جاري التحميل

الجهاد وموقف أحكامه وشروطه من العنف

الموضوعات

الجهاد وموقف أحكامه وشروطه من العنف

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقال :

 عرفنا في الفصل السابق النظرة العامة للإسلام في علاقاته الإنسانية كاملة؛ وهذا يعطينا بدوره الضوء الذي نتعرف بـه على طبيعة الأحكام الإسلامية؛ التي شرعت من أجل البشرية؛ فهي وضع العليم الخبير: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] لذلك نجد الرفق يحيط بكل خطوة يخطوها المسلمون إلى الحرب؛ لأنهـم لا يشعلون نارها لحقد يطفئون غليله؛ أو ظهور دنيوي يريدون تحصيله، فعند الله مغانم كثيرة، بل هـي لنصرة الحق إن لزم القتال، والعدول بها إلى ما هو أكثر إنسانية؛ وهذا ما يدل عليه ما وضع من شروط وأحكام كفيلة بتطبيق ذلك، يتضح ذلك قبل المعركة ومعها وبعدها.

*  *  *

المبحث الأول
قبل المعركة

جعل التشريع الإسلامي الحرب هي المرحلة الأخيرة للقاء مع الأعداء؛ فهو يطلـب من المسلمين أن يقدمـوا بين يدي الحـرب أموراً يمكـن بها تفادي القتال منها:

 1 ـ الاستعداد التام لأجل الإرهاب المانع من الحرب: وذلك بأمره تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّـهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾[الأنفال: 60] فمعناه: أعـدوا لهم «ما استطعتم من القوة الحربية الشاملة لجميع عتاد القتال؛ وما يحتاج إليه الجند؛ ومن الفرسان المرابطين في ثغوركـم وأطـراف بلادكـم حالـة كونهـم يرهبون بهذا الإعداد أو المستطاع من القوة والرباط عدو الله الكافرين به وبما أنزل على رسوله؛ وعدوكم الذيـن يتربصون بكـم الدوائـر ويناجزونكم الحـرب عنـد الإمكان»([1]). وهذا الاستعداد للحـرب بقصـد إرهـاب الأعداء لحفظ السلم، فإن ما يقع في قلوب الأعداء من الخوف والرعب من مسيرة الجيـوش الإسلامية؛ يجعلهم يكفوا عن عدوانهم وتبعد عن الناس حرباً.

 2 ـ إيثار السلم على الحرب: إذا كان التلويح كافياً وطلب الخصوم ذلك بصدق؛ أجابهـم المسلمون لما أرادوا ممتثلين قول الله تعالى: ﴿ وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾[الأنفال: 61] الذي فيه دليل تفضيل السلم على الحرب إذا جنـح العـدو له، فالحرب لا تقصد لذاتها؛ بل هي ضرورة من ضرورات الاجتماع تقـدر بقدرهـا، وهذا برهان على أن الإسلام دين سلام، لكن عن قدرة وعزة لا عن ضعف وذلة([2]).

 ما دام العدو قد طلب لك، فنحن نقبله منه، وإن أبطن الخيانة لقوله تعالى: ﴿ وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّـهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 62].

 3 ـ الإبلاغ والتخيير قبل بدأ القتال: وهذا من الأمور المسلم بها في الحرب الإسلامية، فمن الواجب أولاً إبلاغ الدعوة الإسلامية وتعريف الشعوب بحقيقة هذه الدعوة، فإذا تبين صدودهم بعداوة ظاهرة أو فتن المسلمين عن دينهم تعلن الحرب عندئذ، وقبل البدء بالقتال في فترة الإعلان يخيرهم القائد المسلم بين أمور ثلاثـة: إما الإسـلام ليكونـوا مع المسلمين بقلوبهـم، وإما العهد ليأمن المسلمون جانبهم وليؤمن الإسلام دعوته، وإما القتال وهو آخر الدواء، و«إن ذلك التخيير لكيلا يأخذهم غرة؛ ويعلن أنه لا يريد أرضاً يستعمرها ولا أنفساً يستعبدها ولكن ليكون كل إنسان له حريته فيما يعتقد»([3]) فلا عنف ولا إكراه.

 وإننا إذ نسير وفق هذا المنهج النبوي الكريم لنستخلص منه المعنى والمقصد والبدايـة، فتحـط بنـا الرحـال في ذلـك الوادي المقـدس الذي يدل على الوحدة الإنسانية.

