جاري التحميل

أسباب وأهداف العنف

الموضوعات

أسباب وأهداف العنف

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقال:

أسباب العنف:

يرى الناظر إلى العنف للوهلة الأولى تعدد الوجوه وكثرة التشظي والتوزيع بين ثنايا الأحداث بمختلف أشكالها الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية... بدءاً من الفـرد وانتهـاء بالمجتمع والعلاقات الدولية التي تنظم الترابط بين أبناء البشرية، وعلى الصعيد العملي فهو يندس في كل جزئية من جزيئات الحياة، لذلك كان البحث فيه شاقاً ومعنتاً، فمن أراد تتبع ذلك في مظانة وجد صعوبة بالغة وكان كمن يبحث عن إبرة في كومـة قش، لذا رأيت من الخير أن أقصر البحث في أهم الأسباب التي تثير العنف وتكون سبباً في انبعاثه، ثم نبين موقف الشريعة والقانون كل على حده من العنف في كل من الجهاد والحرب.

 فالعنف يحمـل وجوهاً مختلفـة من حيث الظهور أحياناً بمظاهر مكشوفة يجدها المشاهـد في حالات الحروب والقتل والاغتيالات والقمع البوليسي الذي تقوم بـه الدولـة داخل قطرها، وبعض أشكال السيطرة الاقتصادية، وربما يحمل وجهاً خفيفاً لطيف المدخل خبيث النتائج كمراقبة الحياة الخاصة والضغط الذي تمارسه بعض الدول القوية ضد الدول الضعيفة.

 ومن المؤسـف أن أصحاب العنـف في العـصر الحاضر يستخدمون أرقى وسائل التدمير وأدقها تقنية على أوسع مدى، فالتقدم الإلكتروني بات شبحاً مرعباً يرصد حيـاة كثير من الناس أفراداً ودولاً «فالكاميرات المتناهية الصغر تستخدم في تحقيقات غالباً ما تكون سرية»([1]).

 ومن الجدير بالذكر أن العنف لم يكن وليد الساعة بل إنه قديم قدم الإنسان على وجه البسيطة، بيد أن وسائل الإعلام تتناقل أخباره في جميع أصقاع الأرض.

 فلغرابة مثـل هـذه الأخبار واستهجان المجتمعات لها، والخوف منها أخذ العنف منحى أكثر جدية، وأصبح من اللازم أن يبدأ العمل في البحث عن معالجته بالجدية التامة والهمة العالية، وعلى كافة المستويات لرفع هذا الخطر الداهم الذي يفتك في جسد البشرية ويمنعها نومها ورقادها. والعنف يسير في خطين متباينين: خط يضع العنف وسيلة لتحقيق فكرة فهو يسير على وفق ما يرشد عقل مبدعه، فيستبيح في سبيل ذلك المحرمات ويضع لها المبررات التي تركن إليها نفسه، وأما الآخر فهو الطريق العشوائي الذي ينفس حقد الإنسان وحنقه فلا يمارس العنفإلا هواية في حب الشر والإفساد.

 إن من الأهداف التي وضعت نصب عين الذي يحمل العنف، ألا يلزم نفسه بهذه التهمـة، بل ينفيها ويبرر عمله بأنه عمل سليم تطلبته الضرورة أو الواقع... الأمر الذي جعل وجهات النظر تتفاوت في تكييفه: فالبعض يرى عملاً ما عنفاً وآخـرون يخالفونـه في ذلك، وهذا بحسب المصلحة ووجهة النظر، والحرب هي الوجـه السافـر للعنف وهي تمثل مستنقع العنف في حيـاة البشرية قديماً وحديثاً، لذلك رأيت من الخير أن أبين بعض الأسباب التي تدفع إلى العنف ثم أبين هدف العنف فمن الأسباب.

