جاري التحميل

الأمــــان

الموضوعات

الأمــــان

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقال :

* تمهيد:

 لقـد فتـح الإسلام باباً في إقامـة العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم على أساس من الود والتضامن، وأنه ما لم تكن حرب، فالحدود الإسلامية مفتوحة لجميع الناس دون تمييز، بما في ذلـك الحربيين حتى يتصلوا مع المسلمين ويتعرفوا على حياتهم، ويتحلوا بعـدل الإسـلام، ويتفيؤوا ظلالـه أملاً في هدايتهم، ويتبع الأمان تطور الأوضاع وتبدلاتهـا بحسب ما تقتضيه الأحـوال وتتطلبه الظروف سواء كان شفهياً أم كتابياً.

«ونظام الأمان في الإسلام يتسع لكل أنواع الحماية والرعاية المعروفة حديثاً لشخص الأجنبي وماله في بلاد المسلمين، أو لعقد الصلات السلمية بين المسلمين وغيرهم، حتى ولو جرينا على رأي فقهائنا القدامى في أن أصل العلاقاتمع غير المسلمين هـي الحـرب، وليس السلم. وقد كانت فكرة الأمان من الأسس الهامة لتدعيم السلام، فمثلاً كان إعطاء الأمان لوفود المسيحية في الحرب الصليبية نتيجة التسامح الإسلامي الذي يعتبر كأساس للمعاملات الدولية»([1]).

ـ ويدل لهذا ما يلي:

 أولاً: عن سعيد بن جبير أنه جاء رجل من المشركين إلى علي رضي الله عنه فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هـذا الأجل (أي الذي حدده القرآن للمشركين في سورة البراءة بأربعة أشهر بعد نقضهم العهد) لسماع كلام الله أو لحاجـة أخـرى فهـل يقتل؟ فقـال علي: لا، إن الله تعالـى قال: ﴿ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ [التوبة: 6].

 وهـذه الآيـة من محكم القرآن الكريم إلى يـوم القيامـة كما قـال الحسن ومجاهد([2]).

 وليس الأمان مقصوراً عـلى مجـرد سماع ما يتعلق بالإسلام وعقائده، وإن مدة الأمان تنتهي بانتهاء هذا الغرض، وإنما يبقى الأمان ثابتاً للشخص طيلة الأجل الممنوح، رغـم قيـام الحرب مـع قوم ذلك الشخص. قال ابن كثير في تفسير آية: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّـهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ﴾: والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام، في أداء رسالـة، أو تجارة، أو طلب صلح، أو مهادنة، أو حمل جزية، أو نحو لك من الأسباب، وطلب من الإمام، أو نائبه أماناً، أعطي أماناً ما دام متردداً في دار الإسلام وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه([3]). وكان المشركون يطلبون لقاء النبي صلى الله عليه وسلم لمفاوضة أو صلح أو أمر من أمور الدنيا([4]).

 ثانياً: أنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمان أم هانئ لرجل أو رجلين من أحمائها، فقد ذهبت عـام الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله زعم ابن أمي: علي أنه قاتل رجلاً قد أجرته فلان بن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ. وفي رواية: وكان الذي أجارته عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة، والحارث ابن هشام بن المغيرة كلاهمـا من بني مخزوم، وأجاز الرسول صلى الله عليه وسلم أمان ابنته زينب لزوجها أبي العاص بن الربيع، الذي كان قادماً بتجارة إلى المدينة فأصابتها إحدى سرايا المسلمين([5]).

 ثالثاً: وأجـاز النبي صلى الله عليه وسلم أمـان العباس بن عبد المطلب لمـا فتـح المسلمون مكة([6])، وفي القانـون الدولي يطالعنـا المشرعون على أن حقوق الأفراد، لا تكون مصانة من رعايا الأعداء في بلد المحاربين، فقد كانت «الدولة المحاربة في الماضي تقبض على رعايا العدو المقيمين على إقليمهـا وتعاملهم كأسرى حرب، ثم عدل هذا التدبير إلى عـدم جواز أسرهم، بل السماح لهم بمغادرة الإقليم في حال عدم الرغبـة في بقائهـم مقيمين فيـه، ثم خشيت الدول من انضمامهم إلى قوات العدو إذا غادروا الإقليـم، كـما خشيت من قيامهـم بالتجسس والتآمر إذا بقوا في إقليم الدولة أحراراً، ثم نظم الأمر باتفاقية لاهاي الخامسة 1907 حيث قضت باستبقاء الرعايا الذكور الصالحين للخدمـة العسكريـة في إقليـم الدولـة، ووضعهم تحت الرقابة، وتحديد إقامتهم أو اعتقالهم، أمـا بقيـة رعايا الأعـداء من نسـاء وأطفال وشيوخ فيجري تبادلهم مع دولتهم([7])».