لقد تبين لدينـا فـيما سـبق أن الإغارة لا تجوز حتى تتكرر الدعوة للأعداء ثلاث مرات، فلا تقتل نفس إلا بحق، ومن قتل قبل المعركة من دون سابق إنذار استحق القاتل إثماً؛ وضمن المسلمون ديتـه على المذهب الشافعـي، وهذا ما جاء في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: حتى «يبدؤوكم فإن بدؤوكم فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً ثم أروهم ذلك، وقولوا لهم: هل إلى خير من هذا سبيل، فلأن يهدي الله على يديك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس»([4]).

 فإذا لم تجدِ الطرق السابقـة وساروا في غيهم ولم يثوبوا إلى رشدهم بعد أن رأوا الدم، تعين على المسلمين أن ينهضـوا إليهـم ويعملـوا السيف فيهم حسماً لشرهم.

والشـر إن تلقه بالخير ضقت به

ذرعاً وإن تلقه بالشـر ينحسم

وهكذا «حـرب الإسلام حسـم لداء وقضاء على وباء، فإذا انحسم الداء وانقشع الوباء لم يكن للحرب مكانة ولا للسيف موضع»([5]).

*  *  *

المبحث الثاني
مع المعركة

من المفيد في هذا أن نستذكر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصية أبي بكر الصديق رضي الله عنـه؛ اللتين توضحان معالم سير الجند الإسلامي في أخلاقه الحربية في المعركة.

 أولاً: قول رسـول الله صلى الله عليه وسلم موصياً الجيـش: «انطلقوا باسم الله وعلى بركة رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، لا تقتلـوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا امـرأة ولا تغلوا، وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين» وفي معنى هذه الوصية قوله عليه السلام «سيروا باسم الله في سبيل الله وقاتلوا أعداء الله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تنفـروا ولا تمثلـوا ولا تقتلـوا وليداً» ويقـول عليـه السلام لخالد بن الوليد: «لا تقتل ذرية ولا عسيفاً».

 ثانياً: وصيـة أبي بكـر رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان فقال وهو يمشي ويزيد راكب، فقال يزيد: إما أن تركب وإما أن أنـزل. فقال الصديق: «ما أنا براكب وما أنت بنازل إني أحسب خطـاي في سبيل الله: إنك ستجد قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما زعمـوا، وستجـد قوماً قد فحصوا أوسـاط رؤوسهـم من الشعر، وتركوا منها أمثال العصائب فاضربوا ما فحصوا بالسيف، وإني موصيك بعشـر: لا تقتلـن امرأة ولا صـبياً ولا كـبيراً ولا هـرماً ولا تقطعن شجراً مثمراً ولا نخلاً ولا تخربن عامراً ولا تعقرن شاة ولا بقـرة إلا لمأكله ولا تجبن ولا تغلل».

 من هاتين الوصيتين نستنتج أموراً تتميز بها الحرب الإسلامية في المعركة:

 أ ـ خوض المعركة بروح إنسانية ونفوس كريمة تواقة لهداية الأنام ودفع الظلم والفساد، فالحرب ضرورة من الضرورات التي أوجبتها الحياة؛ وقد لخص ذلك رسـول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «أنا نبي المرحمـة أنا نبي الملحمة» فإذا لم تكن الملحمة إلا لأجـل المرحمـة «ولا نبالغ إذا قلنا: إن الإسلام الحنيف في قرآنه وسننه والفقه المستمـد منهـا؛ كان الدين الوحيد الذي ساهـم في إدخـال الروح الإنسانيـة في الحرب»([6]). والرحمة الحقيقية هي قطع الفساد ومنـع الشـر وإن تعيـن السبيل إلى ذلك بالملحمة فهي رحمة.

 لا تخلوا الحرب من الشدة بل هي ضرورية فيها للتغلب على العدو، لذلك تتمثل بالحـرب مناظـر الدماء والمآسي المفجعة والقتل إحدى هذه المآسي اللازمة للقتال؛ لذلك يأمـر الإسلام أن يتم ذلك ضمن أقصر الطرق وأكثرها إنسانية، فلا يجـوز استعمال السلاح الذي يلحق أضراراً بالغة وآلاماً مبرحة لا تلزم للفوز على العدو، ولا يصح القتل بالتجويع أو الإظماء، كما أنه لا يصح امتهان الكرامة بالسب أو التحقير.