 1 ـ الفكـر: تبدأ المعارك أول ما تبدأ في عقول الناس وما يستتبع ذلك من تصرفات مادية إنما يكون نابعاً من ذلك المصدر الأول الذي به تفوق الإنسان على جميع المخلوقات ويتفوق به على أخيه الإنسان، مع تعدد وجوه العنف كما يظهر لنا من فلسفـة تنازع البقاء، فيبدأ دور الاعتداء بقوة العضلات كعامل أساس في بلوغ الهـدف المرجـو في تحقيق الغاية المقصودة، سواء أكان بقوة المنطق أم بمنطق القوة، لذلك غالباً ما يكون الحامل على إشعال نار الحرب والعنف فكرة خاطئة تعتلج في أذهان البعض، فتقدم إلى الناس بثوب قشيب فيرتديه بعضهم، فيحملونمعه ذل المصيبة وتهديم الكيان وهدر الكرامة «إن مصائب الحرب العالمية وما حل بالناس من دمار وما حل عليهم من عذاب، كانت الوفاق لما يحمله الناس من أفكارخاطئة»([2]). فالفكـر يصنـع المبرر الذي يعطي الإنسان الضوء الأخضر في انتهاج السبيـل الذي أوصلـه إليه لتحقيـق تلـك الفكـرة، ونضرب مثلاً لذلك النظرية الداروينية([3])، التي بحثت في مجـال طبيعـي حياتي، بعـيداً عن المجـال السياسي وألاعيبـه، نرى كيف لـوي عنقهـا وقدمت كتبريـر علمـي وفكري مقنع لبعض الأعمال العسكرية الخالصة، فقد برر «الاستعمار نفسه بالداروينية كما لاحظ ذلك (فرانسوا جاكوب) حيث قال: «استخدم التطور البيولوجي([4]) كمثل ساطع على التنافس الحيوي وانتصار الأقوياء على الضعفاء والأسياد على العبيد، ليكون أساساً تفرضه الطبيعة لقيـام الفوارق الاجتماعية أو المعرفية ولتبرير انحرافها...» هكذا يقدم الاستعمار نفسه على أنه واقع طبيعي وسيرورة لتصفيةٍ لابد منها هي تصفية (المتخلف) على يد المتطور»([5]).

 وصاحب كتاب (الأمير): الذي يعتبر إنجيل السياسة يرسم خططاً جهنمية في تعويـد السياسيين على الخـتل والكـذب وتحريض الجموع العاطفية، وتحريش المناوئين بعضهم ضد بعض، وتقديس القوة التي تمثل في رأيه الحرية في القدرة على الإمسـاك بزمـام السلطـة، التي يهـون في طريقها كل صعب ويرخص كل ثمين. فيقول مبرراً هذا الموقف: «كان كل الأنبياء المسلحين جداً منتصرين، أما المسالمين فخذلـوا»([6]). يريد بذلـك أن على الحـرب أن تضـع كل فضيلة بين قوسين حتى لا تلاقي أي صدى للفضيلة.

 ما سبق كان الفكـر فيه قائداً إلى مصلحة مادية استباح العنف من أجلها، فما بالك بمن آمن بنظرية تضع الإنسان في سلم تدرج وانطلاق حتمي لا يحتمل شكاً أو ريباً في اعتقاده، عندها ستنقلب المخازي مفاخر في سبيل تحقيق النظرية، وإن كان على يد أعتى العتاة، فالشعب الجزائري الذي كان يناضل من أجل حريته واستقلاله في وجه غزاة طامعين، يقاوم بإيمانه غطرسـة الفرنسيين ويذب بعصاه ليطرد دبابات المحتلين، ويتبع (بوجـو) سياسة الأرض المحروقة، ويستبيح دماء المئات دون النظر إلى كونهم نساء أو أطفالاً أو مقاتلين فيكتب إنجلز([7]) مبرراً هذا العمل الإجرامي واصفاً (بوجـو) بالتقدميـة والجزائريين بالبربرية فقال: «كانت مقاومة البدو بائسة، ولكن رغم أن الأسلوب الذي اتبعه قادة عسكريون شرسون أمثال بوجو في الحرب، كان أسلوباً مرفوضاً، فاحتلال الجزائر هو عمل هام ومؤات لتقدم الحضارة... في النهاية إن البرجوازي العصري بحضارته وصناعته ونظامه: (تنويره) هو رغم كل شيء أفضل مـن السيد الإقطاعي أو قطاع الطرق وأفضل من الحالة البربرية للمجتمع الذي ينتمون إليه»([8]). إن إنجلز يسير وفق فكر ومنهج خط (البيان الشيوعي)([9])، الذي يشدد على دور الثورية البرجوازية، فوحدة النهج جعلت ماركس يبارك الاستعمار البريطاني في الهند من طرف آخر ويجعله مرحلة وصول إلى ربيـع الشيوعيـة الموعود. فهلا كان لديهما فضل من إنسانية أو طموح خلقي يربأ بهما على هذه التفاهات التي أنستهما في سبيل أفكارهما إنسانيتهما.