 وبين شدة التشريـع الوضعي في ماضيـه وحاضره، وقسوة تطبيقه تطالعنا الشريعة الإسلامية بثمار علمها وتشريعها العظيمين، لنرى من خلال لك السماحةوالندى في الإسلام، فحين يكون الرعايا في بلاد غير المسلمين بين أسرى ومعتقلين من الأعداء، ترى المستأمنين في البلاد الإسلامية، يسيرون مطمأنين على دمائهم وأموالهم لا يخشون شيئاً، ما داموا ملتزمين بالقوانين والآداب العامة، فلهم متابعةتجارتهم، وعلاقاتهم كما هي دون وجل.

 إذاً «في ظل الأمان تستمر العلاقات غير العدائية مع أهل الحرب وإن كانت الحرب مستعرة أوارها»([8]). فالأمان في الإسلام ليس يعتبر فقط بمثابة جواز سفر لدخول الإقليم، وإذن بالإقامة يتمكن به المسلمون وغيرهم من تبادل المنتجات، وتقويـة أواصر التعاون وزيادة التفاهم والمـودة فيما بينهم دائماً، بل يعتبر أكثر من ذلك، فهو عقد لفرد، أو معاهدة لأكثر من فرد، يصبح به المستأمن كالذمي، إلا أنه «يلتزم بدفع ضرائب الدولة الداخلية كالجزية مثلاً»([9]).

 ما سبق يدل على أن الإسلام شغوف بالسلم ويعتبره الأصل، في العلاقات الدولية، وبالرغم من توالي الحقب التاريخية على أطوار مختلفة في المجتمع الإسلامي، لم تتغير السياسة الإسلامية تجاه غيرهم، على الرغم من تكرار الاعتداءات، وشحن الأحقاد ضـد المجتمع الإسلامي، «فقد أعطى المسلمون الأمان للوفود المسيحية في الحـروب الصليبية، وكانت هـذه الوفـود تأتي إلى خيـام المسلمـين المحـاربين المنتصرين لمفاوضتهم، فيلقـون كـل تكريـم وحفاوة، على عكس ما كانت تفعله ممالك المسحية في الأرض المقدسة بالمسلمين وبوفودهم وأسراهم»([10]).

 فالأمـان يدل على أن العلاقـات الدوليـة في الإسـلام ترتكـز على مبادئ العدالـة، واحترام الحقوق الفردية، وضمان الحرية الصحيحة، وتبادل المعاملات مع غير المسلمين كافة.

*  *  *

* المطلب الأول ـ تعريف الأمان:

 الأمان في اللغة: ضد الخوف([11])، أما في الاصطلاح الشرعي: فهو عقد يفيد ترك القتل والقتال مع الحربيين([12]). وهو كما عرفه المالكية: رفع استباحة دم الحربي ورقه وماله حين قتاله، أو العزم عليه مع استقراره تحت حكم الإسلام مدة ما([13]).

 ـ ويقسم الأمان إلى قسمين:

 أولاً ـ عام: وهو ما يكـون لجماعـة غير محصورين كأهل ولاية، ولا يعقده إلا الإمام أو نائبه كما في الهدنة وعقد الذمة لأن لك من المصالح العامة، التي من واجبات ولي الأمر النظر فيها على وجه صحيح.

 ثانياً ـ خاص: وهو ما يكون للواحد أو لعدد محصور كعشرة فما دون، وقيل مئة أو ثلاثمائة... ويصح من كل مسلم مختار.

*  *  *

* المطلب الثاني ـ ممن يصح الأمان؟:

 يصح الأمان من المسلمين جميعاً رجالاً ونساء وأحراراً وعبيداً «فمن حق أي فرد من هؤلاء أن يؤمن أي فرد من الأعداء يطلب الأمان، ولا يمنع من هذا الحق أحد من المسلمين إلا الصبيان والمجانين، فإذا أمّن صبي أو مجنون أحداً من الأعداء فإنه لا يصح أمان أي واحد منهما([14])» بدليل ما يلي:

 1 ـ القرآن الكريـم: يقـول الله عـز وجـل: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّـهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6].

