جاري التحميل

وجيه البارودي

الأعلام

وجيه البارودي([1])
الدكتور وجيه البارودي
(1906م)

هو شاعر الحب والفن والعاطفة والغزل وطبيب الأجساد والأرواح كما وصف نفسه:

أتيت إلى الدنيا طبيباً وشاعرا

أداوي بطبي الجسم والروح بالشعر

هو شاعر الغزل الذي أهمل طيلة حياته طلب الشهرة عن طريق النشر، واكتفى بأن أخرج ديواناً ينطوي على شعره الذي نظمه خلال ربع قرن، وجعله أثراً متواضعاً لإهدائه للأصدقاء والمحبين ومن كتبوا إليه بطلبه، وترفع عن المادة فلم يعرضه للبيع في المكتبات العامة، وقد نشأ عن ذلك أن أهمله والنقاد وجهله الأدباء، وهو أشهر من أن يعرّف المجتمع.

مولده ونشأته: هو الدكتور روجيه بن عبد الحسيب بن أحمد البارودي، وهذه الأسرة قديمة العهد في مدينة أبي الفداء منذ أكثر من خمسة قرون، هذا وإن أُسر (البارودي) الموجودة في دمشق وطرابلس وغيرها لا تمت إلى بعضها بصلة القرابة، بل غلبت عليها الكنية في المناسبات التي تسمت بها.

ولد الشاعر في حماة سنة 1906م، نشأ في ظلال النعمة والمجد، تلقى دراسته الابتدائية والعالية في الجامعة الأمريكية ببيروت منذ سنة 1918م لغاية سنة 1932م حيث تخرج بشهادة الطب، ويعمل في الحقل الداخلي والتوليد في حماة.

أدبه: وفي الجامعة الأمريكية بزغ نجم نبوغه الأدبي، وكانوا ثلاثة رفاق أصدقاء يتطارحون ويتساجلون الأدب والغزل، وهم المرحوم إبراهيم طوقان الشاعر الفلسطيني المشهور، وحافظ جميل الشاعر العراقي الموهوب، وصاحب هذه الترجمة، وفي هذه البيئة الثقافية العالية وهب قلبه للمرأة والعاطفة، وخفق بالحب فأسكرته خمرة الفن وأنطقته القوافي الغزلية الساحرة النضيدة الفريدة في أسلوبها المنير في الأدب العربي، وهذه قصيدة نموذجية بعنوان (وادي الرمان) مبتكرة، نظمها بالاشتراك مع رفيقه بالجامعة المرحوم إبراهيم طوقان شاعر فلسطين في صيغتها البليغة تأخذ سبيلها إلى أعماق الأفئدة، قال:

يا رب واد قد تفتح ورده

واخضل فهو بطله مغرورق

وتأنق الوسمي في ترصيعه

بالدر، فهو المبدع المتأنق

ترنو إليه محاجر من نرجس

خجل يغالبه الحياء فيطرق

والغيم يضحك للجنوب إذا سرت

وتناله كف الشمال فيغدق

والبيلسان أكفه ممدودة

والطل ذاك المنعم المتصدق

والياسمين كواكب ومواكب

شتى تألف شملها المتفرق

وكأنما الجوري نوع تحية

يسعى إليك بها حبيب شيق

والماء بين مماطل ومواصل

ينأى ويدنو سيله المتدفق

وغرائب الريحان حول ضفافه

منضودة تطفو عليه وتغرق

وانظر إلى نيلوفر ألوانه

شتى تحيط به المياه وتحدق

وعيونه رفرافة أجفانها

فوق الغدير وكل عين زورق

واد يهيم به الجمال وإنه

ليكاد ينطقه الجمال فينطق

جر النسيم عليه فضل ردائه

وبفضله أضحى يفوح ويعبق

قد كللته يد الربيع بوشيها

فعليه من حلل الطبيعة رونق

باكرته فلقيت عند غديره

هيفاء ترقص والغدير يصفق

النور في جنباته متألق

والنور في وجناتها يتألق

يا جارة الوادي الرحيب وإنه

نعم الجوار لمن يهيم ويعشق

لما التقينا والعيون سوابق

ود الفؤاد لو أنه لك أسبق

يا يوم جاوزت الخميلة في الضحى

والشمس مشرقة ووجهك مشرق

كم ظللتنا دوحة أغصانها

أحنى من الأم الرؤوم وأشفق

والطير هاتفه بألحان الهوى

تعلو وتهبط تارة وتحلق

حامت على التفاح تشدو فوقه

يا من يقبل في الصباح وينشق

والكرم ناء بحمله فبناته

منها طريح في الثرى ومعلق

أقلوبنا في الروض أم رمانه

أضحى على أغصانه يتفلق

تتلهب النيران في أحشائه

والماء تحت ظلاله يترقرق

لم أدر حين جنيته أرحيقه

أم ريقك المعسول ما أتذوق

ثم أنثنيت عن الرياض ومقلتي

عبرى وقلبي في حبالك موثق

والشمس تجنح للأصيل كأنها

وجناتنا والبين صاح تفرقوا

أوحيت لي من آي حسنك آية

إني بما أوحيته لمصدق

ويتجلى في ديوانه الزاخر بخواطر الحب ذوقه الحساس ومواهبه الشريفة وحبه الصادق، كما قال:

أغني دموعاً لا أغني قصائدا

وهل ناب عن دمع الشجي قصيد

وفي قصيدته الغزلية الرائعة (رجوع الشيخ إلى صباه) يتمنى لو عاد إلى شرخ الشباب، مع أنه شرب كؤوس الحب مترعة حتى الثمالة، وهي تعبر عن دقة شعوره وبراعة وصفه، قال:

إن تجهلي حبي فيا لسذاجة

هيهات يدرك شأوها الغر الغبي

أو كنت من حبي على علم فمن

ينجيك من عبثي وقد غررت بي

إن تطلبي حبًّا كحب بثينة

وجميلها، يا بعد ذاك المطلب

ذهبت بثينة وانطوت أحلامها

وثوى جميل في حضارة يعرب

العصر عصر الواقعية فاشربي

خمر الغريزة واسكبي لي لأشرب

عقمت بالأحلام أيامي فيا

أسفي على تعقيم ترب مخصب

لو عاد لي شرخ الشباب جننت من

فرحي وسار الغيد بي في موكب

وأقمت ألف وليمة ووليمة

ودعوت ألف حبيبية ومحبب

ورتعت في ترف الولائم غارقا

في عري راقصة وغنجة مطرب

ونحرت زقًّا لا نحرت ضحية

إني بغير الراح لم أتقرب

لو عاد لي فالمعجزات حقيقة

وخرافة اليونان أصدق مذهب

أنا ما تركت من التوابل تابلا

في الهند يغرف أو حشائش مغرب

ورجعت للطب الحديث أغوص في

أبحاث كل منقب ومعقب

حتى اهتديت إلى خفايا غدة

في غورها سر الشبيبة يختبي

فجعل من إكسيرها راحاً ومن

مشويها ألوان نقل طيب

فبجرعة عاد الشباب لأوجه

وبجرعتين يعود لي مرح الصبي

فكأنني بدبيبه يجري على

زندي وفي عضدي، ويغمز منكبي

فتألقت عيني بنور جماله

وأبل سمعي، واستقام تحدبي

هذا فؤادي قلبتيه إن بدت

لك ريبة فيما أقول وجربي

عاد الشباب لنا كسالف عهده

والعود أحمد لو ظفرت فمأربي

شعره الاجتماعي: هو شاعر اجتماعي وجداني يرى الإصلاح المنشود متشعب يحتاج إلى مبضع جراح وعلاجات شافية، فهناك أمراض نفسية لا جسدية، ولكنها تفتك بالجسم.

لقد عصمه الله فلم يلوث شعره بالمدح والتزلف والرياء، أما هجاؤه إلى بلده حماة التي أنبتت عبقريته الثائرة فيعتبر نقداً اجتماعيًّا لا هجاء... ومن حق الشعراء أن يوجهوا المجتمع إلى الفضيلة والأخلاق والمثل العليا، وكفى أنه أهدى ديوانه إلى حماة... مدينة البطولة والجهاد... ويغذي روح التضامن الاجتماعي بعقله المفكر.

لقد عاش هذا الشاعر الطبيب في أحضان الطبيعة برغد وعيش هنيء، فلم يكن كغيره من الشعراء الذين جرعهم الدهر كؤوس البؤس والحرمان، ومع ذلك فقد ظهرت آثار الكدح على محياه كطبيب يعرف واجباته القومية والإنسانية، فهو لا يرد عائداً قصده إلى داره من الغرباء والفقراء، هكذا يملي عليه ما ورثه عن أسرته العريقة بمجدها التليد من السجايا الحميدة.

اقترن سنة 1931م وأنجب تسعة أولاد، وزار العراق سنة 1936م أثناء المؤتمر الطبي العربي، فرمقته العيون بالإعجاب والاحترام.

*  *  *

 



([1])  (أ) (2/58 ـ 60).

الأعلام