جاري التحميل

الحياد وتقسيم الدنيا إلـى دارين دار إسلام ودار حرب

الموضوعات

الحياد وتقسيم الدنيا إلـى دارين دار إسلام ودار حرب

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقال :

ينظـر الإسلام إلى الإنسانية نظـرة ملؤهـا العدل والإخاء، فلا يرى مبرراً للاعتداء من أمـة على أمة، أو التطاول عليها، فالأصل الإنساني واحد، وحساب الناس على الله، والفرد المسلم مطالب بتبليغ الدعوة إلى الناس جميعاً، إلا أن صدودالأمم في بداية الدعوة عن الإسلام، ومناصبته العداء فترات طويلة، حمل المسلم أن يبقى شاكي السلاح في وجه الأعداء، فوضع الفقهاء المسلمون نظرياتهم الفقهية في الحرب والسلم، واعتبروا الأرض مقسومة إلى قسمين: قسم يدعى دار حرب، وقسم آخر يدعى دار إسلام، فما هي دار الحرب وماهي دار الإسلام؟

*  *  *

المبحث الأول
دار الإسلام

 هـي الدولـة التي تحكـم بسلطـان المسلمين، وتكـون المنعـة والقـوة فيها للمسلمين، وهـذه الدار يجب على المسلمين القيـام بالذود عنهـا، والجهاد دونها فرض كفايـة، إذا لم يدخـل العـدو الديار، فإن دخـل العـدو الديار، كان الجهاد فرض عين عليهم، فعليهم جميعاً مقاومته ما أمكنتهم الفرصة، واستطاعوا إلى ذلك سبيلاً([1]). واحتلال أي جزء من أجزاء الوطـن الإسلامي يوجـب على المسلمين رفع راية الجهاد المقدس، حتى يعود ذلك الجزء إلى الوطن الإسلامي.

*  *  *

المبحث الثاني
دار الحرب

 وتعـرف دار الحرب بأنها هي: «الدار التي لا يكون فيها السلطان والمنعةللحاكم المسلم، ولا يكون عهد بينهم وبين المسلمين، يرتبط به المسلمون ويقيدهم، فالعبرة عند أصحاب هذا الرأي في المنعة والسلطان، فما دامت الدار خارجة عن منعة المسلمين من غير عهد، فهي دار حرب يتوقع الاعتداء منها دائماً، والله سبحانهوتعالى أمـر المؤمنين بأن يأخذوا الحذر دائما، وأن يكونوا على أهبة القتال لدفع الاعتداء، وذلك رأي كثير من الفقهاء»([2]).

ـ من أين أتى هذا التقسيم؟

 استنبط الفقهـاء هـذا التقسيم من سنـة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ورد في بعض الآثار، أن مكة كانت دار حرب بعد الهجرة، والمدينة صارت دار إسلام.

 كما جـاء في رسالـة خالد بن الوليد رضي الله عنـه في كتاب الخـراج لأبي يوسف قوله: «... وجعلنا لهم أي (أهـل الذمة) أيما شيـخ ضعيف عن العمل أو أصابتـه آفـة من الآفات، أو كـان غنياً فافتقر، وصـار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيتـه، وعِين من بيت مـال المسلمين وعيالـه، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجـوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النفقة على عيالهم»([3]).

 وجـاء في المحلى «وكـل موضع سوى مدينـة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان ثغراً ودار حرب ومغزى وجهاد...».

 إن استنبـاط تقسيم الدنيا إلى دارين من الدعوة إلى الهجرة غير سليم، لأن ذلك قد نسخ بفتح مكة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم([4]) : «لا هجرة بعد الفتح»([5]) .

 لا يعني هذا التقسيم أن العلاقات قائمة على الدوام بين المسلمين وغيرهم على أساس الحرب فلا صلح ولا عهـد ولا تفاوض ولا يسمح لهم بدخول البلد الإسلامي، بل على العكس من ذلـك فقد أمر الإسلام إجارة المشركين وتأمينهم وإيصالهـم إلى المكـان الذي يأمنون بـه قـال تعـالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّـهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ ﴾[التوبة: 6].