 2 ـ السنة المطهرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمـد والبخاري ومسلم: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يـوم القيامـة صرفاً ولا عدلاً»([15]). والأحاديث في هـذا المعنى كثيرة وقـد سبقت الإشارة معنـا إلى قصـة أمان زينب رضي الله عنها لزوجها أبي العاص بن ربيـع، وأمان أم هانئ لأحمائها، وأمـان العباس رضي الله عنه لأبي سفيان وهي من السنة العملية التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

*  *  *

* المطلب الثالث ـ نتيجة الأمان:

 مهما تقرر الأمان بالعبارة أو الإشارة، فإنه لا يجوز الاعتداء على المؤمّن، لأنه بإعطاء الأمان له عصم نفسه من أن تزهق، ورقبته من أن تسترق. قال الإمام مالك رحمه الله عندما سئل عـن الإشارة بالأمان أهـي بمنزلـة الكلام فقال: «نعم وإني أرى أن يتقدم إلى الجيوش: أن لا تقتلوا أحـداً أشاروا إليـه بالأمان، لأن الإشارة عندي بمنزلة الكلام، وأنـه بلغنـي أن عبد الله بن عباس قال: ما ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو»([16]). إذن من نتائج الأمان أن تحقن دماء العدو، ولو كان ذلك في ساحة المعركة، فقد روى الإمام مالك عن رجل من أهل الكوفة، أن عمر ابن الخطاب كتب إلى عامـل جيش كان بعثه: «إنه بلغني أن رجالاً منكم يطلبون العلج، حتى إذا أسند إلى جبل، وامتنع قال رجل (مطرس) يقول (لا تخف) فإذا أدركه قتله، وإني والذي نفسي بيده لا أعلم مكـان واحـد فعـل ذلك إلا ضربت عنقه»([17]). فالغدر ليس من شيـم المسلمين، ولا من سجاياهـم، فهم أهل للوفاء، وكيف يحدث ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به»([18]).

 وقال صلى الله عليه وسلم «من آمـن رجلاً على ذمتـه فقتلـه فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافراً»([19]).

*  *  *

* المطلب الرابع ـ المستأمن:

المبحث الأول ـ تعريفه:

 وهو الحربي الذي دخل دار الإسلام بأمان، دون نية الاستيطان فيها بصفة مستمرة، بل يكون قصده إقامـة مدة معلومة، لا تزيد على سنة، فإن تجاوزها، أو قصد الإقامة بصفة دائمة، فإنه يتحول إلى ذمي، ويكون له حكم الذمي في تبعيته للدولة الإسلامية، يتبع المستأمن من الأمان، تلحق به أسرته زوجه وأبناؤه الذكور القاصرون والبنات جميعاً والأم والجـدات والخدم، وما داموا يعيشون مع الحربي الذي أعطي الأمان([20]).

 وأصل هـذا قولـه تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّـهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ ﴾[التوبة: 6] لقد تبين لدينا سابقاً، أن الأمـان يتـم مـن أحـد من المسلمين، وهـذا يعتبر تعهـداً من المسلمين فلا يجوز الخيانة، وعليهم حفظ المستأمن وأهله وماله، وبمجرد إعطاء الأمان يحرم حينئذ «القتل والسبي والاغتنام للرجال والنساء والذراري والأموال، وكذلك يحرم الاسترقاق، ولا يجـوز ضرب الجزية على المستأمن، لأن فعل شيء من ذلك غدر والغدر حرام»([21]).

 فإذا تبع المستأمن أهله وماله، ونقض أمانه فلا ينقض أمانهم، بل يبقوا في حفظ الدولة الإسلامية حتى يبلغوا المأمن، ما لم يختاروا البقاء في الدولة الإسلامية.

*  *  *

المبحث الثاني ـ حقوق المستأمن:

 أولاً: الحماية: يلتـزم المسلمون بحماية المستأمن وأهله وماله ولو كان خمراً وخنزيراً، ويضمن المسلم قيمتها بإتلافـه إياها لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والأربعة والحاكـم عن سمـرة: «على اليد ما أخذت حتى تؤديـه»([22]). تقطع يد سارق مال المستأمن، لأنه مال محترم بسبب الأمان([23]). ومقتضى الأمان يقابله اليوم في القانون الدولي ما يسمى: بحق الأجنبي في حمايـة شخصـه ومالـه. فللأجانب حق مقرر بالتمتع بحمايـة الدولة المقيمين فيهـا على إقليمهـا، وعلى الدولـة أن تحميهـم من الاعتداء، وأن تدفع عنهم الأذى، وأن تعاقب المعتدي وأن ترعى المعتدى عليه([24]).

