أثر الحرب والجهاد في الأشخاص
أثر الحرب والجهاد في الأشخاص
كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس –بيروت – سنة (1439هـ - 2018م)
يتناول المبحث في هذه المسألة: حالة كون الأشخاص في دار الإسلام وحالة كونهم في دار الحرب.
المبحث الأول
أثر الحرب في أشخاص العدو في بلاد الحرب
لم تكن الحرب الإسلامية إلا ضرورة لحماية الدعوة ودفع الظلم، وأسمى ما ترجوه الدعوة الإسلامية أن يسـود العـدل بين الشعـوب، ويتحقق الإنصاف ويرفع الظلم، لذلك فإن أول ما يطلبه الإسلام من جنوده في الحرب هو الترفع عن قتل الأطفال الصغار والشيوخ الكبار والنساء، إذا لم يكن لهم مشورة في قتال أو مشاركـة فعلية في الحرب، يتجلى هذا في وصية النبي صلى الله عليه وسلم. كان إذا بعث جيشاً قال: «اخرجـوا باسم الله تقاتلون في سبيـل الله من كفـر بالله لا تغدروا ولا تمثلوا ولا تغلّوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع»([1]).
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «انطلقوا باسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتلوا شيخاً كبيراً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة، ولا تغلّوا وضمواغنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين»([2]).
وقد مر معنا ما أوصى به أبو بكر جيوشه حين بعثها إلى الشام بقوله: «إنك ستجد قوماً زعموا أنهم حبسـوا أنفسهم لله فدعهم وما حبسوا أنفسهم له، وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكله، ولا تحرّقن نخلاً، ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تجبن»([3]).
وبمثل ذلك كان دأب القواد المسلمين عبر التاريخ يوصون الجنود، لتحفظ كرامة الضعفاء، وتصان حياة من لا ذنب له في القتال.
فإذا سببوا حرجـاً للمسلمين، بأن شاركوا في القتال مشاركـة فعلية، أو برأي جاز قتلهـم (لأن العلـة في تحريم قتلهم كما هو صريح بعض الروايات هو القتال، وهؤلاء في العادة لا يقاتلون، فإن وجدت المقاتلة وجد معها الحكم، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً)([4])، لذلك قتل النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن باطا ـ وكان أعمـى ـ لمظاهرتـه يوم الأحـزاب على المسلمين مع قومـه، ونقضهـم العهـد مع النبي صلى الله عليه وسلم. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش أوطاس، فلقي دريد بن الصمة فقتل دريداً وهزم الله أصحابه([5]). والمدنيون على العموم الذين لم يحملـوا السـلاح ولم يقوموا بأعـمال قتالية، وانصرفوا إلى شؤونهم الخاصة، يأمر الإسلام بعدم الاعتداء على حياتهم، وكذلك من له (صفة حيادية فعلاً عن معاونة العـدو، كالملحقين العسكريين من الأجانـب ومراسـلي الصحف ورجال الدين التابعين للقوات الحربية)([6])، يعتبرون غير محاربين، بشرط ألا تكون لهم مشاركة برأي أو خدعة عسكرية، لتضليل أو نقل الأخبار، فعندها يحق للجنود المسلمين التعرض لهم.
وأصحاب الأعـمال يعاملون بالمعاملـة نفسهـا كالفلاحـين والأجـراء... وغيرهـم ممن كان على شاكلتهم، لمـا روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (اتقـوا الله في الفلاحين فلا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب»([7]). وروي عن جابر قوله: «كانوا لا يقتلون التجار)([8]).
كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الوصفاء والعسفاء([9]) أي: الأجراء والعبيد ويستثنى من هذا الجاسوس، فيجوز قتله بدون خلاف بين العلماء سواء كان امرأة أو رجلاً([10]).
