جاري التحميل

أثر الحرب في العلاقات السياسية الدولية

الموضوعات

أثر الحرب في العلاقات السياسية الدولية                                                         

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقال :

* تمهيد:

 منذ القديم تقـوم علاقات دوليـة شبه رسمية بين الملوك والأمراء، يتم في ذلك إكـرام الوفـود الملوكيـة بين الدول، ولمـا جـاء الإسلام أراد أن يوثـق تلكالعلاقة ما دامت تشجع على السلام الذي يبتغيه الإسلام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصدى لوفود الحجاج فيعرض عليهم دعوته ويرسل السفراء إلى القبائل يحملونكتباً مختلفة لتبليغ الرسالة، ويعقد المعاهدات مع الأقوام ليأمن شرهم وعداوتهم، فقد أرسل كتباً إلى قبيلـة بكـر بن وائـل وبني الجرمـزة بني جهينـة وبنـي غفـار وأسلم([1]).

 كما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتباً في السنة السادسة بعد عمرة الحديبية إلى الملوك والأمراء، منهم: كسرى، وقيصر، والمقوقس، والنجاشي، والحارث الغساني، كي ينشر الإسلام بالوسائل الدبلوماسية، كما يتضح من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم التالية:

 «سلام على من اتبـع الهدى، أمـا بعد فإني أدعـوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّـهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾([2]) [آل عمران: 64]«.

 لقـد أخـذ التمثيـل الدبلوماسي في العصـور الإسلامية شكل الدعوة إلى الإسلام، وتسهيل التبادل الودي بين الأمم، وتوثيق الصلات التجارية والثقافية،وتبادل الأسرى، وفض المنازعات، وعقد المعاهدات، ولا أدل على أهمية التمثيل الدبلوماسي ما جاء في الإسلام من الحض على تأمين الرسل والشعراء:

 1 ـ روى أحمد وأبو داوود عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء ابن النواحة وابن آثال رسولا مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: أتشهدان أني رسول الله؟قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «آمنت بالله ورسوله، لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما» قال عبد الله: فمضت السنة أن الرسل لا تقتل([3]).

 2 ـ وعن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثتنـي قريش إلى النبـي صلى الله عليه وسلم فلما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقـع في قلبي الإسلام فقلت: يا رسول الله لا أرجع إليهم. قال: «إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرود ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع» يدل الحديث الأول على عصمة دم الرسل فلا يجوز التعرض لهـم والواجب أن يقوموا بأداء المهمـة التي كلفـوا بهـا، والحديث الثاني قال فيه الشوكاني: «فيه دليل على أنه يجب الوفاء بالعهد للكفار كما يجب للمسلمين لأن الرسالة تقتضي جواباً يصل على يد الرسول فكان لك بمنزلة العهدة»([4]).

 وقد سار المسلمون على نهج إكرام الرسل بحفاوة، رافقها كثير من الجلال والعظمة، والقانون الدولي اقتصر فقـط على ما قـرره معهـد الحقوق الدولية سنة 1895م، أن الحصانة تبقى حتى في حالة الحرب بين الدولتين، طوال المدة الضرورية، كي يترك السفير البلاد هو وحاشيته وأوراقه([5]).

 أما بالنسبة للتمثيل الدبلوماسي، فينتهي في القانون الدولي بانتهاء العلاقات السلمية «وعندئذ لا يبقى من معنى أو فائدة عملية لبقاء رجال البعثة الدبلوماسية والقنصليـة، ولا يمنـع             ذلـك في أن يتمتع الدبلوماسيون بالامتيازات والحصانة الدبلوماسية المدة الكافية لمغادرتهم الإقليم، كما يتوجب على الجهات المسؤولة في الدولة التي يقيمون فيها أن تعاملهم بمنتهى الرعاية، وأن تحميهم من كل اعتداء إلى أن يغادروا إقليمها»([6]).