 ثانياً: حـق الانتفـاع بالمرافق الضرورية والقضـاء. إذا التجـأ المستأمن إلى القاضي في نزاع بينه وبين ذمي أو مستأمن أو مسلم، فيجب على القاضي أن يحكمفي النزاع في حقـوق الآدميين، وأمـا آيـة التخيير بين الحكـم والإعراض في قوله تعالى: ﴿ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾[المائدة: 42] منسوخة بقوله تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾[المائدة: 49]([25]).

 وهذا يتفق مع ما قررتـه اتفاقيـة جنيف 1949 في المادة 42 منه: للرعايا الأعداء حق التقاضي، سواء كانوا مدعين أو مدعى عليهم بعد أن كان الحق مسلوباً منهم فترة طويلة من الزمن([26]).

 ثالثاً: حق ممارسة الأعمال التجارية في الحدود المسموح بها شرعاً، فلا يجوز له شراء الأسلحة والعبيد وتعاطي الربا، ومنه يكون له الحق في التملك والتمليك، ويحـذر من الاتصال بقومـه المحاربين ليرفـع من معنوياتهم أو يوصل لهم أخبار المسلمين، أو يقوم بإشاعة الأراجيف ضد المسلمين.

 رابعاً: حق كسب الجنسية الإسلامية للحربية التي يتزوجها ذمي أو حربي تزوج ذمية، كلاهما يدخلان في عقد الذمة، أو ما يسمى في القانون الدولي كسب الجنسية وفقدها([27]).

*  *  *

المبحث الثالث ـ التزامات المستأمن (واجباته):

 أولاً: على المستأمن أن يخضـع للأحكام المتعلقـة، بالأمـن والنظام في دار الإسلام (إقليم الدولـة)، وخاصـة العقوبات الشرعية في الحدود التي يخضع لها الذمي، أي أنه يعاقب على جرائمه التي تمس حق الفرد، كالقصاص والسرقة في قول الجمهور، والقذف وإتلاف الأموال، واختلف في الخمر قال أبو يوسف: «أن نأخذ بالحدود كلها ما عدا الخمر»([28]).

 أما المعامـلات المالية فيطبـق عليهـا القانون الإسلامي باتفاق، فيمنع من التعامل بالربا، ونخضع معاملاته المالية بجميعها من بيوع وعقود لأحكام الشريعة الإسلامية، فيطبق هذا المبدأ على جميع الرعايا في الدولة الإسلامية دون تفريق وهذا المبدأ من إقليميه القانون ـ مأخوذ به في التشريع الدولي.

 نجد مثلاً لما قررناه في مقتضى الأمان بالنسبة لحماية الأمان شخص المستأمن وأهلـه فيما نصت عليـه المادة 32 من اتفاقيـة لاهاي الرابعة على أنه إذا قبل قائد الجيش مفاوضة الخصم ترتب على لك اعتبار ذاته مصونة وتمتع بالحصانة كل من يصحبه([29]).

*  *  *

المبحث الرابع ـ إعطاء الأمان للقاتل:

 لم تفرق عبارة الفقهاء بين الحربي والمحارب، وإطلاق العبارة يدل على أنه يجـوز للحربي أن يدخـل دار الإسلام في أثناء القتـال بأمان، بدليـل أنهم أجازوا الأمان عند محاصرة حصن، إذا كانت قرائن تدل على أن الشخص القادم من الحصن ذو غـرض سلمـي، كأن يكون قد ألقى سلاحه أو ما زال متأبطاً له، إلا أنه ليس عليه هيئة رجل يريد القتال([30]).

 ولخطورة هـذا التصرف في العصـر الحالي بإعطـاء الأمـان للحربي المقاتل وخوف الخديعـة، أرى أنه يجب أن يتقيد منح الأمان للمقاتل الحربي بإذن الإمام له، لمـا في ذلك من عصمـة لدمـه وماله، فلم يكن المقصود من الأمان إلا تعرف الأعداء على الديـن الإسلامي طمعاً في أن ينتشر بينهم، ويجد له الدعاة من أبناء جلدتهم، فلا يكـون الأمان سبباً للإضرار بالمسلمين، فالحذر واجب والتنبيه لمثل هذا ضرورة يحتمها الواقع والدين، قال ابن كثير: «إنما شرع أمان هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعـوة الله في عباده»([31])، وبه يأخذ الإسلام الطريق السلمي بنشر الدعوة الإسلامية مقترنة بالحجة والإقناع.