 2 ـ الطفرة المادية ولدت العنف:

 لابد للإنسان أن يكون له مثل أعلى يحتذي به ويسير وفق منهجه وإلا عاش حياته مضطرباً، تتنازعه الأهواء إذا مسـه الشـر كان جزوعاً وإذا مسه الخير كان منوعاً، ولابد لهذا المثل أن يكون دافعاً للرفع من شأن الإنسان وكرامته، وإلا فإنه سيهبط إلى درك الحيوانات والوحوش التي تستبيح كل محرم دون رادع أو وازع، فهو يعيش ليأكل ويتمتـع وحسب، فالإنسان الذي ينطلـق وفـق ما تمليـه عليه غرائزه من غائب، ما إن يرى وسائل الرفاه المادية قد حيزت لديه حتى يظن أنه قد جمع شرف التسلط والقهر، فعاث ضرراً بنفسه وبغيره، وهذا ما يظهر في الغرب الذي سـار وفـق «النظـام العلماني والنظرة المادية في المجتمعات الغربية ونظامها القيمي والخلقي الذي ولد هذه الظاهرة»([10]).

 إن التطور المادي والتقدم التقني الذي وُضِعَ الإنسان فيه موضع التابع للآلة التي غـدت صنم الحيـاة العصريـة ـ يخضع لها الإنسان بقداسة لها فعل الأفيون ـ أثر على تصرف الإنسان الذي أصبح حبيس الآلة، وانقطعت كثير من العلاقات الاجتماعية التي لا يستطيع أن يستغني عنها أي إنسان، فهي من طبيعته وتجمع عليه أمنه، فبدأ يبحث عن ذلك الذي يتعرف به على طبيعة العلاقات الاجتماعية، فوجد ذلك عند تجار الضمائر الذين سخروا الآلة في مراقبة الأفراد، ففتحت مؤسسات عريضة لمراقبة الحياة الخاصة عند الآخرين مثال ذلك «دليل عناوين (دانهيل) تذكر لوائح موضوعة تحت تصرف زبائنها، أما الأسعار فلائحة تضم أسماء (23.000) امرأة حصلن على مادة لنمو الأثداء ثمن الألف منها خمسة عشر دولاراً... إن رقم الأعمال السنوية لهذه التجارة يبلغ بضع مئات ملايين الدولارات، وفي الولايات المتحدة ما يزيد على مائتين وخمسين مؤسسة مختصة بتجارة الأسماءوالعناوين»([11]).

 واستطار شـرر هـذه العملية التي تحكمت بها حكومات غاشمة، متعدية المجـال الفردي الخاص، فأصبحت تراقب شعبها وتحصي عليه أنفاسه من حيث يدري أو لا يدري، وامتد الأمر فأصبح عملية رائجة في مراقبة الدول بعضها بعضاً، وتوسعت عملية التجسس وأصبحت أضعافاً مضاعفـة عما كانت عليـه من ذي قبل، وأول من سارع إلى هذه العملية الدول الكبرى، فقد «كشف ما يزيد على مئة جهاز سـري في السفارات وأماكـن السكن الأمريكي في الاتحاد السوفييتي»([12]). وكذلـك يحدث الأمـر نفسـه في أمريكا مما جعل العلاقات الدولية دائمة التوتر، مهددة بشبح الحرب العنيفة نتيجـة ما أحدثت المادة المتقدمة للإنسان من وسائل دقيقـة وفتاكـة بآن معاً. فإذا أردنا أن يصلح الأمـر فلابـد من وجـود حكومات رشيدة تنصف من نفسها وتنصف من غيرها فتصبح الآلة مأمونة النتائج.