 قد ترتبط الدول الأخرى مع المسلمين بعهد فيسمون معاهدين، ويؤخذ منهم عوض مالي يسمى الخراج([6]). وأخذ الخراج من دار العهد «تابع للعرف الذي كان سائداً في ذلـك الوقت بين الأمم، حيث يعتبر دفـع المال قرينة الولاء، وهذا حكم فقهي مراعى في حالـة الظروف الماضيـة، أما تنظيم المعاهدات مع الدول المعاصرة فليس من اللازم وجـود خـراج فيها إذ ليس ذلـك من النظـام العام أو القواعد التي لا يجوز مخالفتها»([7]).

*  *  *

المبحث الثالث
دار العهد

 مما سبـق نجـد أن داراً ثالثة تسمى دار العهـد، تفرضهـا الحقيقة العلمية، وحققها الواقع «فقد كان هناك قبائل ودول تخضع خضوعاً تاماً للمسلمين وليس فيها حكم ولكن لها عهد محترم، وسيادة في أرضها، ولو لم تكن تامة»([8]).

 ولا يشترط في الفتح أخذ العوض المالي المعروف بالخراج بل يجوز أن يقصد الصلـح من دون هـذا العوض، جـاء في كتاب الفـروق للقرافي «... ويجوز أي (الصلح) بغير مال يعطونه بخلاف الجزية لا بد فيها من المال...»([9]).

 حدثت حالات العهد في التاريخ الإسلامي، مثل ما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران من العهد والأمان، وصلح أبي عبيدة رضي الله عنه مع أهل حمص، وعبد الله ابن سعد بن أبي السرح مع أهل النوبة، وفعل معاوية مع أهل أرمينية. ينعم أهل العهد بعهدهم وأمانهم مع المسلمين وينعم من يقيم في الدولة الإسلامية بالجنسية الإسلامية دون النظر إلى معتقده.

 تبين لنا مما سبق، أن تقسيم الدنيا إلى دارين، هو عمل اجتهادي من محض صيـغ الفقهاء المسلمين في القـرن الثاني الهجري، لما عـرض المسلمون الإسـلام وواجهوا العداوات الكثيرة، فبدل أن تحل فكـرة المناقشة والسـلام لمعت بوارق السيوف وشغلت النـاس بالحـرب، وأخـذ الفقهاء المسلمون ينظمون العلاقات الدوليـة على هـذا الأساس، فأصبح يطلق على جميع الأرض التي لا تكون المنعة فيها للحاكم المسلم دار الحرب، وصاحبة المنعة في المسلمين دار إسلام.

 وكلمـة حربي مقتصرة على الذين ينتمون إلى دولـة محاربة للمسلمين، أما رعايا الدول غير المحاربة فهم ليسوا حربيين، فهؤلاء لا يمنعون من الدخول إلى البلاد الإسلامية، لأن المسلمون لا يعادون إلا من عاداهم، من قامت بينهم وبين دولتهم حرب وخشي غدرهم بالبلاد الإسلامية.

*  *  *

* المطلب الثاني ـ الحياد:

 تنقسم الأسـرة الدولية في حال قيام حرب إلى فريقين: فريق المتصارعين. وفريق آخر يقف خارج نطاق الحرب، دون أن يتدخل مع إحدى الدولتين، وهذا ما يعرف بالحياد، الذي يعرفه القانون الدولي بأنه: هو موقف الدولة التي لا تشترك في حرب قائمة وتحتفظ بعلاقاتها السلمية مع كل من الفريقين المتحاربين([10]).