 وما قلناه مجـرد رأي، قد يتعارض مع تقديم الأمان للحربي من الفرد أو الأمير والحاكـم على حـد سـواء، لاضطلاع الجميع بالمسؤولية الإسلامية العامة والخاصة «وهنا يبلغ الإسلام شأواً بعيداً في التضامن، ويضرب القدح المعلى في تسامح أبنائه ويسرهم مع غير المسلمين، ويؤكد ضرورة التعاون معهم على بساط من السلام، لأن الأمان يشبه السلام في نتائجه، وكثيراً ما تستعمل الكلمتان بمعنى واحـد، إلا أن السـلام لا يكون إلا بين الحكام أو نوابهم، وأما الأمان فيمكن أن يكون أيضاً من غير الحاكمين، وقد رجحنـا منعه اليوم والسلام يعم أمة بأسرها، أما الأمان عند الفقهاء فلا يتجاوز جيشاً أو مدينة...»([32]).

 ومنه نتعرف على أن الحرب في الإسلام لا تكون موجهة «ضد الشعوب، ولكن هي ضـد السلطان وعسكره، الذي يعاونه في ظلمه وطغيانه واستبداده، و لذلك فتح الباب لإنهاء الحرب قبل الاستسلام النهائي»([33]).

 

*  *  *

 

 



(([1]   آثار الحرب في الفقه الإسلامي: ص 220 ـ 221.

(([2]   تفسير الكشاف للزمخشري ج 2 ص 140.

(([3]   تفسير ابن كثير ج 2 ص 337.

(([4]   تفسير المنار ج 10 ص 177 ـ 178.

(([5]   سنن البيهقي ج 9 ص 259.

(([6]   المهذب للشيرازي ج 2 ص 259.

(([7]   المرجع السابق العميد مراد ص 92 ـ 93.

(([8]   آثار الحرب د. وهبة الزحيلي 223.

(([9]   المرجع السابق ص 224.

(([10]   آثار الحرب: 225 نقلا عن السياسة الدولية د. العمري ص 49.

(([11]   مختار الصحاح مادة (أمن) ص 26.

(([12]   مغني المحتاج ج 2 ص 236.

(([13]   الخطاب ج 3 ص 360 حاشية العدوي على الخرشي ط 2 ج 3 ص 141.

(([14]   فقه السنة ـ السيد سابق ج 2 ص 694 ـ 695.

(([15]   نيل الأوطار ـ للشوكاني ج 8 ص 27 ـ 28 ط دار القلم.

(([16]   تنوير الحوالك شرح الموطأ الإمام مالك ـ للسيوطي ج 2 ص 7 ط دار الكتب بيروت.

(([17]   المرجع السابق ج 2 ص 7.

(([18]   متفق عليه نيل الأوطار ج 3 ص 27.

(([19]   رواه البخاري في التاريخ والنسائي، فقه السنة 2 / 695.

(([20]   راجع فقه السنة ج 2 ص 97.

(([21]   آثار الحرب في الفقه الإسلامي: ص 245.

(([22]   الجامع الصغير السيوطي: ج 2 ص 122 تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.

(([23]   راجع آثار الحرب 349 وما يرشدك إليه من مصادر.

(([24]   د. عزيز شكري مرجع سابق له: 518.

(([25]   الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج 2 ص 2 ط دار الفكر.

(([26]   القانون الدولي العام حامد سلطان: 395.

(([27]   التشريع الجنائي عبد القادر عودة 1 / 309، آثار الحرب زحيلي ص 252.

(([28]   الخراج لأبي يوسف ص 189.

(([29]   الحرب جنينة ص 420، آثار الحرب 256.

(([30]   السير الكبير 195 ـ 196 نهاية المحتاج 7 / 216 زاد المعاد 2 / 99 كشاف القناع 3 / 83.

(([31]   تفسير ابن كثير ج 2 ص 337.

(([32]   الشرع الدولي في الإسلام نجيب الأرمنازي ص 122 ط 1349 آثار الحرب 265.

(([33]   العلاقات الدولية في الإسلام محمد أبو زهرة.

الموضوعات