جاري التحميل

الحروب الصليبية

الموضوعات

الحروب الصليبية

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقال :

 امتدت الحروب الصليبيـة من عام 1095م حتى 1291م قام الصليبيون خلالهـا بثمانـي حملات، زحفت الأولى عام 1095م واستطاعت الاستيـلاء على القدس عام 1099م، وأسست مؤسسة القدس اللاتينية، وأقامت هيئتي فرسان الداريـة واسبارتيـة، وزحفت الثانيـة عام 1147 بسبب سقـوط الرهـا في أيدي المسلمين. إن الـذي جيش الحملات ضد المسلمين خاصـة، والشرق عامة البابا (أوربان) الثاني، الذي عقد مجلساً في بلاسنتيا في شهر آذار من سنة 1095م، ومجلسا في كليرمنت في شهـر تشرين الثاني من السنـة نفسهـا، وأمر بتجريد حملة صليبية على المسلمين الذين سماهم «الكفار الذين في أيديهم ضريح المسيح، ووعد بغفران الذنوب لأولئـك الذين يلتحقون بها، وبالجنة لأولئك الذين يموتون في أرض المعركة»([1]).

 ـ غايتهم التدمير: 

 لقد أطلق البابا أوربـان شعـاره (من أجـل قتال الكفرة) كما يدعي ولكن النار الحاقدة التي انطلقت بهـا الحملات الصليبية أول ما انصبت على النصارى، الذين يدينون بالدين نفسه، فبطرس الناسـك عندما وصل إلى (ماكدونيا) بجنوده انقضـوا علـى أهلهـا النصارى «وذبحوا سبعة آلاف من سكانها، وأمعنوا في جميع أنـواع الفجـور والإباحيـة ويقـول (ميشـو) إنهـم ارتكبـوا جرائم اهتزت لهولها الطبيعة»([2]). وحين وصلـوا إلى ضواحـي القسطنطينية نهبـت (الكنائس والمنازل والقصور) ويسمـي (ميلـز) الموجـة الرابعة بعصابة المتوحشين، ولما كان الأتراك الذين يمثلـون الإسلام بعيدين عنهم، انقضوا على اليهود وذبحوا منهم الألوف في كولونيـا، وغيرها من المـدن على ضفاف الراين ومواسيل، وقتلوا سبعة آلاف منهم في ميامين وحدها([3]). إنهم لم يفرقوا بين طفل صغير أو شيخ كبير أو امـرأة ضعيفة، فقد نزعت من قلوبهم الرحمة، وغرس مكانها الإجرام والعنف والقتل. إذ كانوا يقتلـون الأطفال الرضع ويرمون بأشلائهم في الهواء، هذا على مرأى من الأهل الذين يعتصرون القلب ألماً على ما حل بهم، إنها الرحمة التي أطلقها (أوربان الثاني) لقتال الكفرة... وأي رب رحيم هذا الذي يريد أن يرضي أوربان الثاني والصليبيون، وتسير الحملات الصليبية تحت شعار الرب، لحماية المقدسات يحملونالصليب يغررون بكل جاهل أحمق، أو حاقد أرعن، أو طالب سلطة ورفعة، هذا سبيل الرب عند (أوربان) و(بطرس الناسك) الذي شكا إليه قائد وحدة عسكرية من رجالات الحملة جوع أتباعه، وانعدام الطعام، فأشار عليه بطرس بجمع جثث قتلى المسلمين وسلخها وشيها لأكلها([4]).

 هذا خلق ناسكهم فما بالـك بمن دونـه من الجيش، وحسبـك أن تعـرف مدى تعطش هؤلاء الناس للدمار وحب القتل والإجرام، إنهم لما حاصروا أنطاكيا، وقع ابن أميرها «في أيدي الصليبين، فحاولوا إقناع أسرتـه بتسليم المدينـة، حيث ذبحوه على مرأى والديه وسكان المدينة»([5]).

 وجاء دور (المعـرة) بعـد (أنطاكيـة) وارتكبت فيها أبشع الجرائم من قبل الصليبيين، حيث بلغ عدد من قتل في المعرة مئة ألف إنسان([6]).

 ليس بالإمكان أن نقـف في جميـع المحطات الصليبية في رحلاتها الدامية، لأن المجـال لا يسعنـا، ولكن سنكتفي الآن بالمحطـة الأخيرة التـي سنقـف على أحداثها كما سجلها التاريخ لنا، المحطة التي قال عنها (ليتو) وقد شارك في أحداثها القدس: «وفي صباح اليوم الثاني تسلق رجالنا سطح الهيكل، وهجموا على المسلمين رجالاً ونساء، واستلوا سيوفهم وراحوا يعملون فيهم القتل، ما تسنى لأحد قط أو سمع أو رأى مذبحة كهذه المذبحة التي ألمت بالشعب المسلم»([7]).