 ب ـ قصر القتـال على رجـال العدو المحاربين فقط، لقد ميز الإسلام بين المقاتلين وغير المقاتلين، فإلى الفئـة الأولى تتوجـه الأعمال القتالية من قتل وجرح وأسر، ولا يجـوز الاعتداء على الفئـة الثانيـة من شيوخ وأطفال ونساء وفلاحين وعمال، وقد تقدمت وصيـة الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك ووصية أبي بكر: فقد نهى الإسلامعن قتل الذرية والنسـاء والعسفاء (أي العمال)؛ ما داموا لم يقدموا معونة لجيش الأعداء؛ لأن قتلهم نوع من العبث وضرب من جنون حب سفك الدماء، أما إذا شدوا على الحرب وحرضوا على قتال المسلمين؛ كما فعل رجال الدين الصليبيون؛ كانوا أولى من الجنود بالقتل لأنهم الرأس المنظم؛ ففي ضربهم حسم للفساد وراحة للعباد.

 ج ـ منع التدمير وإتلاف الأمـوال: وعلى هذا لا يجوز قطـع أشجار العدو أو إحراق نخيلـه أو ذبـح شياه العـدو وأبقاره؛ إلا إذا كان ذلك مراعاة لضرورة حربية ملجئة. وتكاد تكون وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه جامعة مانعة في هذا المجال: «ولا تقطعـن شجـراً مثمراً ولا نخـلاً ولا تحرقنها ولا تخربن عامراً ولا تعقرن شاة ولا بقرة إلا لمأكلة ولا تجبن ولا تغلل».

 د ـ اعتبـار الفضيلـة أثنـاء القتـال: إن هـذا المبدأ مطلب أساسي في علاقة المسلمين بغيرهم في السلم والحرب، فاشتعـال الحـرب لا ينسينا هذا المبدأ، وقد يعجب إنسـان كيـف تكون حرب التعامل بها بقوة السلاح وإزهاق الأرواح ثم تكون هناك فضيلة، نقـول: إن الحـرب في الإسلام مقيدة بالفضيلة لا يتجاوز بها حد الاعتـداء وإن تجاوز العدو ذلك، «فإن كان العدو منطلقاً من المبادئ الخلقية فجيش الفضيلة مقيـد بهـا، وإذا كـان الأعداء يقتلون الصبيان والعمال والشيوخ والنسـاء أو ينتهكـون الأعراض فإننا لا نجاريهـم في هذه الرذائل؛ لأننا مقيدون بالخلـق الكريم، وإذا كان الأعداء يمثلون بجثث القتلى من المسلمين ويشوهونها لا نفعل ذلك في قتلاهم»([7]). لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «(إياكـم والمثلة) ويجدر بنا أن نقف وقفة إجلال وإكبار أمام موقف لسيد الأنام ومعلمها محمد صلى الله عليه وسلم ؛ حين مثل المشركون يوم أحد بعمـه حمزة بن عبد المطلب شر تمثيل؛ فوقف عنده باكياً حزيناً مكلوم القلب؛ وتوعد بأن يمثل بسبعين من المشركين إن ظفر بهم، فأنزل الله عز وجـل قولـه: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ﴿١٢٦﴾ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّـهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾[النحل: 126 ـ 127] فعفـا رسـول الله صلى الله عليه وسلم وصبـر ونهـى عـن المثلة»([8]). لقد ترسم القادة المسلمون خطا محمد عليه السلام في حمل جذوة التعاليم الربانية في القتال؛ ومن أبرز من اتصف بذلك بعد الخلفاء الراشدين وأخذوا بهدي الإسلام يوسـف: صلاح الدين الأيوبـي «فإنه قد أسر عدداً ضخماً من الجيوش الصليبيـة، ولكن لم يجد عنده طعاماً يكفيهم فكان بين أن يميتهم جوعاً أو يطلق سراحهم، فأوحت إليـه فضيلـة الإسلام أن يطلـق سراحهم، فخرجوا وتكاتفوا وكونوا من أنفسهم جيشاً يقاتله، فلم يندم القائد البطل ورأى أن يقتلهم في الميدان محاربين بدل أن يقتلهم في الأسر جائعين»([9]).