 أما في الإسلام فلا تنتهي العلاقات الدبلوماسية بمجرد إعلان الحرب أو البدء بها «وإنما لا بد في لإسلام من قيام قرينة على أن الممثل السياسي أصبح خطراً على الدولة»([7]). وبذلك فالذي عليه النظام الإسلامي هو أن العلاقات الدبلوماسية، لا تتعطـل إلا بإبعـاد المعتمـد أو بسحبـه من قبل دولته، وهذا هو رأي فريق من شراح القانون الدولي الذين قالوا: إن قيام الحرب في ذاته لا ينهي مأمورية الممثل الدبلوماسي أو القنصلي وإنما ينهيها سحبه أو طرده([8]).

*  *  *

* المطلب الأول ـ أثر الحرب في المعاهدات:

 تعرف المعاهدة: على أنها عقد العهد بين الفريقين على شروط يلتزمونها([9]). وهي بالمعنى الأخص موادعة المسلمين والمشركين سنين معلومة([10]).

 وتعرف في القانون الدولي بأنها: اتفاق بين شخصين أو أكثر من الأشخاص الدولية، من شأنه أن ينشئ حقوقاً والتزامات متبادلة في ظل القانون الدولي([11]).

 يبـدو من التعريفين أن معنى المعاهـدة أوسـع في الشريعـة منه في القانون الوضعـي، إذ يشمـل في الشريعـة الإسلاميـة أشخاصاً اعتبارية غير الأشخاص الدولية، التي تخص الدول، فيمكن أن تكون المعاهدة مع فئة أو أفراد، يشرع الإسلام المعاهدات لأنهـا تضبـط الفريقين بالعهد، فلا يكـون منهما ما يدعـو إلى اعتداء بإثارة دول أو جماعات ضد بعضهم، فتكون الأمور قائمة على أسس ودية وسلميـة، يأمـن كلا الطرفين بعضهما، لذلك أمر الإسلام باحترام المعاهدات في غير موضـع من القـرآن الكريم منهـا قولـه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِۚ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۗ إِنَّ اللَّـهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾[المائدة: 1]، ﴿ فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾[التوبة: 4]. ﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 7] وهنـاك عهـود وقعـها النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهـود التزمـها إلا أنهم نقضوها، فاستحقوا من العذاب ما كان جزاء وفاقاً.

*  *  *

* المطلب الثاني ـ مشروعية المعاهدات وبعض أحكامها:

 المعاهدات من أفضل السبل لضمان كرامـة الدول، وصيانة حقوقها إذا ما التزموها، ومن هنا جاء الإذن للإمام، بذلك، قال أبو يوسف: «فللإمام أن يوادع أهل الشرك إذا كان في ذلك صلاح الدين والإسلام، وكان يرجو أن يتألفهم بذلك على الإسلام»([12]). والإسلام في كل تشريعاته يرجو أن يتألف قلوب العباد لينقذهم من جهالة الكفر إلى عدل الإسلام، فلم تكن الغاية مكسباً دنيوياً، فعند الله مغانمكثيرة، وإنما هي دعـوة إلى الله ورفق بعبـاده، ويستدل على مشروعيـة المعاهدات بما يلي:

 أولاً ـ القرآن الكريم: هنـاك آيات كثيرة تـدل على المعاهدات منـها قولـه سبحانه وتعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّـهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ﴾[النساء: 90] وقوله سبحانه: ﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّـهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾[التوبة: 7].

 ثانياً ـ السنة المطهرة: كانت السنة المطهرة هي الترجمان الحي للقرآن، والذي طبق عملياً، فضرب بذلك المثل الأسمى للإنسانية، في صيانة المعاهدات وتمجيدها، منه قولـه صلى الله عليه وسلم في حلـف الفضول: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت»([13]).

 وبعد أن هاجر صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، قام بإبرام معاهدة مع اليهود أقرهم فيها على دينهـم، وأخذ العهد فيها على الطرفين، أن يلتزموا ببنود تلك المعاهدة، من تعاون وتضامن ودرء للعدوان الخارجي ـ التحالف الدفاعي ـ حيث جاء في نصها: «أن اليهـود ينفقـون مع المؤمنين ما داموا محاربين وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ ـ يهلك ـ إلا نفسه وأهل بيته»([14]).