 إن الحرب التي دارت رحاها في الغرب، من أجل مآرب دنيوية، ولم ترجح فيهـا الكفـة لأمـة، حتى تنتزع منها النصر الأخرى، وكانت تتوسط تلك الدولة المتصارعة دول صغيرة ذات مكان استراتيجي، حمل ساسة الغرب على أقدام وجود نظام الحياد، للمحافظة على تلك الدول، ورد الاعتداء عنها إن تعرضت له. يقسم الحياد في القانون الدولي إلى ثلاثة أقسام:

*  *  *

المبحث الأول
حياد دائم

 تصبح فيه الدولة المحايدة مقيدة السيادة، فهي كحالة قانونية تعتبر نفسها محايدة بناء على معاهدة تبرمها، تقيد بعض اختصاصاتها الخارجية كالقيام بحرب.

 إن إبرام معاهدات مقابل المحافظة على سلامتها من اعتداء الدول الأخرى عليها، كان مقابل تقييد للسيادة التي تتمتع بها الدولة، لذلك تقدم على هذا الحياد الدول الضعيفة، أو ذات الموقع المستهدف الهام، فقد أوجدت هذا النوع من الحياد السياسة الأوربية في القرن التاسع عشر لتحقيق غرضين:

 الأول: حماية الدولة الضعيفة التي يعتبر وجودها ضرورياً للمحافظة على التوازن من اعتداء جيرانها ومحاولاتهم إدماجها فيهم.

 والثاني: حمايـة السلـم الدولي بإيجـاد حاجـز يفصـل بين دولتين لتجنب الاحتكاك والتصادم بينهما([11]). فاختارت بعض الدول الحياد مثل: «سويسرا التي أعلن حيادها في مؤتمر فينا 1815 ثم عزز بمعاهدة فرساي (المادة: 435) كذلك الفاتيكان فهي محايدة بموجب معاهدة الأتران لـ 1929 وكلك النمسا، فهي محايدة بموجب المعاهـدة، التي وقعتهـا الدول الكـبرى 1950 وأخيراً لاووس 9 تموز 1962 التي أقر حيادها في تصريح جنيف 1962»([12]).

*  *  *

المبحث الثاني
 الحياد المؤقت

 ويكون عندما تشتعل حرب بين دولتين تقوم إحدى الدول باتخاذ موقف الحياد حيال هذه الحرب بمحض إرادتها، دون إلزام لفترة من الزمن، مثال ذلك: «حيـاد الولايات المتحدة واليابان وإيطاليا في بدء الحرب العالمية الثانية لكن هذه الدول أبطلت هذا الحياد وانخرطت في الحـرب في حين بقيـت سويسرا وايرلندة والبرتغال وإسبانيا والسويد وتركيا محايدة طيلة الحرب»([13]).

*  *  *

المبحث الثالث
الحياد الإيجابي

 يمثل هذا الحياد نظرة سياسية لا قانونية، تقوم بموجبه إحدى الدول بعدم الانحياز لأي معسكـر من المعسكرات الدوليـة، وتتبع سياسة حرة تمليها عليها المصلحة الوطنية بغض النظر عن أي اعتبار. بدأ هذه النظرة (نهرو) رئيس وزراء الهند، وتابعه عليها مجموعة كبيرة من دول العالم والدول العربية.

 وأطلق عليها اسم مجموعة عدم الانحياز «وغدت الكتلة التي تؤمن بهذه السياسة من أكبر وأهـم الكتـل السياسيـة العالميـة أكثـر من 91 دولـة حتى عام 1981م»([14]).

 ترتب معاهـدة المحايدة على الدول المحايدة واجبـات وحقوقاً، فللدولة المحايدة حق الدفاع، ولكن من واجبها عدم إشهار حرب هجومية، كما أنه لا يحق لها التحيز لدولة أو دول أخرى، كما لا يحق لها عقد معاهدات قد تجرها إلى الحرب،كمعاهدات الضمان المتبادل، أو أن تشترك في اتحاد دولي يلزمها بالحرب، ولكن للدول المحايدة حق عقد المعاهدات التجارية والثقافية....»([15]). ما سبق يقال في الحياد الدائم، أمـا الحيـاد في حالة الحرب، أو ما يسمى المؤقت، فتتجلى واجبات الدولة المحايدة في أمرين هما: الامتناع وعدم الانحياز.