 3 ـ السياسة الاستعمارية:

 امتلكت القـوة في العالم أيـد ليس لأصحابهـا رادع أو وازع من ضميـر، وضعت على رأس أهدافها التوسـع وامتصاص قدرات الشعوب وخيراتها، مهما كان الطريق دامياً ووعراً. فمارست ضغوطاً كثيرة سياسية وعسكرية واقتصادية... وحققت هذه الأهداف بالحديد والدم، فاستذلت الشعوب بتمزيقهـا وتجويعهـا وسفكت دماءها، وربطت مستقبل البلاد الضعيفة معها في مختلف النواحي.

 فمن الناحية الاقتصادية: نجـد أن السياسـة الاستعمارية ألزمت كثيراً من الدول أن تزرع منتوجاً واحداً وتكون هي السوق الوحيدة لهذا الإنتاج، والأمثلة في واقع الحياة كثيرة كالذي فعلته فرنسا في الجزائر بزراعة العنب، وكالذي حدث في جزيرة كوبا الصغيرة التي وجدت في مزارع القصب المصدر الوحيد لثروتها عام 1968 والولايات المتحـدة هي المستورد الوحيد لصفقاتها، بقصد التلويح بقطع العلاقات ورد البضاعة، معرضة أربعة ملايين كوبي للمجاعة بين ليلة وضحاها([13]). فإذا وصلت الدول الفقيرة أو الضعيفـة إلى هذه الدرجة، وضعتها الدولة القوية موضع المتسـول، وبدأت تجود عليهـا بصدقاتها وأعطياتها مقدمة بعض المواعظ الباردة المبطنة تحمل معها تهديداً ووعيداً.

 ومن الناحية السياسية: نجد أن الدول المستعمرة تضع نصب عينيها هدف التبعية من قبل الدول الضعيفة، فهي تقوم بتقديم المساعدات أحيانا إلى الدول الضعيفة، منها ما تكون اقتصادية ومنها ما تكون عسكرية... لغايات إستراتيجية([14]) وسياسية. ويعبر عنهـا المقال الاستعماري التالي أصدق تعبير «إن العامل الوحيد الذي قـد يستطيع إقناعنـا بالأخـذ ببرنامج واسـع حقاً من المساعدة الاقتصادية للبلدان الناميـة، هو يقيننا بأن صداقة هذه البلدان وتحالفها معنا ينطويان بالنسبة إلينـا على قيمـة إستراتيجية وسياسيـة ونفسيـة في الحـرب الباردة. هكذا تكلم سنـة 1954 (أجاكـوب فيز) المستشار السابـق للرئيس إيزنهاور مـبيناً بوضـوح ما بعـده وضـوح العلاقـة الوثيقـة بين (المساعـدة) وسياسـة القوة وإستراتيجية الحرب الباردة»([15]).

 أما من الناحيـة العسكريـة فالحديث عن الاستعمار يتلخـص في أنها تمثل مسيرة الدم والإجرام. فالاستعمار بأي شكل من أشكاله: عامل هدم لا بناء. مثير حروب وفتن. ويجعـل الضعيف يحقد بقسوة على أعماله الشنيعة فيتحين الفرصة لينتقم بأي طريقة مهما نعتت بها من ألفاظ (عنف، إرهاب، اعتداء) فهو مشحون يريد أن يفرغ ما في نفسه من إحن وأحقاد.

 ربما يقول قائل: إن القوة تفرض حالـة من السلم وإن كان معها ظلم، إن هذا القول خاطـئ فمن المحال أن يقوم سلـم على ظلم، ونشاهد ما فعلته القوة من فـرض سلطانهـا على جمهوريات كثيرة في الاتحاد السوفييتي بعد أن مر عليها سبعون عاماً، لم تغير من آمال الشعوب بل انقضت على النظام الروسي في موسكو، وموجات الهواء تحمل لنا أخبار ذلك صباح مساء، ليس هذا فحسب بل في جميع بقاع الدنيا وأشهـر الأحداث فيهـا الانتفاضة في فلسطين، التي ما زالت إلى الآن وبعد مرور زمـن على مواصلتهـا تعلن رفضها لجميع أشكال العنف والغطرسة الصهيونية.

