وديع صبرا
وديع صبرا([1])
الموسيقار العبقري المرحوم وديع صبرا
أصله ونشأته: هو المرحوم وديع بن جرجس صبرا، والدته سارة بنت سركيس من قرية (عبيّة) وهي شقيقة الأستاذ خليل سركيس مؤسس جريدة لسان الحال، وأصل أسرة صبرا من قرية عين الجديدة المجاورة لبحمدون، وقد نزحت إلى بيروت منذ مئة سنة واستوطنت بيروت.
ولد الفقيد النابغة يوم 23 شباط سنة 1876م، وتلقى علومه في مدرسة البنين الإنكليزية، وكان رئيسها المرحوم والده، وتدرّس فيها والدته التي كانت تتقن خمس لغات، وقد استمرت تعلم فيها مدة تنيف عن الخمسين سنة، وأنجبت أفذاذ الرجال، ومن تلاميذها الدكتور فارس تمر باشا أحد منشئي مجلة المقتطف وجريدة المقطم وعضو مجلس الأعيان المصري.
ثم انتقل إلى الدراسة في الكلية الأمريكية، كان رحمه الله محبًّا للعلوم والفنون وافر الذكاء، درس الموسيقى في بيروت منذ حداثته على نفسه من كتاب (القاموس الموسيقي والموسيقيين) نشره السير جورج كروتي مدير روبل أكومي اث ميوزيكفي لوندره، وعلمته ومرنته على العزف السيدة كرايس أمين شكور والسيدة ثيودور سياجسب، وأعطاه البارون رابلاين النمسوي الدروس الموسيقية.
سفره إلى باريس: لقد انقاد الفقيد لمواهبه، فسافر إلى باريس سنة 1892م بغية إكمال دراساته الفنية، فدرس وتمرن في الكونسرفاتور الفرنسي سبعة أعوام، وكان خلال إقامته في باريس يسافر إلى الضواحي البعيدة لإحياء حفلات فنية يؤمن من ريعها نفقات دراسته وإعاشته، ثم عينته كنيسة سانت امسيري الإنجيليةفي باريس عازفاً على الأرغن، واستمر في الخدمة مدة عشر سنين، فكانت مدة دراسته في عاصمة فرنسا ستة عشر عاماً.
سفره إلى الأستانة: وضع فقيد الفن النشيد الوطني العثماني في سنة 1908م، وسافر إلى استانبول فقدم للمجلس النيابي النشيد المذكور، وأقام فيها خمسة عشر شهراً، ثم عاد إلى بيروت سنة 1910م فأسس دار الموسيقى، وهو أول معهد موسيقي في لبنان.
وفي سنة 1918م عاد إلى استانبول فعينته الحكومة التركية رئيس أساتذة المدرسة الموسيقية البحرية مدة سنة، ومنها سافر إلى مدينة باريس.
في الأناضول: ونفي إلى مدينة سيواس في الأناضول وأقام فيها خلال الحرب العالمية الأولى، ثم اكتشفت الحكومة أن نفيه كان خطأ، فأطلق سراحه معززاً مكرماً ورجع إلى بيروت، فكان أستاذ الموسيقى في دار المعلمات ومديراً لموسيقى الجيش في لبنان.
البيانو الشرقي: ولما كان البيانو الغربي لا يخرج الأرباع الصوتية على الأنغام الشرقية؛ فقد سافر رحمه الله إلى باريس سنة 1922م، وقام بدراسات طويلة وجهود مضنية حتى توصل إلى غايته المنشودة باختراعه البيانو الشرقي، وبحث مع مدير مصنع بلابل قضية تركيب السلم الموسيقي بالنسبة للأصوات الشرقية ليتمكن على ضوء هذه الأبحاث الفنية العويصة إدخال الأرباع الصوتية على الأنغام الشرقية في مخترعه الذي ذاع صيته ونال إعجاباً وتقديراً عظيماً في الأوساط الفنية، ثم عاد إلى مصر ومكث فيها مدة سنتين يعطي دروساً موسيقية خاصة.