 فما المانـع أن يتعاهـد المسلمون اليـوم مع غيرهم على وفق هذه الاتفاقية، التي تقرر حرية العقيدة والرأي وحرمة المدينة والحياة والمال وتحريم الجريمة وكأن هذا ميثاق لأمم متحدة»([15]).

 ولما منعت قريش النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول إلى الحرم وأراد أن يدخله وصحبه، خـلأت بـه القصـواء ببعض الطريق فقـال: «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمـون فيهـا حرمـات الله إلا أعطيتهـم إياها»([16]). وتـم الصلـح بين المسلمين والقرشيين، والتزم المسلمون ببنودها، التي كانت على المسلمين أشـد من ضرب الحسام المهنـد، فأعطـوا بذلك المثـل الأعلى بالتسامح، والميل إلى العدل واحترام العهود، على الرغـم من وجـود بـند أزعـج المسلمين كثيراً ينص على أن من جاء محمداً صلى الله عليه وسلم مسلماً رد إلى المشركين ولا عكس، فأراد بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين بأن الإسلام، أعـز من أن يهتم بضعيف عقل أو مزعزع يقين، وحرصاً من النبي صلى الله عليه وسلم على المعاهدة كان يأمر بكتابتها.

 وتتضافر الأدلة في كتاب الله وسنة رسوله في التحذير من نقض المعاهدات: عن أنس رضي الله عنه قال: خطبنا رسول صلى الله عليه وسلم فقال: «لا إيمان لمن لا أمانه له ولا دين لمن لا عهد له»([17]). وروى أحمد والطبراني والبخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لكل غـادر لـواء يوم القيامـة يرفـع بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة»([18]).

 والمراجـع للتاريخ يتوقـف على مـدى التزام المسلمين بالمعاهـدات وعدم نقضها، كي يفتح الباب للدعوة عن طريق فيه أمن وسلام، ومنه يتضح ألا «مانع في الإسلام من أن تعقد اتفاقات متنوعة مع الأمم الأخرى، لصيانة السلم الدائم إذا أحسنت فيـه تلك الأمم الوفاء بتلك الاتفاقات والمعاهدات، ولا مانع شرعاً أيضاً في ارتباط المسلمين بميثاق هيئة الأمم المتحدة، ما دام الميثاق يهدف إلى تحقيق الأمن والطمأنينة، وتوفير الحريات العامة وإقامة مبادئ الحق والعدل والمساواة بين الناس، وذلـك يشبـه حلـف الفضول الذي أقـره الإسلام وأجـاز الارتباط به»([19]).

 تقسم المعاهـدات في الإسلام إلى قسمين: معاهـدات دائمة: كعقد الذمة وتدفع فيه الجزية. ومعاهدات مؤقتة: كالأمان أو الصلـح الذي يقع بين زعيمين في زمن معلوم بشروط مخصوصة. ولا مانع شرعاً من عقد معاهدات بغرض حسن الجـوار والصناعة والتجارة أو أي نوع من أنواع التعاقد الدولي لإقرار السلام وتبادل المنافع([20]).

 ونقض المعاهدة المؤقتـة (من أمان) خاضع لتقدير الحاكم المسلم، فإذا خبر خيانة المعاهد، فللحاكم نقض عهده، لقوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾[الأنفال: 58]. وهـذا هـو رأيي في أنه لا ينقض الصلح أو الهدنة إلا إذا وجدت خيانة أو غدر من العدو، ويقيم أمارات تدل على ذلك، وإلا فيجب الوفاء لهم بالعهد كما هو مقتضى الآية السابقة([21]).