 إنها القدس مدينة السلام التي كانت مهد الأنبياء، فاحتضنت المسيح عليه السلام، وكانت مسرى محمد صلى الله عليه وسلم ترى كيف يحولونها إلى مذبحة وجحيم لا يطاق، وندع الكلام لكاتب غير مسلـم يحدثنـا عن مجـزرة القدس إذ يقـول: «وقاومت حامية الفاطميين المكونة من ألف رجـل الحصار مدة أربعين يوماً، فلما حل الخامس من شهـر يوليـو جـدَّ (نـري) و(نانكر) ورجالهما، وتسلقـوا أسـوار المدينة، وتم للصليبين الفوز بغرضهم، بعد أن لاقوا في سبيله الأمرين، وفي ذلك يقول القس (ريموند) شاهد العيان: وشاهدنا أشياء عجيبة، إذ قطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين، وقتـل غيرهم رمياً بالسهـام وأرغمـوا على أن يلقـوا أنفسهم من فوق الأبراج، وظل بعضهم الآخـر يعذبون عدة أيام، ثم أحرقوا في النار، وكنت ترى في الشوارع أكـوام الرؤوس والأيدي والأقـدام، وكان الإنسـان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال»([8]).

 لم تهدأ خواطـر الصليبين بفتح المدينة فحسب، بل «ركب الناس السيف، ولبث الفرنـج في البلدة أسبوعـا يقتلون فيـه المسلمين. وقتل الفرنج في المسجد الأقصى ما يزيـد عن سبعين ألفاً، منهم جماعـة كثيرة من أئمـة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم»([9]) وهكذا شهدت مدينة القدس مذبحة رهيبة، حتى أصبحت مخاضة واسعة من دماء المسلمين البريئة، حيث أثارت خوف الغزاة واشمئزازهم، لقـد خـرج الصليبيون عن طورهم الإنساني، فبدؤوا يبحثون عن ضروب اللهو التي من أحبها «قتل من يلاقون من الأطفال وتقطيعهم إرباً إرباً وشيهم كما روت كومنين بنت قيصر الرومي»([10]).

 ولنسمـع إلى تفاصيل أخـرى حـول مجزرة أخـرى «إن النساء كن يقتلن طعناً بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويقذف بهم من فوق الأسوار، أو تهشم رؤوسهم بدقها بالعمد، وذبح السبعون ألفاً من المسلمين الذين بقـوا في المدينـة. أما اليهود الذين بقوا أحياء، فقد سيقوا إلى كنيس لهم، وأشعلت فيهـم النـار وهـم أحياء، واحتشـد المنتصرون في كنيسة الضريـح المقـدس، وكانـوا يعتقدون أن مغـارة فيهـا احتوت في يـوم ما المسيح المصلوب، وفيـها أخـذ كـل منهم يعانـق الآخر ابتهاجا بالنصر، وبتحرير المدينة ويحمدون الرحمن الرحيم على ما نالوا من فوز»([11]).

 بمَ يسمي الناظر إلى هذه الأحداث؟ هل هنالك وصف إلا بما قيل عنهم في وصفهم «لا يستحق أولئك أن يسموا بشراً»([12]) فأين هذه الأخلاق من الأخلاق الإسلامية السمحة، التي فتح بهـا المسلمون القدس، وعاملوا أهل الأديان جميعاً بالحسنى والرحمة، أين هذه الأخـلاق من سلوك الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو النصارى، حين دخل القدس منذ بضعة قرون.

 «ألا يكفـي هـذا الموقـف لإثبـات التعصـب الأعمـى الـشديـد عنـد الصليبيين»([13]).

 ثم ذكر الكاهـن (ريموند داجيل) خبر ذبح عشرة آلاف مسلم في مسجد عمر، فعرض الوصف التالي: «لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تقوم في الساحة هنا وهناك، وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسيـح كأنهـا تريد أن تتصـل بجثث غريبة عنها، فإذا ما اتصلت ذراع بجسد لم يعرف أصلها، وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلا بمشقة»([14]).

 لقد أعطت هذه المشاهد السافرة الصورة الواضحة، التي مارسها النصارى الأوربيون بعنـف وقسوة في الشـرق، فأصبحت سبـة عار في وجوههم، ملازمة لوجود من آمن بتلك الدعوة التي انطلقت بالأحقاد والكراهية.

*  *  *

 



(([1]   مختصر تاريخ العرب ص 283 ترجمة عفيف البعلبكي دار العلم بيروت.

(([2]   مختصر تاريخ العرب ص 284 ترجمة عفيف البعلبكي دار العلم بيروت.

(([3]   المرجع السابق.

(([4]   حطين مسيرة التحرير من دمشق إلى القدس د. سهيل زكار ص 7 ط دار الإحسان.

(([5]   مختصر تاريخ العرب ص 286.

(([6]   النجوم الزاهرة. أبو المحاسن 5 / 147.

(([7]   حطين ـ سهيل زكار ـ ص 55.

(([8]   قصة الحضارة ـ ول ديورانت ج 15 ص 25.

(([9]   الكامل لابن الأثير 10 / 283.

(([10]   حضارة العرب ـ غوستاف الوبون ص 324.

(([11]   قصة الحضارة ـ ول ديورانت ج 15 ص 25.

(([12]   حضارة العرب غوستاف لوبون ص 326.

(([13]   جهاد المسلمين في الحروب الصليبية. العصر الفاطمي والسلجوقي والزنكي ـ فايد عاشور ص 114 ـ 115 ط 10 مؤسسة الرسالة.

(([14]   حضارة العرب ص 326 ـ 327.

الموضوعات