جاري التحميل

الأهداف الباعثة على الجهاد

الموضوعات

الأهداف الباعثة على الجهاد

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقال :

لم يكن الجهاد في فرضيته إكراها على الدين وإنما كان بلاغاً وحماية للدعوة ودفعاً للفتنة وصيانـة للكرامـة، أما الإيمان فالشأن فيـه للفرد مع الله: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾[الكهف: 29] فليس من طبيعة الجهاد أن تكون الغاية منه فرض تعاليم الدين لقوله تعالى: ﴿ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾[المائدة: 99] وقوله سبحانه: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125] وقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾[الرعد: 40] وقوله: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّـهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 256] وقوله سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾[يونس: 99] وقوله: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ﴾[يونس: 108] لذلك لم يكن عجاً أن رحب سكـان الجزيرة العربيـة ومن جاورهـم من أهل الأرض بعد ذلك ممن وصلت إليهم الفتوحـات الإسلاميـة بالإسلام، الذي يحمـل جـذوة من الإيمان لا تنطفئ وبرداً من اليقين لا يتزعزع ورحمة بالخلق لا تساويها رحمة.

 والإسـلام يأمر المسلمين بان يدخلـوا في السلم كافة قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [البقرة: 208] ثم يضـع القـرآن الكريم فلسفة جديدة للقتال ويبرهن منها على أنها بغيضة إلى النفس لكن فرضتها الضرورة قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 216]. وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليهـا عذاب في الآخرة إنما عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل والبلايا...»([1]).

 فسمى الجهاد عذاباً لهـذه الأمة، ولما كان وجود القوة ضرورياً فقد فرضالإسلام الاستعداد للحرب: «فإن ترك الاستعداد يغري بالعدوان ويسرع به»([2]). ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّـهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾[الأنفال: 60] فإذا كان التلويح بالقوة كاف لردع العدو ورأت الأمة الأخرى أن تهادن المسلمين وتعيش بأمان وسلام أجابهم المسلمون لما يرغبون. لقوله تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنفال: 61] وإن أبت إلا الحرب، فقوة الحق تدفع قوة الباطل وإن الحديد بالحديد يفلح.

 والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم وعندئذ تكون الحرب: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[البقرة: 190] «ومن هنا تعلن مبادئ حضارتنا تحريم الحروب للغزو ونهب الأموال وإذلال كرامة الشعوب»([3]).

*  *  *

المبحث الأول
إحقاق الحق يحتاج إلى جهاد (قوة)

خلق الإنسان من نفس نزاعة إلى الهوى تطمع في تحقيق جميع رغباتها فيثور التدافع وتتصادم الرغبات، فتضيع الحقوق في بعض الأحيان ويمتهن معها العقلويشيع التظالم بين الخلق، لذا شرع الجهاد لضبط الفوضوية فيستقر السلام ويطمئن الناس قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّـهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج: 40] فالأمـن وحمايـة الضعفـاء في الأرض مطلب إسلامـي وضرورة يحتمها الشرع: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾[النساء: 75] بهـذا يتجلـى أن «أروع ما نادت بـه حضارتنـا أن الدفاع عن الضعفـاء المستذلين من الشعـوب الأخرى واجـب علينـا كما يجـب الدفـاع عن حريتنا وكرامتنا»([4]).

*  *  *

المبحث الثاني
تحقيق المثل الأعلى

إذن أصبحت الحـرب منظمـة موجهة للدفاع عن الحق المهضوم ورد ما استلب منه لأصحابه، وتدعيم أركان السلم وتثبيت قواعد العدل. فالجهاد مضبوط بمثلٍ أعلى وهدف سام، فيوجه المؤمن طاقاته توجيهاً سليماً لرفع كلمة الله «فلعلوِّ ما يمكن أن تتعلـق بـه إرادة الإنسان أعطي القدرة على التضحـية في سبيل تحيق المثـل الأعلـى وسمي هـذا بالجهـاد وبأفضل الأعمال، ولهذا يقدس البشر الذين يضحون في سبيل المثل العليا، ولما كان هذا السلام العجيب مخصصاً لرفع كرامة الإنسان فلا يجوز استعماله إلا للمثل الأعلى الحق، لهذا من استخدام هذا السلاح في سبيل الدفاع عن مثل أعلى باطل فهو في النار: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل»([5]). وغير ذلك ميتات جاهلية، وكذلك الانتحار كالقتال في سبيل الباطل»([6]).

