء ويمتدحهم، ويجفو البخلاء ويتحاشى مجالسهم، خلوتي المذهب، فارس مقنع في الليل، وناسك في النهار، وهو القائل عن نفسه في موشحه البديع:

أهوى الجمال المطلقا

أيان ما كان

إذ مذهبي أن أعشقا

حوراً وولدان

شعره: شاعر مبدع، أخذ برقاب القوافي، وورد منها المورد الصافي، تسنم ذروة الفن الشامخ بأدبه وموشحاته الفريدة، فكان في النظم والفن كالهلال إضاءة وإشراقاً، له ديوان مطبوع انتشر في الأقطار العربية كالشمس في رابعة النهار.

لقد قضى الفقيد رحمه الله مدة طويلة من حياته في حماة، وقد امتدح أعيانها جرياً على عادة الشعراء، ونال منهم الهدايا اللائقة، ثم نغص عيشه وكدر صفوه تسلط الشاعر الشيخ مصطفى زين الدين الحمصي لمبارزته ومعارضة شعره بدافع من وجوه حماة، فكان مزاجه العصبي لا يحتمل قسوة المزاح والتنكيت، ومما يؤثر عنه أنه كان كثيراً ما يثور لأقل بادرة، ويحب أن يخفي عن معارفه أشعاره خشية أن يقلب معناها وقوافيها إلى مدح الأكل، وقد سلمت له من هذه المعارضة بعض قصائده التي نظمها خلال مدة وجوده بدمشق.

وقد زاد في ألمه وغيظه ما كان يلقاه خصمه مصطفى زين الدين من ضروب الرعاية والتكريم والاحتفاء به واعتقاده تفضيله وإيثاره عليه، ويغار من الخيرات الوافرة التي كان ينالها بسبب هذه المعارضة وهو لا يستحقها، مما أوجب نقمته وهجره الذوات كما ذكرت ذلك في حديثي عن الشاعر الحمصي.

فاجعته بولده: وفي عام 1925م اكتنفته نوائب الدهر، فتلقى نعي ولده (راغب) الذي استشهد في المعارك الحربية الواقعة بين الروس والأتراك في تفليس، فهد هذا المصاب ركنه ورثاه بقصيدة رائعة منها قوله:

يا دهر ما أغنى محبًّا يرتجي

رد الحبيب له وأنت السالب

أمسائلي عني وعيني بالبكا

نضاخة وغدير صبري ناضب

دعني وشأني كلما جن الدجى

أدعو ودمعي سائل ومجاوب

وكانت المدة بين نعي ولده راغب وهجرته من حماة إلى دمشق ثلاث سنوات قضاها بالأسى والنحيب، يردد قول الشاعر الزاهد المرحوم الشيخ عمر اليافي:

ومالي سبيل للسلو ولم يكن

وحق هواكم لو قضيتم به نحبي

وبينما كان يأمل من الثراة والأعيان وكبار الموظفين العطف والتخفيف عن بلوائه وأحزانه ومشاطرته العزاء بفاجعته وتركه وشأنه، إذا به يراهم يعملون على خلق المقالب له حبًّا في التنكيت والترفيه عن نفوسهم البطرة، وهكذا اشتدت معارك البراز والمعارضة الأدبية بين الشاعرين المتبارزين، ومن الطريف أن بعض المنكتين الذين يتظاهرون أمام الهلالي بالحب والإخلاص له قد نصحوه أن يقيم الدعوى على خصمه الشاعر الشيخ مصطفى زين الدين؛ بغية إيقافه عند حده، فعمل برأيهم ولم يدر بأنهم غشوه وزادوا النار ضراماً، فأقام الدعوى وجرت المحاكمة في حماة، ودارت بينهما مشاحنات أدبية تعتبر من أروع النوادر الطريفة في تاريخ الأدب مما يطول ذكره الآن، وأخيراً تصالحا تنفيذاً لقرار المحكمة، وتعهد الشيخ مصطفى زين الدين بالتوقف عن معارضة أشعار زميله، ولما ودع الشاعر الحمصي الهلالي قاصداً العودة من حماة إلى حمص، قال له: (مع السلامة، لا أراني الله وجهك)، فرد عليه الشيخ مصطفى زين الدين: (لا أسمعني الله صوتك)، وانقضتفترة من الزمن استراح الهلالي خلالها وصفت قريحته، وعاد نشيطاً إلى النظم وهو لا يدري ما يضمر له المستقبل من مفاجآت كانت سبباً في تغيير مجرى حياته.

نقض معاهدة الصلح: إلا أن دوام هذا الصلح والهدنة لم يحل للمنكتين الذين لا تقر أعينهم إلا بإيقاع نار الفتنة والمبارزة بين الشاعرين، فأغروا الشيخ مصطفى زين الدين على نقض العهد، وبالغوا في إكرامه، فعاد لمعارضة شعر الهلالي، فكان هو الرابح على كل حال، وكان الناقم هو الهلالي الذي أهلكته الغيرة من زميله، مع أن الهدايا كانت ترد إليه أيضاً، إلا أنه يرى خصمه لا يستحقها.