 وأما الصورة في الجانب الآخر فكانت: «أول ما بدأ به ريكارد أن قتل صبراً أمام معسكر المسلمين ثلاثة آلاف أسير مسلم سلموا أنفسهم إليه بعد أن أعطاهم عهداً بحقن دمائهم، ثم أطلـق لنفسه العنان باقتراف هذا القتل والسلب، وليس من السهل أن يتمثل المرء درجـة تأثير هذه الكبائر في صلاح الدين النبيل؛ الذي رحم نصارى القدس فلم يمسهم بأذى؛ والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأزواد في أثنـاء مرضهما، فقـد أبصـر الهوة السحيقة بين تفكير الرجل المتمدن وعواطفه، وتفكير الرجل المتوحش ونزواته»([10]). «لسنا نوازن عمل القائد المسلم صلاح الدين وعمل نابليون عندما كان في موقف يشبه موقف صلاح الدين؛ إذ أنه عند إرادتـه فتح عكا أسر عدداً كبيراً من أهل الشام ولم يكن عنده من الطعام ما يكفيهم فأعمل السيف فيهم وحصدهم حصداً، لا توازن بين عمل القائدين، لأن الموازنة تقتضي قدراً مشتركاً من الاتفاق في كل من العملين؛ يرجح فيه أحدهما على الآخر ولن يوجد، فلا يوازن بين النور والظلمة؛ ولا بين الفضيلة والرذيلة؛ ولا بين البطولة والنذالة؛ ولا بين الإنسانية الكريمة والوحشية غير المحكومة بدين وخلق»([11]). أضف إلى ذلك ما قدمناه في الباب التاريخي عن قيام الصليبيين بأكل لحوم المسلمين وهم أموات ؟

 ﻫ ـ إعطاء الأمان لمن يطلبه من أفراد العدو: الأمان من المبادئ الإسلامية الراسخـة برهنت فيـه على أنها شريعـة إنسانـية حريصة على حقن الدماء وحفظ النفوس سالمة آمنة، فإذا رغب جندي الأعداء الانضواء تحت القانون الإسلامي وتـرك سلاحـه راغباً في السلامـة أجيـب إلى ما طلـب؛ وقـد تقدم بيان ذلك في بحث الأمان: «وهكذا إذا كانت الحـروب الأوربيـة لم تعـرف حتى أوائل القرن العشرين نصاً يوجـب إعطـاء عهـد الأمان لمن يطلبه، بحيث اضطر المتفاوضون في مؤتمـر لاهـاي عام 1899 لتضمـين لائحـة الحـرب البرية نصاً يشجب لجوء قادة الجيوش المتحاربة إلى إعلان عدم قبول طلب الأمان، فإن الإسلام اعترف بهذا الحق وطبقه منذ ظهوره»([12]).

 والحرب في نظر الإسلام ليست غاية بحد ذاتها بل وسيلة لدفع شر وفساد، فإذا جنح العدو إلى السلم أو رغب في إنهاء القتال قبل المسلمون ذلك؛ وعادوا إلى القاعدة الأصلية في علاقاتهم مع غيرهم ألا وهي السلم.

*  *  *

المبحث الثالث
بعد المعركة

سعى الإسـلام جاهداً إلى حقن الدمـاء وحفـظ النفس الإنسانية والإبقاء عليها؛ لذلك يرحب بالسلم ويفضله ويدعو المسلمين للدخول فيه كافة؛ ويضع من التشريعات ما فيه الكفاية للحفاظ على حالة السلم ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، وللإسراع بالحرب إلى الانتهاء وللحفاظ على العلاقة الإنسانية يأمر بما يلي:

 أ ـ المحافظة على العهود والمواثيق: ويحرم الغدر والخيانة في الظاهر والخفاء لتصبح من أحكام الإسلام القطعية النافذة؛ وليس مجرد مبدأ خلقي يستعمل حيناً ويهمـل حيناً آخـر؛ حتى تصبح المعاهدة مجـرد قصاصة ورق كما هو الحاصل في العرف الحالي، لذلك لم يجعل الإسلام وفاء المعاهدين بعهودهم تدبيراً من تدبيراتالسياسة، أو ضرورة من ضروراتها؛ التي تجوز فيها المراوغة عند القدرة عليها بل جعله أمانـة من أمانات العقـل والضمير، وخلقاً شريفاً يكاد يكون الخارج عليه أن يخرج عن آدميته؛ ويسلك في عداد السائمة التي لا ملامة عليها، قال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّـهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿٥٥﴾ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ﴾[الأنفال: 55 ـ 56] وقال سبحانه: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّـهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّـهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾[النحل: 91].

 من أجـل ذلـك توعـد عمر بن الخطاب رضي الله عنـه بالقتل؛ من يعطي الأمان لمقاتل من الأعداء ولو بأية لغة كانت ثم يقتلهم، فهو أمان وعهد لا يجوز للمسلم أن يخيس به، وقد توافرت أدلة كثيرة تأمـر بالوفـاء بالعهود تقدمت في السابق.