 وقد تثار فطرة التضحية من أجل مثل أعلى باطل، كما فعلت ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية، وكما فعلت جميع الأمم التي آمنت بفكرة التفوق العنصري فأثارت روح التضحيـة في شعوبـها من أجل العلو والاستكبار في الأرض، وقد لا تستخدم فطرة التضحية فتبقى جامدة كما هو شأن المستضعفين في الأرض اليوم، الذين فسـدت فطرتهـم وفقـدوا روح التضحيـة...([7]). ويعني المثل الأعلى لدى المسلم: «العدل المطلق ورد البغـي والعدوان وهو كلمة الله التي يجب أن تعلو في كل حال وفي كل مكان»([8]).

 لذلك يستبعد الإسلام الحروب التي يثيرهـا حب الأمجاد الزائفة للملوك والأبطال الذي يسيرون سـيرة المستكبرين، ويعيب على الضعفاء المتقاعسين ممن قعد بهم الجبـن عـن أن يكونوا مجاهدين في سبيل الحق والعدل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾[النساء: 97]. وقوله: ﴿ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ ۗ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾[النساء: 100].

 إن الجهاد توسط: فهو شجاعة لا تهور فيهـا ولا جبن فالإسلام لا يرضى الشطـط ولا يستمرئ ظلماً، والقـرآن الكريم يبين سبيل الجهاد فهو يمثل الحق والخير وضرب الظلم والظالمين قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76].

*  *  *

المبحث الثالث
الباعث على القتال

لقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم وسلـك حقبة من الزمـن غير يسيرة في مكة، يصبر و يصابر ويواسي المكلومين دون أن يأمر أحداً بقتال حتى هاجر، فلما هاجر إلى المدينة كانت أعماله صلى الله عليه وسلم تتلخص بما يلي:

أولاً ـ رد الاعتداء:

 لقد وقع الاعتداء على الأنفس والأموال حقيقة، والدين يغرس في قلوب أبنائه الإيمان بالله الذي له العزة جميعاً، لا يقبل منهم أن يسكتوا على ظلم أو يخشوا ظالماً. لذلـك جاءت آيات الجهاد ترغب بالجهاد وترهب المعرض عنه قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴿٣٨﴾ إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾[التوبة: 38 ـ 39].

 وجعل الشرع رتبة مشروعية الجهاد هي أنه فرض وذلك للأوامر القطعية التي أمرت بـه كقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّـهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[الأنفال: 39] وقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[التوبة: 5]. ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[التوبة: 41] ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾[التوبة: 36] هذه الآيات قطيعة الدلالـة على وجوب القتال لأنها واردة بصيغة الأمر، والأصل في الأمر حقيقة الوجوب ومجـازاً غيره ومعنى الوجوب أن تارك الأمـر علـى صدد العذاب([9]). قال الشوكاني: «وظاهر الأمر في هذه الآيات هو الوجوب»([10]).

 لذلـك كان القتال في الإسلام وكـان ماضياً إلى يوم القيامة وما دام هناك شـر ينازع الخير، أخرج أبو داود في سنـنه (2532) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله ولا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل والجهاد ماض إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل»([11]). «واتفق الفقهـاء على أن الجهـاد فرض على الكفاية»([12]). ويأخـذ الجهـاد حكم الوسيلـة الدافعة إلى ذلك قال الشافعية: «وجوب الجهاد وجوب الوسائل لا المقاصد، إذ المقصود بالقتال إنما هو الهداية وما سواها من الشهادة وأما قتل الكفار فليس بمقصود حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد»([13]). كما أن الشريعة «تعبدتنا بالوسائل كما تعبدتنا بالغايات، فليس ذلك أن تسلك إلى الغاية التي شرعها الله ذلك إلا الطريق المعينـة التي جعلهـا الله وسيلة إليها، وللحكمـة والسياسة الشرعية معان معتبرة ولكن في حدود هذه الوسائل المشروعة»([14]).