ولما غمرته موجة التنكيت والمزاح اضطر في بعض الأحيان للانزواء في داره، حتى إنه كان يرفض استلام الرسائل التي كانت ترد باسمه من موزع البريدلعلمه بأنها تحوي على معارضات قصائده، وذلك تجنباً من تحرشات تزعجه، وكأنه يعاتب الناس بالكف عن مزاحهم، بعد أن غلبه الحزن والأسى على ولده الشهيد، فيردد المثل السائر: (ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة)، وفي خلال هذه الفترة رأى أن أفضل وسيلة للتخلص من هذا المحيط المزعج أن يهجرحماة، فأزمع على النوى.

رحيله إلى دمشق: وفي سنة 1289ﻫ حط رحاله في دمشق، فطابت له الإقامة في ربوعها الجميلة، فاستوطنها وعاشر أدباءها، وامتدح أعيانها، ومن جملة من استقبله فأكرم مثواه المرحوم أمين الجندي مفتي دمشق، فقد نال من عطفه وكرمه ما أنساه وحشة البعاد، ومدحه بقصيدته الرائية المشهورة، ومطلعها:

لا زلت أجمع في الهوى وأسير

طلق الأعنة والفؤاد أسير

ومنها:

كشاف أسرار البيان وروحه

علم العلوم لواؤها المنشور

روحي الفداء لنسبة جندية

والله حزب جنوده منصور

حتى إذا قام الأمين بها على

قدم الشريعة زانها التوقير

يا مفرداً علماً ومن منه على

جمع الجوامع عول الجمهور

ثم تعرف على المرحوم الأمير عبد القادر الجزائري الكبير واستمنح فضله حيث قال:

هاجرت من بلدي بأهلي غازياً

بعساكر الآمال خير همام

مولاي عبد القادر الحسني الذي

في ظل نعمته نصبت خيامي

وافيت جنة قربه لأفوز في

مأوى مكارمه بدار سلام

فأكرمه وأسكنه في دار، وقدر أدبه حق قدره، وبعد سنتين من إقامته بدمشق توفي الأمير الجزائري، فبكى كرمه بقصيدة بليغة:

سهام قضاء الله ليس لها رد

وكأس الردى ما من مذاقته بد

ومنها:

ووا أسف الدنيا على السيد الذي

به فجع الإسلام والعلم والمجد

كـان رحمـه الله يحـب الحيـاة الاجتماعية الراقيـة ويكره التعصب، ويعاشر الشخصيات البارزة، وقد تمكنت عرى المودة ونال من كرم الأمراء الشهابيين الخير الوافر، فتعلق بهم، ومدح الأمير سليم الشهابي بموشح يعتبر من أروع الموشحات نظماً ولحناً، وهو:

عني لووا قلبي كووا عزًّا حووا

وعلى العرش من الحسن استووا

ليت شعري من لقلبي أمرضوا

هم إلى الآن غضاب أم رضوا

أربي هم أعرضوا أم أغرضوا

بالتجني أم على قتلي نووا

وتاه الهلالي عجباً بموشحه هذا واعتبره أمنية الواو الساكنة من وزن يعسر معارضته، فتطوع أهل الخير ونقلوا إلى الشيخ مصطفى زين الدين ما قاله الهلالي عن موشحه، فعارضه فوراً:

لحماً شووا خبزاً طووا بيضاً قلوا

وعلى السمن القبوات استووا

وانتقلت المبارزة والمعارضة إلى دمشق فكان لها نصراء، وتطوع بعض رسل الخير فكانوا همزة الوصل بين الشاعرين المتباريين، فحمي وطيس المعارضة، فعمد الهلالي إلى إخفاء بعض قصائده فسلمت من المعارضة كما ذكرنا، ولما مدح الهلالي أحمد جودت باشا والي سوريا بقصيدة منها قوله:

ببديع وبيان في صفا

خمرة قد مزج السحر المباح

عارضه بقوله:

نشأتي من كأس دهن منه لي

قد ملا الساقي ولا من كأس راح

شكا إليه معارضة الشاعر الحمصي، وظن الهلالي أن الوالي سيغضب، ولما تجلت للوالي الحقيقة راقت له هذه المبارزة وشجعها بعدم اكتراثه لشكوى الهلالي.

وفاته: كان في أواخر عمره إذا تذكر عهده في حماة استغرب لغربته وفراق أهله، وانقبض صدره وتناسى كل شيء إلا حزنه على ولده الشهيد وحظه العاثر ودهره المعاند.

وفي يوم الإثنين الواقع في التاسع والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1311ﻫ ـ 1892م خطفت يد المنية عبقرية هذا الشاعر ودعته إلى منازلها الخالدة، ودفن في مقبرة الدحداح بدمشق، وقد رثاه وأرخ وفاته كثير من القراء المجيدين، منهم العالم المرحوم الشيخ عبد المجيد الخاني الدمشقي بقوله:

لقد توفي الهلالي سيد الشعرا

وكوكب الأدب العالي الذي اشتهرا

محمد فرع أقمار العلوم ومن

هم في حَماة حُماة الفضل والكبرا

بدر غريب العلا أنواره غربت

في هذه الروضة الفيحاء حين سوى

فلا غريب إذا نادى مؤرخه

ألا توفي الهلالي سيد الشعرا

*  *  *

 



([1])   (أ) (1/183 ـ 185).

الأعلام