 فالجذور الكامنة للعنف تتفجر براعمها كلما سنحت لها الفرصة، من أجل هذا انطلقت حنجرة الأمين العام للأمم المتحدة السابق الدكتور كورد فالدهايم حيث يقول في تقريره: «ومن الواضح أنـه لا يستحسن البحث في هذه الظاهـرة ـ ظاهرة الإرهاب ـ دون أن نأخذ بعين الاعتبار الخلفيات المسببة للإرهاب والعنف في أنحاء عديدة من العالم»([16]). فالشعب الذي لا يواجه الاستعمار بسلطته السياسية واجهه بقوة أفراده، فنظم جماعات أو عصابات وراقب أعداءه في الداخل والخارج، فتنطلق منه شـرارة العنـف والإرهاب بشكل مرير يورث مجتمعه حرباً لا تعرف نتائجها.

 4 ـ السلطة السياسية والقداسة الدينية:

 يشيع الآن على ألسنـة العـوام وأنصـاف المثقفين كلمة علماني، ظانين أنها مصطلح يغاير الدين لما عرف من تاريخ هذا المصطلح، فنحن نعلـم أن السلطـة الدينيـة في الغـرب استخدمت أقصى العقوبات وأعنـف الوسائـل في تحطيم من ناوأها، معطية رجال الدين منزلـة من القدسية والعصمة ما جعلهم يُكفِّرون كل من رأى غير رأيهم وقـال غير قولهـم، مما ولد موجة عنف عاتية على أثر ذلك في المجتمع الغربي. «والدارس لطبيعة هذه المجتمعات يجد أن الخلل بدأ منذ قرون، عندمـا كانت الكنيسـة في أوروبا مصادمة للعلم متحالفـة مع الحكام المستبدين، وكان تحالفها هذا يؤدي إلى حقد طبقات الشعب على هؤلاء الحكام وعلى الكنيسة معاً، وارتكبت الكنيسـة خطأ آخر حين تبنت قضايا علمية خاطئة واعتبرت من يخالفها من العلماء خارجاً عن حدود الدين وقواعده، فانفصلت المجتمعات بالثورة الفرنسية عن الكنيسة والاستبداد السياسي»([17]).

 فولدت حركة مقابلة للكنيسة والحكومات الظالمة لم تكن من الوعي والرحمة والاعتدال ما يجعلها قائدة إلى الخير، بل كانت على العكس وارتكبت مجازر يندى لها الجبين، فتولد بذلك العنف من العنف.

 مصطلحان يتقابلان ويتعانقان في علـم الدين والسياسـة: الأول التكفير والثاني الخيانة. فكثيراً ما تفتعـل حروب دينية على أمـور يجتهد بهـا بعضهم ظاناً الخارج عليها كافراً، وكثيراً ما تصفي الحكومات أعداءها من أبناء الشعب جسدياً تحت تهمة الخيانـة للوطن أو العمالة... ولو نظرنا في واقع الأمر لوجدنا المتهم في بعض الأحيان أكثر وطنية وإخلاصاً من قاتليه. ومثال ذلك «في الخامس من أيلول عام 1918م صدر مرسـوم عن مجلس سوفيـات مندوبي الشعـب جـاء فيـه بعد الاستماع إلى التقريـر الذي قدمـه رئيس التشيكـا عن النضـال ضد أعداء الثورة والتخريب، ونظراً للحالة الراهنة يعتبر مجلس سوفيات مندوبي الشعب أن ضمان الأمن في الداخل بواسطة الإرهاب هو ضرورة رئيسية... وحتى نحمي الجمهورية السوفياتيـة من أعدائها الطبقيين يجـب أن يعـزل هؤلاء في معسكرات الاعتقال، وكل شخص قـد اشترك في تنظيمات الحرس الأبيض أو في مؤامرات أو في أعمال عصيانية، يجب أن يرمى بالرصاص»([18]).