 إذن الإسلام يفـرض علينـا الحرب بالقدر الذي تفرضـه علينـا الوسائل الكفيلة برد الاعتداء ودفع الظلم، فهي تأخذ حكم غايتها، من أجل ذلك اعتبرها الفقهاء فرض كفاية لأن كل ما فرض لغيره لا لعينه فهو فرض كفاية.

 هكذا تظهـر الغايـة التي من أجلها شرعت الحرب، ففي ذلك حفاظ على الحياة والكيان فـ «حـق السيف مرادف لحـق الحياة، كل ما أوجب الإسلام فإنما أوجبـه لأنـه مضطر إليـه أو مضطر إلى التخلي عن حقه في الحياة وحقه في حرية الدعوة والاعتقـاد فإن لم يكن درءاً للعدوان والافتئات على حـق الحـياة وحـق الحرية فالإسلام في كلمتين هو دين السلام»([15]).

 يتقرر لدينـا مما سبـق بكل جلاء ووضوح أن قتال الأعداء ليس مقصوداً لذاته، وأن الإسلام يفضل السلام ويعتبره الصفة الأصلية القائمة في العلاقة بين المسلمين وأعدائهم، وأن إعـلان الحرب هو آخر الدواء الذي يعالج ما استعصى من الأدواء القاتلة أو الضارة بمصلحة الإنسانية «وعبارات الفقهاء جميعاً تؤكد هذه الحقيقة وهي: أنه يكتفى بالجهاد بقدر الحاجة حقناً للدماء، وما الحرب إلا ضرورةاجتماعية لمنع البغي ودفع الظلم»([16]). وإذن «السلم قاعدة والحرب ضرورة»([17]).

 و«الإيمان أساس والجهـاد حارس، وستبقى الحراسة فريضة قائمة ما بقي في الدنـيا مـن يهـدد الأمان ويستنكر الإيمان»([18]). وبذلك يظهر لدينا أن الباعث على القتال في الإسلام هو دفع العدوان وإرساء قواعـد العدل، معنى هذا: أن الجهاد وسيلة وليس غاية. ويوم تسود الحريات أرجـاء الحياة وتنمو أعواد التوحيد، فلا يرى من يكسرها أو يحرقها، فلا قتـل ولا قتال، نعم لا قتال حيث تستخفي الفتن وتشيع العدالة بين شعوب الأرض بحيث يمكنهم النظر في الإسلام.

ثانياً ـ تأمين الدعوة الإسلامية ومنع الفتنة:

 دعوة الإسلام دعوة حق، ودعوة الحق لا بد أن تحترم الحرية الشخصية وتحافظ عليها وترفع من مستوى حرية التفكير إلى الدرجة التي تسمح للمرء بأن يختار المبدأ الذي يشاء دون إكراه، وإذا كان الإسلام لم يجز لنفسه أن يكره أحداً على الدين فمن الأولى أن لا يقبل أن يكره مسلم على دين غير دينه أو يفتن.

 سار النبي صلى الله عليه وسلم على هـذا النهـج ولم يفاجئ أحـداً من الأعداء، إلا بعد أن يظهروا روح العداوة ومعارضة الدعوة والصد عنها، وغالباً ما كان يقوم الحكام بالحيلولة دون وصول نور الإسلام إلى قلوب وعقول شعوبهم، فانقلبوا بعداء المسلمين.

 وافتعلوا حروباً حمقاء حاقدة، لذلك بادر النبي صلى الله عليه وسلم بمراسلة الملوك والأمراء في العالـم ليطلعهم على الدين الجديد، وهم بدورهم بعد ذلك يطلعون شعوبهم عليه.

