جاري التحميل

وجيه الخوري

الأعلام

وجيه الخوري([1])
الشاعر المتفنن الأستاذ وجيه الخوري الحمصي

لو أتيح للمرء أن يذكر كل ما مر به من حوادث جسام لها مساس بالعاطفة والنفس؛ لكان فيما يروي لقراء هذا التاريخ عظة وذكرى، تدل على أن المرء مهما تضاءل شأنه في الحياة، فلا بد أن تمر به أحداث خطيرة تلامس نواحي الألمعية في الرجال، على أن ذلك لا يزيده رفعة في نظر المطلعين، فالذين ينشدون الحقيقة يأبهون للبساطة التي تدل على سمو النفس، ويهملون ما يناقضها؛ لأنها في نظرهم كالوشي الذي يحلى به الثوب الأصلي المصنوع، وهذه الحوادث خاصة بهم لا تهم الرأي العام بشيء.

سبقت هذه المقدمة التي تنطبق على المترجم وهو أحد نجوم حمص السواطع في ميدان الشعر والأدب.

هو شاعر متواضع، عظيم في كرامته وشممه وإبائه، يسير في حياته على غير هدى شأن الحمصيين الذين اتسموا بطابع البساطة، لا يرى في مراحل حياته من الحوادث والأحداث الهامة ما يستحق التدوين، ولم يدر أن بدائع قوافيه ووحي خياله الخصيب يدخلان في التاريخ.

أصله ونشأته: ولد السيد وجيه بن المرحوم الأرشمندريت وهبة بن ميخائيل الخوري في حمص في التاسع عشر من شهر كانون الأول سنة 1900م، وفي السابعة من عمره دخل مدرسة الطائفة الأرثوذكسية ونال شهادتها بتفوق، فأوفد إلى الناصرة بعام 1913م لإكمال دراسته في السمينار الروسي مجاناً، وقضى فيه السنة الدراسية، ثم أغلق مع بقية المدارس الأجنبية والطائفية بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، وقد ساعد والده بنفقات إعاشة العائلة في أيام الحرب القاسية، فاتخذ الحياكة مهنة له يتسلى بها، فكان يشتغل في النهار ويأوي في المساء إلى غرفته للمطالعة والدراسة على نفسه حتى وضعت الحرب أوزارها.

في خدمة المجتمع: وانتسب إلى إحدى الوظائف في وزارة المالية وأخذ يتدرج في مناصب الحكومة في حمص وغيرها من المحافظات السورية طيلة اثني وثلاثين عاماً ونيف، وفي 26 آب 1951م أحيل على التقاعد، ثم عهدت إليه شركة الزجاج بمراقبة المعمل في دمشق، وأخيراً استلم أعمال مكتب الإعلان لصحف دمشق اليومية، ومازال يعمل فيها إلى اليوم.

أدبه واحتسابه: لقد ساهم في دوحة الأدب أثناء وجوده بالوظيفة بتحرير جريدة فتى الشرق الحمصية، وكان يواصل الصحف والمجلات في الوطن والمهجر بالمقالات الاجتماعية والنوافذ الشعرية، ووقف من الفرنسيين المستعمرينموقفاً سلبيًّا أدى لاستجوابه وملاحقته، ولم يثنه عن عقيدته الوطنية إغراء أو تهديد، ونال من الأذى والضيم بسبب صدق مبادئه ما حرمه من الترفيع في الوظيفة، وهذا وسام الشرف الوطني الذي يحمله المترجم في جيده الحر.

