جاري التحميل

ولي الدين يكن

الأعلام

ولي الدين يكن([1])
(1873 ـ 1921م)

مولده ونشأته: ولد ولي الدين يكن في الأستانة سنة 1873م من أسرة تركية، وجاء به والده مصر وهو لايزال في أول عمره، ولم يلبث الوالد أن توفي والمترجم في السادسة من عمره، فكلفه عمه علي حيدر باشا وزير المالية المصرية يومئذ، وأدخله مدرسة الأنجال المشهورة التي أسسها توفيق باشا خديوي مصر لتعليم أنجاله بعد أن ضم إليها فريقاً من أولاد أمراء مصر ووجهائها.

درس المترجم مع الخديوي عباس في مدرسة واحدة، وتعشق الأدب العربي، فأخذ أصوله وفنونه عن أئمته في ذلك العصر، وظهرت مواهبه الكتابية على حداثة عهده، وأتقن العربية إتقانه للتركية مع معرفة واسعة بالفرنسية وإلمام بالإنجليزية، وانصرف إلى الكتابة في الصحف تارة أدبياً وتارة سياسيًّا.

رحلته إلى الأستانة: استخدم في النيابة الأهلية، ثم في المعيّة الخديوية، ولما بلغ الرابعة والعشرين من عمره قصد إلى الأستانة مسقط رأسه، وقضى فيها حوالي سنة عند عمه فائق بيك يكن أحد أعضاء مجلس شورى الدولة، ثم عاد إلى مصر فأصدر جريدة (الاستقامة)، فمنعت الحكومة التركية دخولها إلى الممالك العثمانية، فأوقف صدورها، وشرع بعد ذلك ينشر مقالات ضافية في السياسية العثمانية في جرائد المقطم والمشير.

نفيه: وبعد سنة قصد ثانية الأستانة، فعين في الجمعية الرسومية الجمركية، ثم عضواً في مجلس المعارف الأعلى، ولم يلبث أن نفاه السلطان عبد الحميد إلى سيواس، وظل في منفاه إلى أن أعلن الدستور العثماني سنة 1908م، فعاد إلى الأستانة ومنها إلى مصر، وقد ألف وهو في منفاه كتابه (المعلوم والمجهول)، ضمّنه رحلته إلى الأستانة وتاريخ منفاه إلى سيواس.

في خدمة الحكومة: وبعد عودته إلى مصر عين في وزارة العدلية المصرية، إلى أن تولى السلطان حسين كامل الأريكة فدعاه إليه، وعينه سكرتيراً عربياً في الديوان العالي، وكان ذلك أسعد عهد مرّ على المترجم، لولا أن طلائع المرض أخذت تشتد وطأتها عليه.

فواجعه: وشاء القدر أن يفجعه بولده، فرثاه بأبيات أقعده المرض عن إلقائها، كما أقعده الحزن عن تشييع ذلك الولد الحبيب إلى مرقده الأخير، وبعد مدة مات ولده الثاني، فكان المرض يشتد عليه، ومع ذلك فقد كان يصارع الحياة والمرض ويوالي نشر رسائله الأدبية والسياسية الرائعة في جرائد الأهرام والمؤيد والرائد المصري، كما وأنه تولى رئاسة تحرير جريدة الإقدام.

مؤلفاته: ألف: 1 ـ كتابه المجهول والمعلوم، في منفاه في ولاية سيواس الأناضولية، ووضع الكتابين المشهورين: 2 ـ الصحائف السود 3 ـ التجاريب،4 ـ كتاب خواطر نيازي، أو صحيفة من تاريخ الانقلاب العثماني الكبير، وترجمإلى العربية رواية الطلاق لمؤلفها (بول روجه)، وكانت بينه وبين الأديب الكبير أنطون باشا الجميّل مودة، فاختص مجلة الزهور التي كان يصدرها صديقه مدة أربع سنوات بنشر قصائده ونبذه الأدبية، وقضى أكثر أيام حياته قابعاً في داره بين الكتابة والنظم، وبين مخالب السقم وبراثن اليأس منسيًّا حتى من أقرب الناس إليه.

شعره: لقد كان من أعلام شعراء الشرق، وفي طليعة أحرار الشرق، فهو شاعر المنظوم والمنثور، يصوغ كلامه المرسل كأنه الشعر توقيعاً وانسجاماً، وخيالاً وروعة في المعاني، حتى لتكاد تستقيم جملته شعراً موزوناً، لقد نطق بالشعر قبل أن يبلغ العشرين من عمره، وكان له شعر كثير أحرقه برمته، أما شعره في ديوانه، فإنه مما قاله بعد ذلك، وقد أراد قبل وفاته بعامين أن يطبع ديوانه، إلا أن المرض حال دون أمنيته، وقد قام شقيقه بطبعه.

لقد جاء ديوان ولي الدين يكن في سبعة أقسام: الشعر السياسي وهو أكبر الأقسام، الرثاء والعزاء، التهنئة والمديح، الدهريات، الهجاء وهو أربعة أبيات منزهة عن القول المرذول، الغراميات، المتنوعات.