 وبعـد أن بلـغ النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة وأدى ما عليـه من أمانـة وقعت الفتنة في الدين، فأخذت قريش والقبائل العربيـة في قتـل القرّاء يوم الرجيـع وبئر معونة، ونهجت بيزنطة ضد المسلمين النهج نفسه فقتلت الدعاة في شرقي الأردن، وقتل رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم «الحارث بن عمير الأزدي إلى عظيم بصرى من قبل الروم شرحبيل بن عمرو الغساني فأوثقه رباطاً وقتله»([19]). دلت هذه الأحداث على أن الفتنـة أشـد من القـتل، وأصبح الأمر واجباً في قتال الكفار الذين فتنوا المؤمنين ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّـهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾[الأنفال: 39] ويمكن أن نتعرف إلى أن القتال في الإسلام شرع لثلاث حالات.

 أولاً: حالـة الاعتـداء على الدعاة والوقـوف بوجهـهم ووقوع الفتنة في الدين أو المحاربة بالفعل([20]). قال تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾[الحج: 39]. ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴿١٩١﴾ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿١٩٢﴾ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّـهِ ۖ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾[البقرة: 191 ـ 193].

 ثانياً: الحرب لنصرة المظلوم فرداً أو جماعة. قال تعالى: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ﴾[النساء: 75] فقد أعان النبي صلى الله عليه وسلم خزاعة على بكر وقريش لما تحالفوا معه في الحديبية وأقر حلف الفضول وقال: «إن الإسلام لا يزيده إلا شدة»([21]).

 ثالثاً: حالة الدفاع عن النفس ودفع الاعتداء عن البلاد. قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].

*  *  *

المبحث الرابع
منطلق الإسلام في العلاقات الدولية يتنافى مع العنف

يقيم الإسـلام دعائـم وأسساً للعلاقات الإنسانيـة بين الدول والشعوب تعتبر الموجه الرئيس في نهج المسلم الحياتي، وينظـر من خلالها إلى صلته مع غيره، وبها يضبط علاقاته في السلم والحرب معاً وهي:

 1 ـ الكرامة الإنسانية:

 يرفع الإسلام الإنسان إلى درجة من التكريم تربو على أية درجة، فقد بينسبحانه في كتابه العزيز أنه جعل الإنسان خليفة في الأرض واختصه باللغة وعلمه الأسماء قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿٣٠﴾ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿٣١﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿٣٢﴾ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾[البقرة: 30 ـ 33].

 وسخـر للإنسـان ما خلـق في الأرض ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 29]. وكرمه على سائر المخلوقات ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾[الإسراء: 70] والخلق جميعهم متساوون في هذا التكريم لا يفضل أحدهم على الآخر، ولا يختص التكريم بجنس دون جنس أو عنصر دون عنصر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كلكم لأدم وآدم من تراب»([22]). ومن ثم يقـرن الإسلام الكرامـة بالتقوى ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13] فترفع العنصرية ويرتفع التمييز الطبقي، عن جابر بن عبد الله قال: (مرت بنا جنازة فقام النبي وقمنا له. فقلنا يا رسول الله إنها جنازة يهودي. قال: «أو ليست نفساً ؟ إذا رأيتم الجنازة فقوموا»)([23]).

 2 ـ الناس أمة واحدة فعليهم أن يتعاونوا جميعاً:

 اعتبر الإسلام الناس جميعـاً أمة واحدة تجمع بينهم الإنسانية، إذا فرقتهم الأهواء فالأصل واحد، وقد صرح القرآن بهذا في غير موضع، فقد بين أن الأبوين الكريمين هـما أصل البشرية قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء: 1] وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]. ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّـهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾[الأعراف: 189].

 ومهمة الأنبياء بعـد ذلـك أن يبينوا وجه الحق للناس ويهدوهم إلى سواء الصراط: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّـهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[البقرة: 213].

 وإن ما في الكون من أجناس وألوان ولغات، فهي آية من آيات الله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ﴾[الروم: 22] فلا تمايز ولا اختلاف، ورحمة الله للجميع دون تفريق، وتتحقق باتباع محمد صلى الله عليه وسلم.