 ب ـ احترام الكرامة الإنسانية: هذا المبدأ يؤكده الإسلام في كل حين سلماً كـان أو حرباً، وتأكيـده عليـه أشـد في حالـة الحرب؛ لأنها أكثر المواطن في حياة البشرية التي تحتاج إلى اعتبارات أكثر إنسانية، فما أن تدبر المعركة حتى تترك الناس بين منتصـر ومهـزوم، وقتيل وجريح وأسير، فيضع الإسلام من المكابح الكفيلة بالحفاظ على الكرامـة الإنسانية وعـدم الشطط إذا هزت رؤوسهم نشوة النصر، فتأمل أحكام الإسلام بما يلي:

 1 ـ عدم اتباع مدبـر: إلا إن كـان في ذلك ضرورة عسكرية أَمَنَة للخدعة، وعدم الإجهاز على جريح، وعدم قتل الأسرى لوصية النبي صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة قال: «ألا لا يجهزن على جريح ولا يتبعن مدبر ولا يقتلن أسير ومن أغلق عليه بابهفهو آمن»([13]). فالجريح يداوى ولا يجهز عليه؛ فإذا أقعدته قوة الجرح عن المقدرة على المقاومة فلا يسوغ قتله «بل يبقى ويداوى حتى يأسر، أو يفدى، أو يمن عليه. وذلـك لاحترام الإنسانيـة، لأن القتـال ليس القصـد منه إلا إضعاف قوة الملوك وجيوشهم وليس الغرض منه الانتقام»([14]).

 أما الأسـرى فيعاملون معاملة إنسانية لقوله صلى الله عليه وسلم : «استوصوا بالأسرى خيراً»([15]). فلا تحقير ولا سـب بل تهيأ لهم أماكـن إقامـة مريحة؛ وتقدم لهم جميع الخدمات حتى يفصل في شأنهم إما بالمن أو بالفداء أو بالمبادلة.

 2 ـ احترام جثث القتلى من الأعداء بعدم تشويهها: فالنهي عن المثلة واضح في التشريع الإسلامي؛ ولا تترك نهباً لوحوش الأرض ووحوش الطير؛ بل تدفن كما فعـل رسول الله صلى الله عليه وسلم بجثث قتلى بدر حيث أمر بوضعهم في القليب، وكذلك رفض أبو بكر رضي الله عنـه أن يبعثـوا لـه برؤوس القادة المقتولين من الأعداء معاملة بالمثل.

 والخلاصة: إن الإسلام وضع من التشريعات ما يكفي لإبعاد العنف عن حياة المسلمين؛ في جميع علاقاتهم التي تربطهم مع غيرهم في حال سلمهم وحال حربهـم، ورفـد هـذه التشريعات بأن غـرس في نفوس أبنائه أصولاً كريمة من الأخلاق الإيمانية تجعلهم واقفين عند كل صغيرة وكبيرة يحاسبون أنفسهم عليها قبل أن يحاسبهم الله سبحانه وتعالى.

 والحقيقة التاريخية تورد لنا أروع الأمثلة الصريحة في هذا المجال، فلم يشهد العالم أرحـم وأعدل من المسلمين، حيث انتشر الإسلام بقوة الكلمة وبعدله قبل أن ينتشر بقوة السيف والقتال، وصدق الشاعر:

قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا

لقتل نفس ولا جاؤوا لسفك دم

جهل وتسفيه أحلام وسفسطة

فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم

*  *  *

 



(([1]   تفسير المنار ج 10 ص 63.

(([2]   راجع الوحي المحمدي، محمد رشيد رضا ص312 ط 8 وتفسير المنار ج10 ص69 و140. 

(([3]   العلاقات الدولية في الإسلام أبو زهرة ص 94.

(([4]   الخراج لأبي يوسف ص 191.

(([5]   الحرب والسلام في الإسلام ص 33.

(([6]   قانون الحـرب في الإسلام مجلة نهج الإسلام العدد 33 / ربيع الأول 1409 د. إحسان الهندي ص 65 ـ 66.

(([7]   العلاقات الدولية أبو زهرة ص 103.

(([8]   تفسير ابن كثير ج 2 ص 592.

(([9]   العلاقات الدولية ص 103 ـ 104.

(([10]   حضارة العرب ـ لوبون ـ 125.

(([11]   العلاقات الدولية في الإسلام ص 104.

(([12]   قانون الحرب في الإسلام إحسان الهندي ـ مجلة نهج الإسلام عدد 33 ص 67.

(([13]   نيل الأوطار ج 7 ص 239.

(([14]   العلاقات الدولية في الإسلام ص 106.

(([15]   الجامع الصغير رقم 1009.

الموضوعات