هذا التشريع الذي جـاء بـه الإسـلام في حسن معاملة الضعفاء، وترتيب أحكام خاصـة لهـم بحيث لا يرهقهم الجنود، ولا يتلوعون بحر السلاح، كانت أعمال العنف في ما مضى من الزمن في الحرب، توجـه إلى جميع رعايا العدو دون استثناء، بما في ذلك النساء والأطفال والشيوخ، ولو لم يساهموا في الحرب، وذلك نتيجـة للفكـرة الشائعة آنذاك من أن الحـرب هي صـراع بين رعايـا الدولتين المتحاربتين.
ولذلـك انصـرف جهـد رجال القانون الدولي، إلى التخفيف من ويلات الحرب، بحمـل المحاربين على ممارسـة أعمال العنف ضد جيوش العدو ومحاربيه فقط، وقد تكللت الجهود بالنجاح وأصبحت قاعدة مسلماً بها، منذ مؤتمر وستفاليا الدولي سنة 1648، وبمقتضاها يقتصر توجيه أعمال القتال على القوات المحاربة فقط دون بقـية رعايا الدول المتحاربة، ثم دخلت القاعدة في مختلف التصريحات والاتفاقيات الدوليـة: كاتفاقيات لاهـاي سنة([11]) 1907. والأطباء والممرضون ورجال الدين يعتبرون غير محاربين ولا يجوز ممارسة العنف عليهم([12]).
* * *
المبحث الثاني
أثر الحرب على رعايا العدو في دار الإسلام
جرت المعاملـة بين الأمم سابقاً مع رعايا الأعداء، أنهم يؤخذون كأسرى حرب، إلى أن توصـل المشرعون الدوليون: إلى أن الدولـة لا تملـك أسـر هؤلاء الرعايا، وإنما يجوز لها أن تكلفهم بمغادرة إقليمها أو طردهم منه، فقررت اتفاقية جنيف في 12 / آب / 1949 حظر اعتقالهم، أو حملهم على الإقامة في مكان محدد إلا أن تستدعي ذلك مقتضيات الأمن (41 ـ 42) ولهم الاعتراض على الاعتقال أمام لجنة أو محكمـة خاصة، تعينها الدولة الحاجزة لهذه الغاية، ولا يجوز إبعادهم إلى دولة تضطهدهم، لأجل معتقداتهم السياسية أو أفكارهم([13]). إنما آل إليه التشريع الدولي من تطور يتفق مع الشريعة الإسلامية من حيث المبدأ: (فإنه بمقتضى الأمان الذي يحصـل عليـه الأجنبي في الإسـلام، يبقـى متمتعاً بكامل حريته في التنقل والتعامل مع المسلمين، ويبقى مقيماً في دار الإسلام، حتى وإن نشبت الحرب مع دولة المستأمن)([14]). وكل ما يترتب عليه من بقائه في الإقليم الإسلامي هو سريان أحكـام القانون الإسلامي عليه، أما بالنسبة للإبعاد أو الطرد فهو ما يسمى في الشريعة بالنبذ، فهو مقيد بخوف الخيانة، التي تدل عليها دلائل كافية. قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾[الأنفال: 58] والأمثلة على ذلك واضحة في طرد اليهود من المدينة، وطرد عمر اليهود من خيبر([15]). وبهذا تتميز الشريعة عن القانون الذي يجيز الإبعاد بمجرد بدء الحرب بيد أن الشريعة تقيده بخوف الخيانة.
أما الأمـوال المملوكة لرعايا الأعداء، فقد جـرى القانون الدولي على (أن يوقـف استثمارهـا، وتتم تصفيتهـا وتوضـع تحت الحراسة حتـى نهايـة الحـرب، ولا يمنع ذلك أن تسري عليها القوانين والأنظمة، التي تفرض على أموال المواطنين والمحايدين في حالـة الحرب)([16]). وأما في الشريعـة الإسلاميـة فقد تبين في بحث الأمان أن أمـوال العـدو مصونـة بحكـم الأمـان وتبقـى محفوظـة لـه وإن مات عادت إلى ورثته([17]).
* * *