 وواجب الشعوب أن تتعـاون على هذا الأساس، فهـي دعـوة مفتوحة في القرآن لتكون ركيزة حق ومنارة عدل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّـهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾[المائدة: 2] وهذا ما فعله صلى الله عليه وسلم في توقيعه المعاهدة مع اليهود أول ما قدم إلى المدينة، و واثقهم فيها على التناصر والتآزر لدفع الاعتداء والظلم. ورغب في حلف الفضول وقال فيه «حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول، ألا إني لـو دعيـت إليـه في الإسـلام لأجبت، وما أحـب أن لي به حمر النعم»([24]). فالإسلام يرحب بكل تعاون إنساني أخوي قائم في سبيل إسعاد البشرية.

 وخلاصة القول: 

«إن النظـرة الكليـة للإسلام عن الحياة تهدينا إلى أنه يعد الحياة الإنسانية وحـدة: وحـدة من ناحيـة الزمن متماسكة الحلقات متدرجة الخطوات متضامنة الأجيال متعاقبة الأطوال: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾[البقرة: 28] وحـدة من ناحـية الفطرة متماسكة النوازع والأشواق ممتزجة المادة والروح قابلة للارتفاع إذا حسن توجيهها، مستعدة للهبوط إذا أسيء التوجيه والقيادة: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿٨﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿٩﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾[الشمس: 7 ـ 10]...»([25]).

 3 ـ التسامح الديني:

 هذا الجانب من جوانب حضارتنا جديد في تاريخ الشعوب جديد في تاريخ السياسـة والحكومـات والعقائـد والأديان التي تواردت عـبر حقب الزمن، فقد كان شعار المسلـم: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾[الزمر: 18] وقال تعالى: ﴿ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّـهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾[الجاثية: 14].

 وما دام الإسـلام لم يبن على الإكـراه لقوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّـهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ فهو يريـد من المؤمنين أن يقيمـوا حياتهـم على أساس من الحرية متـين، يستطيع معه الإنسان أن يدرك حقيقة وجوده، ويعتقد المبدأ الذي يشاء ما دام لا يحدث فتنة أو خطراً على كيان الأمة في حدود ما تسمح به السياسة الشرعية. وهذا أمر القرآن: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾[فصلت: 34]. وقوله: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر: 85] وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ﴿١٢٦﴾ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّـهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾[النحل: 126 ـ 127] فالإسلام: «كان ديناً مليئاً بروح الرفق والسماحة والأخوة، وكان عقيدة سهلة يسيرة الفهم، كان دين فطرة تحوي ما للصحراء من عواطف الفروسية»([26]).

 لقد تمثـل سيدنـا رسول الله صلى الله عليه وسلم التسامح في جميع مواقف حياته، من ذلك ما يظهر في موقفه من أهـل مكة بعد أن عاد إليها فاتحاً وهم الذين آذوه وعذبوه وطـردوه، فيقـول «اذهبوا فأنتم الطلقاء» امتلأت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسماحة والندى وقلبه بالدفء والحب فلا يعرف الحقد والضغن إليه طريقاً. ثم درج الخلفاء الراشدون على نهج محمد صلى الله عليه وسلم ومن جاء من بعدهم من المسلمين.

 إن وجـود الأقليات غير المسلمة في بـلاد المسلمين إلى اليوم دليل ساطع على التسامح الذي مارسـوه مع هـذه الأقليات، على الرغم من مرور أربعة عشر قرناً على حكم المسلمين لهـذه البلاد، بيد أننا نرى الصورة عكسية في الأندلس (إسبانيا) حالياً، التي مر عليها حكم ثمانية قرون للمسلمين والنصارى يعيشون معهم بأمان واطمئنان، فلما انقلبت أوروبا النصرانية عليهم وغلبتهم عليها أبادوا خضراءهم، وسحقوهم بحقد صليبي أحمر، وفتحوا محاكم التفتيش ومسحوا عن وجه أرض الأندلس وجود كل مسلم فتأمل يرعاك الله.

 والنـداء العقلي في القرآن يفتـح آفاقاً جديدة لعقول قد أعياها التفكير وأعجزها الفهم، فهو يفتح صفحة الكون أمام الإنسان ليسأل ويصل إلى الحقيقة العليـا بنفسـه، لذلـك ينهى الإنسان عن التقليد: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾[البقرة: 170]. (إذن الحريـة متروكـة لأصحابهـا في التديـن وفي تقرير المصير)([27]).