 والخـوف هنا بمعنى: اليقين كما جـاء في قولـه تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[البقرة: 46]. والرجاء بمعنى: العلم: ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّـهِ وَقَارًا﴾[نوح: 13] فإذا ظـن الخيانة، وثبتت دلائلهـا وجب نبـذ العهـد لئلا يرفع المنادي عليـه في الهلكـة. وإذا كان المعاهدون ببلاد الإسلام ونبـذ إليهم الإمام، فيجب عليـه أن ينذرهم ويبلغهم المأمن، والمعتبر في إبلاغ المأمن: أن يمنعهم من المسلمين ومن أهـل عهدهـم، ويلحقهم بدارهم ولو في أداناها. ويرى الشافعية أنـه إن كـان لـه مأمنان فعلى الإمـام إلحاقـه بحيث يسكن منهما، وإن كان له بلد شرك كان يسكنها ألحقه الإمام بأيهما شاء الإمام.

 وهذه درجة من الإنصاف قصّر عنها أهل زماننا، مع ما عندهم من حقوق الدول، وقواعـد الحرب ومحكمـة العـدل، فإن دول العصر الحاضر تبدأ بالهجوم وسائر أعمال الاعتداء، حالما تعلن الحرب دون أن تكون مجبرة عـلى الانتظار بعد الإعلان، حتى أن بعضها تهاجم قبل إعلان الحرب بصورة رسمية([22]).

*  *  *

* المطلب الثالث ـ نقض الذمة:

 الذميون رعايا مسلمون فلا يجوز لهم أن يأتوا بما يخالف العقد الذي أبرموه مع المسلمين، أو يخل بالآداب العامة للمجتمع الإسلامي، فالحاكم المسلم حاكم للجميع مسلمين وذميين، فأي خروج على القانون يعتبر نقضاً وتحدياً للمواطنة، التي على أساسها يعامـل النـاس، فليس لـه كشف عورة المسلمين، أو الاستهتار بدينهم أو ارتكاب المخالفات كالتجسس لحساب الحربيين، أو فتن المسلمين، أو القتل عمداً، أو القذف، أو الإخلال بالآداب الإسلامية العامة، لذا يرجع تقدير العقوبة في ذلك للإمـام فإن كان من الخطورة ما يضر بالمسلمين إلى درجة بالغة قتل، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بكعب الأشـرف طاغيـة اليهود «فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه هجا النبي صلى الله عليه وسلم وسبه وكان يشبب بنساء المسلمين وكان عاهد الرسول ألا يعين عليه أحداً ثم جاء مع أهل الحرب معيناً»([23]).

*  *  *

* المطلب الرابع ـ نقض الهدنة:

 الأصل في العلاقة الإسلامية أن يحافظ المسلمون على المواثيق مع الأعداء، لقوله تعالى: ﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ[التوبة: 7]. وقوله تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾[التوبة: 4] فالآية الأولى تدل على الوفاء بعهدهم ما داموا ملتزمين به، والثانية اشترطت الوفاء بالمدة ما لم يظاهروا على المسلمين أحدا، وتنقض الهدنة «بقتال أو بمظاهرة عدو أو قتل مسلـم أو أخـذ مـال... وكذلـك إذا ارتكبت بعـض المخالفات واستهتر بعقائد الإسلام كشتم الإله أو النبي أو القرآن»([24]).

 قـال تعالى: ﴿وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ﴾[التوبة: 12] معنى الآية: أنهم إن نقضوا العهد جاز قتالهم، وتنقضي بذلك الهدنة، كما حصل من يهود بنيقريظـة حينما ظاهـروا الأحزاب على رسول الله عليه السلام بعد أن كانوا في عهد معه.

 إن مقتضى الأمان أن يأمن كل من الطرفين جانب الطرف الآخر، فإذا قاتل أحدهما الآخر انتقض العقد الخاص بينهما. فلما نقضت قريش عهد النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليهم وقاتلهم وفتح مكة وذلك بسبب مظاهرة بعضهم لبعض، وكذلك لما نقضت بنو قريظة وبنو النظير عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فغزاهم.