كان هذا الشاعر العبقري ملء روحه الشاعرية، وملء قلمه الفصاحة، يستهوي النفس بسلاسة ألفاظه، ومتانة قوافيه، وعذوبة أسلوبه، ويملكها برقة معانيه التي يصورها تصويراً كله سلامة في الذوق ونزاهة في الفن، وقد مازجت الشاعرية وهي سجية فيه نفساً عزيزة حساسة، وقلباً طاهراً رقيقاً، فهو إذا تأثرت نفسه وخفق قلبه قال الشعر فأرسله عفو الخاطر، دون إعنات فكر أو إجهاد قريحة.

ومن غرر نظمه قصيدة بعنوان (وعشنا على بؤس) نقتطف منها هذه الأبيات:

لياليَّ، أبلي من همومي وجددي

لك الأمر، لا تقوى على رده يدي

فما أرتجي والأربعون تصرَّمت

ولا عيش إلا ينتهي حيث يبتدي

سكتُّ سكوتاً لا يربْكِ امتداده

فلا خاطري باق ولا الشعر مسعدي

ولا فيّ من روح الشباب بقية

ولست بمشتاق ولست بموجد

حزنت على الماضي ضلالاً ومن يعش

كما عشت لم يحزن ولم يتجلد

وما لي منه خاطرٌ غير أنني

عدلت فلم أفتك ولم أتعبد

ومن روائع شعره قصيدة شاعرة تهاجر مشاعراً!!

تمسين ناسية، وأمسي ذاكرا

عجباً، أشاعرة تهاجر شاعرا؟

فهل الملائك كالحسان هواجر

إن الملائك لا تكون هواجرا

إن كنتُ لا أسعى لدارك زائرا

فلكم سعى فكري لدارك زائرا

وأخو الوفاء يصون منه غائبا

أضعاف ما قد صان منه حاضرا

يصيبك طير الروض في ترجيعه

يا ليتني في الروض أصبح طائرا

ويهز منك الزهر في زفراته

نفساً تظلُّ لها النفوس زوافرا

قد عشت دهرك بالمحاسن صبة

وقضيت دهري بالمحاسن حائرا

أنا اقتسمنا السحر فيما بيننا

لله ساحرة تساجل ساحرا

لا بد في هذي الحياة من الهوى

إن الهوى يهب الحياة نواظرا

ولقد تهب عليه يوماً سلوةٌ

فتنيم ساهرة وتترك ساهرا

يا ويح ذي قلب يناجي مثله

يدعوه مؤتلفاً فيبقى نافرا

قلبان: ذو صبرٍ يعاني هاجرا

أو هاجرٌ ظلماً يعذب صابرا

متوافقان على الشكاية في الهوى

كم جائرٍ في الحب يشكو جائرا

إن كان قلبي في التصبر مذنبا

فليمس قلبك في التصبر عاذرا

سيعود ذاك الودُّ أبيض ناصعا

ويصير هذا العهد أخضر ناضرا

مرضه: أصيب بمرض (الربو)فظل بين تباريح الألم يشتاق منيَّته ويحن إلى الرقاد الأبدي، كان إذا دجا الليل تكاثرت مخاوفه، فلا يغمض جفناه، وإذا أغفى إغفاءة انتبه صاحياً مذعوراً تكاد أن تنقطع أنفاسه، ويشتد اضطراب قلبه وتبرد يداه ورجلاه، فيختلج في مكانه ويتلوى تلوي الأفعى إذا ألقيت في النار، يريد تنفساً يستعيد به ما يوشك أن يذهب عنه الحياة فلا يجده، حتى إذا بلّله العرق وأنهكه التعب عاودته أنفاسه شيئاً فشيئاً وذهبت النوبة عنه، على أن تعود بعد ساعة أو ساعتين، ثم كان من اشتداد المرض عليه أن ترك منصبه في القصر السلطاني ولازم منزله، وكان آخر ما نظم بيتان وجدا قرب سريره، وهما:

يا جسداً قد ذاب حتى امّحى

إلا قليلاً عالقاً بالشقاء

أعانك الله بصبر على

ما ستعاني من طويل البقاء

وفاته: لم يلبث أن أفلت واستراح من حياة كانت كأسها مترعة حنظلاً ومرًّا، مع أن كل شيء كان يؤهله ليذوق كؤوس الصفاء أروقها، فقد قضى نحبه بمدينة حلوان ليلة الأحد في السادس من شهر آذار سنة 1921م، ودفن بالقرافة بالقرب من قبر ابن الفارض.

كان متواضعاً يزينه الوقار والمهابة، ذا نزاهة وإباء ونفس شريفة، وعنصر كريم.

وقد أبى الدهر إلا أن يغمط فضله بعد موته، كما قسا عليه الدهر في حياته، فقد كانت الحفلة التي أقيمت لتأبينه في 15 نيسان 1921م بسيطة، وكان حول قبره نفر قليل، فلم يحضرها معظم أدباء مصر وحملة الأقلام فيها، مع أنه كان خليقاً بهم أن يتألبوا حول ضريح من كان في طليعة الأدباء، وكان ولي الدين يتوقع مثل ذلك، فهو الواصف حالة الأديب في الشرق أجمل وصف في مقال عنوانه (مصارع الأدباء).

هكذا كانت حياة هذا العبقري البائس، فقد فجع بولديه وقضى حياته في اليأس والآلام، ومات وهو في التاسعة والأربعين من عمره، وكذلك شاء القدر أن يموت ولده فولاذ يكن الشاعر العبقري في عمر الورد فلا يتخطى الخامسة والعشرين من عمره.

p  p p

 



([1])  (أ) (2/464 ـ 466).

الأعلام