 فمن أجل حماية الجمهورية السوفياتية كان من الواجب إقامة مجازر تطحن برحاها كل موظف عَمِلَ في الحكومة السابقة، لذلك حصلت في أوائل أيلول في بعض المدن الروسية وعلى رأسهـا موسكـو مجازر أتت على كل من قيد بالسجن تماماً، كما حصل في باريس إبان حكم الإرهاب (الجاكوبي) وكانت حصيلتها حسب بعض المصادر الرسميـة ثمانمائة قتيل من الجيش الأبيض المناهض للثورة، ومن البرجوازيين الذين كانوا محتجزين في سجون بتروغراد وحدها([19]). وكانت تعليمات قيادة الثورة في التحقيق كالتالي: «لا تبحثوا عن إثباتات حتى تتحققوا أن سجينكم قد تصدى للسلطة السوفيتية بالقول أو بالفعل، إن واجبكم الأول أن تسألوه إلى أية طبقة ينتمي، ما هو أصله، ما هي درجة ثقافته، ما هي مهنته هذه هي الأسئلة التي تقرر مصيره. وهذا هو معنى الإرهاب الأحمر»([20]). من هنا نتعرف كيف تلتقي سياسة الأرض المحروقـة التي اتبعهـا (بوجـو) في الجزائر التي باركها إنجلز مع الإرهاب الأحمر الذي فعله أحفاد إنجلز الفكريين للحفاظ على السلطة الشيوعية. وأخـذت السلطـة القداسـة المفرطـة التي تجاوزت مـا فعلـه أصحـاب القداسة الدينية.

*  *  *

المبحث الثاني
أهداف العنف

يمكن التعرف على أهداف العنف من خلال النظر إلى الأسباب التي تدعوا إليـه، وبما أن الأسباب التي تدفـع إلى العنف كثيرة ومتشعبـة يصعب حصرها، كذلك يصعب حصر الأهداف المقصودة منه بمرام محددة واضحة تمام الوضوح، فقـد يأخـذ العنف مظهراً مادياً ظاهراً أو خفيا معنوياً غير محسوس، وقد يكون تعبيراً عن حقد يجيش في النفس نتيجة ما نزل بصاحبها من ظلم.

 إن بعض مظاهـر الأهداف المادية من العنف يتضح من خلال قيام بعض الدول بإشعال الحروب لغزو أو استعمار أرض غيرها لاستغلال خيراتها واستعباد شعوبها وتسخيرها، هذا على الصعيد الخارجي الواضح، الذي يشكل أكثر مظاهر العنف في تاريخ البشريـة. وقد يكـون للعنف مظهر داخلي تهدف منه حكومات الدول إخراس معارضيها والضـرب على يـد كـل من تسول له نفسه الوقوف في وجه السلطة، فترفع المشانق وتفتح السجون وسيلة رهيبة لغاية قبيحة. هذا العنفغالباً ما يقابـل بعنف مثله فربما يكـون رد العدوان من بعض الدول لا يقف عند حد الاعتداء بل يتجاوزه إلى الانتقام والتنكيل وقد يثور الشعب في وجه مغتصبيه لما يكبت من حقد دفين من فعل الظلمة، فيثور ثورة لا تبقي ولا تذر. وفي العصر الحاضر ترجم هذا في أوروبا الشرقية حيث ثارت الشعوب لتطيح بالظلمة في عام 1989م وأخـذ أوضـح الصـور وأجلاهـا في الأحداث التي دارت في رومانيا، فما كانت محاكمـة الرئيس (تشاوشسكو) والفئـة الحاكمة بعد أن قدر عليهم، إلا نتيجـة الظلـم والخيانـة إلى درجة أن الانتقـام تعـدى الحاكم إلى ذويه وحوكموا كمجرمين وهذا نهاية العنف والظلم.