 وفي القانون الدولي نصت لائحـة الحرب البرية، على أن أي إخلال خطير بعقد الهدنة، يعطي الطرف الآخر الحق في نقضها، وله في حالة الضرورة القصوى أن يعود إلى المادة 41 من اللائحة المذكورة على أن حصول الإخلال من أفراد غير مصرح لهم لا يعطي الطرف الآخر الحق في نقض الهدنة.

هل ينتقض العهد بنقض بعض المعاهدين؟

 إن نقض بعـض المعاهدين العهد دون بعض بإغارة على المسلمين، أو بأن أتوا ما يوجـب النقض، فإن سكت بقيتهـم، ولم ينكـروا ما فعلوا بعد أن مكنهم المسلمون، ولم يعتزلوهم فتعبير الهدنة منقوضة، وبطبيعة الحال ينقض العهد بإقرار الناقضين على فعلهم، فيكون الكـل ناقضين، كما فعـل الرسول صلى الله عليه وسلم ببني قريضة وبني النضير وبني قينقاع.

 وإن أنكـر الآخرون على الناقض بقول أو فعل ظاهراً، أو اعتزل أو راسل الإمام بأنـه منكر لما فعله الناقض، مقيـم على العهـد لم ينتقض في حقه، وإن كان الناقض رئيسهم. لقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾[الأعراف: 165]. و لذلك يأمره الإمام بالتمييز، ليأخذ الناقض وحده فإن لم يفعل كان مظاهراً له، وإن عجز بقي على عهده([25]) ونقض البعض مـع سكوت الباقين دليل رضى، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بقريش لما مالأت بني بكر على خزاعـة، وبني قريضة لما أعانت أبا سفيان بن حرب على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وحيي بن أخطب وأخوه وآخر معهم، فنقض النبي صلى الله عليه وسلم عهدهـم وغزاهـم، قال الله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾[الأحزاب: 26].

 

*  *  *

 

 

 

 



(([1]   المسند 4 / 31.

(([2]   أخرجه البخاري في بدء الوحي ج 1 ص 9 ط1 / 1401 بتحقيق البغا.

(([3]   نيل الأوطار ـ الشوكاني ج 8 ص 29.

(([4]   نيل الأوطار ج 8 ص 30.

(([5]   راجع رسل الملوك لابن الفراء ص 86 ـ 134 وآثار الحرب ص 334.

(([6]   الحرب في القانون الدولي ـ العميد مراد ص 90.

(([7]   آثار الحرب في الفقه الإسلامي: ص 344.

(([8]   الحرب والحياد جنينة ص 173 آثار 344.

(([9]   تفسير المنار ج 4 ص 154.

(([10]   آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 346.

(([11]   مدخل إلى القانون الدولي ـ عزيز شكري ص 415.

(([12]   الخراج 207.

(([13]   سيرة ابن هشام 1 / 134 البداية والنهاية 2 / 291.

(([14]   تهذيب سيرة ابن هشام ص 142 فقه السيرة د. البوطي ص 205.

(([15]   آثار الحرب في الفقه الإسلامي: ص 353.

(([16]   نيل الأوطار ـ الشوكاني ج 8 ص 34.

(([17]   السنن الكبرى للبيهقي ج 9 ص 231.

(([18]   نيل الأوطار ج 8 ص 27.

(([19]   آثار الحرب في الفقه الإسلامي: ص 354.

(([20]   راجع الرسالة الخالدة ص 109 وآثار الحرب ص 356 ـ 357.

(([21]   راجع بداية المجتهد لابن رشد ص 284 الهداية، للمرغناني ج 2 ص 183 مغني المحتاج ج 4 ص 260.

(([22]   تقديم كتاب الشرع الدولي في الإسلام فارس الخوري ص:م.

(([23]   راجع البخاري: ج 4 ص 1481 بتحقيق البغا.

(([24]   ارجع إلى آثار الحرب ص 380 والمصادر التي يرجعك إليها.

(([25]   المهذب للشيرازي ج 2 ص 263 آثار الحرب 383 ـ 384 وما يحيلك إليه.

الموضوعات