صِلاته مع الفنانين: لقد كان الفقيد كريم الخلق، نبيلاً في مقاصده وعواطفه نحو زملائه الفنانين، وكان بينه وبين فقيد الفن العبقري المرحوم إسكندر شلفون علاقات ودية وثيقة العرى، وكانا على اتصال دائم مدة إقامة المرحوم وديع صبرا في مصر، وكان إسكندر شلفون يطلعه على كل ما يتوصل إليه في الموسيقى الشرقية، ويتبادلان الآراء، وبعدما جاء المرحوم إسكندر إلى بيروت واستقر فيها طلب المرحوم وديع صبرا من الحكومة سنة 1928م تعيينه أستاذاً في المعهد الموسيقي للاستفادة من مواهبه ونبوغه الفني، ولكن حال دون تحقيق هذه الأمنية ضيق الموازنة المخصصة للمعهد.
مؤلفاته: لقد أنفق هذا النابغة المتفنن ماله وقضى حياته في خدمة الفن الموسيقي، وله مؤلفات وألحان كثيرة، منها: أوبرا تركية، والنشيد العثماني، وتراتيل كنائسية من الصولو مطبوعة في باريس، ونشيد موسى أوراتوريو وفالس لكونسر وجانوت من مقام (منير)، وألف ولحن سنة 1917م أوبرا (رعاة كنعان) وهي أول أوبرا في اللغة التركية، وأوبرا (الملكين) وهي أول أوبرا في اللغة العربية، ولحن أوبريت إفرنسية، ومنها (المهاجر)، ووضع النشيد الوطني اللبناني سنة 1917م و(30) لحناً شرقيًّا، وآخر ما لحنه الأناشيد الثلاثة: (ذكرى الأم) من نظم الشاعر شبلي الملاط، (أمنا الأرض) من نظم رشدي المعلوف، (انتهى كل شيء) من نظم الشاعر سعيد عقل.
خدماته الفنية: وفي سنة 1925م استقر في بيروت وكلفته الحكومة اللبنانية تأسيس المعهد الموسيقي اللبناني الرسمي (الكونسرفاتور الوطني) الذي ما زال حتى وفاته رئيساً له.
أحواله الخاصة: وفي 22 نيسان 1921ماقترن بالآنسة الفاضلة آديل بنت إسكندر مسك، ولم ينجب ولداً شأنه في ذلك كأكثر النوابغ والعباقرة الذين حرمهم الدهر نعمة الذرية لينعم المجتمع بمواهبهم الفذة، وكانت هذه السيدة مثال الزوجة الصالحة في أخلاقها وتوفيرها الراحة لقرينها العبقري، ويتجلى حنان الفقيد وحبه للنسل بأنه تبنى ابنة سماها (بديعة صبرا)، وقد ورثت عنه عبقريته في الفن الموسيقي، وبعدما غرس فيها أولى قطرات نبوغه تابعت دراستها الفنية في إيطاليا، وهي الآن أستاذة في الغناء وأصول الموسيقى النظري في المعهد الموسيقي الوطني اللبناني، وتعطي دروساً خاصة في كامل هذه الفروع في منزلها، وقد وهبها الله الجمال والأخلاق الفاضلة.
وفاته: وفي اليوم الحادي عشر من شهر نيسان سنة 1952م، ارتفعت روح نابغة الفن إلى عالم الخلود، وألحد رمسه مع أسرار فنونه في مقبرة أسرة صبرا في المدفن الإنجيلي في رأس النبع في مدينة بيروت، وخسر الفن أعظم ركن بوفاته، وترك ذكراً حميداً بمآثره ومناقبه المجيدة، ونال أوسمة الأرز والاستحقاق اللبناني، وقلدته الحكومة بعد الوفاة وسام الاستحقاق اللبناني المذهب وأوسمة أخرى، رحمه الله.
* * *