 4 ـ الفضيلة:

 أمـر الإسلام المسلمين بأن يتمسكوا بالفضيلـة في جميع علاقاتهم، سواء كانت بين الآحاد أم كانت بين الجماعات، وسـواء أكانت العلاقـة في حال السلم أم في حال الحرب، دون تفريق بين جنس وآخـر «لأن قانون الأخلاق قانون عام يشمـل الأبيض والأسـود والأحمر والأصفر ويشمل الناس جميعاً في كل الأقطار والأمصار، لا فرق بين من يعيش في مجاهيل الأرض ومن يعيش في حواضرها([28]). فالإسلام يضـع القواعـد الأخلاقيـة العامـة، ويصنعها على عين مُثُلِهِ، كي تنمو الفضيلـة وتترعرع بين أفـراد المجتمـع، لذلـك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً دائماً أن يسلك المسلمون طريق الفضيلة في معاملاتهم، وقد تكررت وصاياه عليه السلام لجيشـه بعـدم المثلـة وشدد النكير على فاعلهـا، وأمـر باحترام الشيوخ والصغار والنساء، والابتعاد عن إلحاق الأذى بمن اعتزل الحرب كعباد الصوامع والعمال والفلاحين.

 5 ـ العدل:

 تقوم الفكـرة الإسلامـية على أن العدل قائم في كل شيء في سنن الوجود الكونية: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [الرحمن: 7]. ثم الوجود الإنساني ﴿ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ﴿٨﴾ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴾[الرحمن: 8 ـ 9]. إن العدل الذي نظم به الكون يحفظه من الخلل، وكذلك الإنسان إن حفظ القسط والعـدل ابتعـد المجتمع عن الخلـل، وتخلصت البشريـة من العـداوات والفتن والحروب، من هـنا جـاءت الآيـات القرآنية صريحة في الأمر بالعدل والتصرف بمقتضاه حتى مع الأعداء، قـال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّـهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّـهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 135]. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8]. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِۚيَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90] «قـال العلـماء هذه الآية أجمع آيـة لمعاني الإسلام»([29]). وحـرم الله سبحانـه وتعالى الظلم إذ قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : «يا عبادي إني حـرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا»([30]).

 والعدالة شريعة الأنبياء منذ بدأ الله سبحانه إرسالهم: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾[الحديد: 25].

 لذلـك يحـرم الإسلام الركون إلى الظالمين: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ [هود: 113] وينهى عن المشي معهم «من مشـى مـع الظالم فقد خـرج من الإسـلام»([31]). ومنه لا يجوز لقوي أن يفتئت على ضعيف ولا لضعيف أن ينافق لقوي، ولكن العدالة ميزان العلاقـات الإنسانيـة فـي الإسلام، وهذا الذي يصلح به العالم وتشرق الأرض بنور ربها.

 6 ـ المودة والرحمة ومنع الفساد:

 الأخوة الإنسانية ثابتة كما تبين لدينا سابقاً، وإن الناس أمة واحدة تجمعهم في الأصل رحم واحدة، فواجب عليهم أن يصلوها، ويتركوا ما يؤدي إلىقطعها. فالله سبحانه وتعالى لا ينهانا عن أن نبـر الناس إذا لم يعتدوا علينا قال تعالى: ﴿ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿٨﴾ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾[الممتحنة: 8 ـ 9].

 وقد ضرب المسلمون في هذا المجال أروع الأمثلة في سلمهم وحربهم، ولم يكونوا أصحاب شطط بل كانوا كرماء ودودين. فالحرب الصليبية التي حصدت آلاف المسلـمين لم توغـر قلوب المسلمين، بل كنت ترى تجـار النصارى يدخلون البلاد الإسلامية فيبيعون ويبتاعون، وأهل الحرب مشغولون بحربهم والناس في عافية والدنيا لمن غلب «ومن آمـن بالله على هدى هذا الدين فقد آمن بإله يرضيه من عباده أن يسلكوا سبيـل المـودة والسلام، ويسخطه منهم أن يسلكوا سبيل العداوة والعدوان»([32]).

 ومن الرحمـة أن المسلمين يعملون في حياته

الموضوعات