شعره: هذه الحوادث العاطفية التي مرت في حياته جعلته فوق إهماله جمع آثاره لا يكترث لشيء مطلقاً في الحياة، أما ما سعى إلى تأليفه وجمعه من مواضيع وأبحاث في حياته الأدبية فهو: ديوان عبرات الشباب، الجزء الأول، طبع عام 1921م، الجزء الثاني من ديوانه، يتضمن ما سيجمعه من وعي ذاكرته، تاريخ مشاهير أدباء وشعراء وسياسيي حمص منذ الفتوحات الإسلامية (مخطوط)، زقزقةعصفور: وهي مقاطع خيالية منثورة، نشر بعضها في جريدة صدى سوريا (مخطوط)، قصص مشاهير الرجال والعظماء: وهي مجموعة حكايات عنهم ولهم (مخطوط)، الليالي لألفريد دي موسيه: عربها عن الفرنسية (مخطوطة)، إعادة رواية في سـبيل التـاج للشاعـر فرنسـوا كوبيـه: وهـي من تعريب المنفلوطي إلى تمثيلية (مخطوطة)، وقد ساهم في وضع كتاب فقيد حمص المرحوم أنطون جرجي الطرابلسي وهو مطبوع، ومن شعره البديع الأخاذ في أسلوبه وصفاء معانيه قوله:

بين القديم وبين الأمس من أمم

بون تحير في تعليله قلمي

لأدرين أفي العقل التطور أم

إن الزمان وليد الظرف من قدم

ما في الحياة جديد فالزمان كما

عهدته من قديم راسخ القدم

لكنه العقل ما مر الزمان به

رهن التقلب في جد من السأم

فكلما جاز عاماً زاد معرفة

وكلما زاد علماً لج في الألم

ويح الليالي فكم من لمحة خطرت

فيها كست مهجتي ثوباً من السقم

يا ليت عهد الصبا لم يمض في عجل

وليلة دام أو يا ليت لم تدم

لكنت أودعته الآمال مقتنعاً

بما رأيت ولم أعتب على الهرم

لا يشعر المرء بالآهات يصعدها

حرّى وقد مزجت في روحه بدم

ما لم يكن مركز الإحساس صار إلى

دماغه واستوى فيه كمحتكم

وقد اقترن شعره الأدبي بالفن، وهو ميال إليه بطبعه وروحه، فنظم موشحات:

هل درى ظبي الحمى أني عليل

قابع في البيت رهن المحبس

ملّني الأهل وجافاني الخليل

والعدى ترجو خروح النفس

كلما جنّ الدجى واضطربت

في حناياه نفوس التعساء

أو سرى البدر به وانتبهت

في ذهول خاطرات الشعراء

فغدت تنشد لحناً طربت

إذ تعالى منه أملاك السماء

سكت البلبل يصغي للهديل

حابس الأنفاس خوف العسس

كل ذي رأى إذا الدهر يميل

حمل الهمّ ولمّا ينبس

وزار حماة، وله فيه ذكريات مريرة، إذ قبض عليه إبان الحرب العامة الأولى ليساق إلى الجندية، وقضى فيها ليلة قاسية، وقد طلب منه الشاعر الكبير الأستاذ بدر الدين الحامد أن يرتجل شعراً في وصف نواعير حماة، فقال:

حماة لها في القلب مني محبة

على الرغم من ذكرى تقطع أوصالي

تجنت عليها الحادثات فأشعلت

لهيب الأسى في صدرها الناعم الخالي

ومر بها العاصي وقد زاد لوعة

ليطفئ منها حر حرقتها الغالي

وفي صدره للحزن قد قام مأتم

تردده في كل يوم بإعوال

نواعير تبكي في الصباح وفي المسا

على دارس الأطلال من عزها الخالي

وفي سنة 1940م اقترن بالآنسة بيرتا بنت الوجيه المرحوم أنطون بن جرجي الطرابلسي، وأعقب أولاداً لم يعش منهم سوى كريمته وفاء.

بين هذا الشاعر المبدع والمؤلف صلات ود وإخاء، وزاد توطيدها مصاهرته لآل الطرابلسي، وبينها وبين الأسرة روابط مأثورة وحقوق قديمة موروثة.

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/71 ـ 72).

الأعلام