 والعنف إذا تبنى منحى فكرياً خاصاً فإنه يهدف إلى تطبيق الفكرة وفرضها على المجتمع، نتيجـة لهذا الهدف ينشـأ صراع بين مؤيدي الفكرة ومعارضيها، قد يتخذ في أغلب الأحيان مظهر الشدة والعنف، وهذا ما حدث من صراع بين أنصارالماركسية و معاديهـا في الاتحاد السوفيتي، وفي أغلب دول العالم الذي وجـد فيها من يحمل فكرة يريد تطبيقها ووجد الأعوان والأنصار.

 قد يكون للعنـف هـدف آخـر وهو تحصيل المنافع المادية وامتلاك وسائل الرفاه، فيلجأ البعض إلى اتخـاذ سبل عنيفـة وغير إنسانية مثلما يحدث في العالم من اختطاف لأحـد الشخصيات الكبيرة، أو لأحـد أبناء الأغنياء بغية الحصول على مبلغ ما من المال، أو يقوم البعض بأعمال السطو والنهب... الغاية منها تحقيق نفع دنيوي عاجل... والأمثلة على هذه الأفعال يضيق بها الحصر.

 والملاحظة الأخيرة: مهما كان العنف يحمل من غايات وأهداف نبيلة يبقى عرضة للزلل والانحدار في مهاوي الخطأ، لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذه طريقة للوصول إلى غاية ما وقال: «إن الله يعطي على الرفق مالا يعطي على العنف».

 وهذا يمثـل دعوة إنسانية لجميع الخلـق أن يتبعوا طريـق الرفق ويعالجوا الأمور بأناة وحلم وتجمل ليتفادوا ما أمكن أحداثاً محزنة ومؤلمة.

*  *  *

 



(([1]   المجتمع والعنف ص 26.

(([2]   معالم تاريخ الإنسانية ص 1150 ـ 1160.

(([3]   واضع هذه النظرية عالم الطبيعة الإنكليزي تشارلز داروين 1809 ـ 1882 ففي كتابه (أصل الأنواع) وضع أسس نظرية الاصطفاء الطبيعي والصراع من أجل البقاء والنشوء إلى حال أفضل كما كان أصل الإنسان قرد.

(([4]   بيولوجيا: علم الحياة.

(([5]   أيديولوجيا الحرب والسلم ص 31.

(([6]   المرجع السابق ص 11.

(([7]   إنجلز: ولد في باريس 1820 وتوفي في لندن عام 1895 من أنصار الهيغلية اليسارية تعرف إلى ماركس 1844 فاتفقا وتم بعد لك صياغة البيان الشيوعي في عام 1848.

(([8]   أيديولوجيا الحرب والسلم 32.

(([9]   البيان الشيوعي: الوثيقـة البرنامجيـة الأولى للشيوعيـة العلميـة تشرح أسس الماركسية كتبها ماركس وإنجلـز ونشـرت في بداية عام 1848 م تبين فيه قانون التصارع الطبقي وتصارع التضاد حيث تزول طبقة إزالة حتمية لتحل محلها طبقة أخرى وحلول أسلوب إنتاج محل آخر وهكذا.

(([10]   مجلة الأمن والحياة. العدد 45 ص 36.

(([11]   المجتمع والعنف ص 28.

(([12]   المرجع السابق ص 26.

(([13]   المجتمع والعنف ص 30.

(([14]   استراتيجيـة مجموعـة الأفكار والمبادئ التي تتنـاول ميدانا من ميادين النشاط الإنساني بصورة شاملة تكـون ذات دلالة على وسائل العمل ومتطلباته بقصد إحداث تغييرات فيه وصولا إلى أهداف محددة.

(([15]   المجتمع والعنف ص 32.

(([16]   مجلة نهـج الإسلام ـ السورية العدد 28 السنة (8) ظاهـرة الإرهاب في المجتمع الدولي وموقف الإسلام منها د. فتحي الدريني.

(([17]   مجلة الأمن والحياة ـ السعودية عدد 45 ص 36.

(([18]   الإرهاب السياسي ـ أدونيس العكره ص 57 ط دار الطليعة.

(([19]   الإرهاب السياسي ص 57.

(([20]   المرجع السابق ص 58.

الموضوعات