 أما الامتناع: فتمنع الدولـة عن القيام بتقديم أيـة مساعدة لإحدى الدول المتحاربة، إما مباشرة من جانبهـا أو من جانب الأفراد مثل: منع القيام بعمليات حربية على إقليم الدولة المحايدة، أو اتخاذ قواعد للعمليات الحربية في إقليم الدولة المحايدة، ومنع تجنيد القوات أو مرورها في إقليم الدولة المحايدة([16]).

 أما عدم الانحياز: فيتطلب المعاملة بالتساوي بين الطرفين المتحاربين دون التحيز أو المجاملـة، فإذا كـانت هـناك أعمال متحيزة أو مجاملة، فلن يكون حياداً بالمعنى الكامل لهذه الكلمة([17]).

*  *  *

* المطلب الثالث ـ موقف الإسلام من الحياد:

 عرف الحياد بين الأمم منذ القديم على أنه واقعة سياسية، أما اعتباره واقعة قانونية فليس تاريخه بالتاريخ القديم، أي: لم يخرج كمصطلح قانوني تعارفت عليه البشرية إلا في وقت متأخر، والسؤال الذي يطرح هل يسمح الإسلام بوجودمثـل هـذه الحالات السابقة التي فصلت عن الحيـاد؟ الجواب: يكون من خلال كتـاب الله وسنـة رسـول الله صلى الله عليه وسلم وأعمال المسلمين أمـا الأدلـة على الحيـاد فهـي ما يلي:

 1 ـ القـرآن الكريم: قـال تعالى في سـورة النساء: ﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّـهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّـهُ ۖ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴿٨٨﴾ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْۖ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿٨٩﴾ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّـهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ﴾[النساء: 88 ـ 90].

 معنى أركسهم: ردهـم إلى الكفر والقتال([18]). يصلون: يتصلون. حصرت صدورهم: ضاقت عن قتالكم وقتال قومهم. السلم: الاستسلام والسلام. نزلت هذه الآيات بعد فتح مكة بعد أن انقطعت الحروب. فهي من الآيات المحكمات التي لم يتطرق إليها النسخ([19]).

 وهـي تعني أن الله تعالى: أوجب قتـل غير المسلم في الحـرب، إلا إذا كان معاهداً أو داخلاً في حكم المعاهد، بأن كان حليفاً لنا أو تاركاً للقتال، فإن هؤلاء لا يجوز قتلهم، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن الذين استثناهم الله تعالى هم الكفار، الذين كانـوا كلهم حرباً للمؤمنين، يقتلون كل مسلم ظفروا به إن لم يمنعه أحد، فشرع الله للمؤمنين معاملتهم بمثل ذلـك، وأن يقتلوهم حيث وجدوهم إلا من استثنى وأمنت غائلتهم بأحد أمرين:

 أحدهما: أن يتصلوا بقوم معاهدين للمسلمين على عدم الاعتداء فينضموا إليهم ويلتحقوا بعهدهم، فيصبحوا في حكم المعاهدين.

 ثانيهما: أن يجيئـوا المسلمين مسالمين، وقد ضاقت صدورهم بقتالهم وقتال قومهم، فيعلنـوا تمسكهم بالحياد وهو نص الآية: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّـهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾[النساء: 90] فلا يصح حينئذ قتالهم، فقوله تعالى: ﴿حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ معطوفة على صلة: ﴿ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّـهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ كأنـه قيل: إلا الذين يتصلون بالمعاهدين، أو الذين يقاتلونكم، قال الزمخشري: «والوجه العطف على الصلة لا صفة (قوم) لقوله تعالى: ﴿ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّـهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ﴾[النساء: 90] بعد قوله: ﴿ ﮓ ﮔ  ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ﴾ فقرر: أن كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم، لنفـي التعرض عنهـم وترك الإيقاع بهـم. وهم بنو مدلج في صلح خالد بن الوليد رضي الله عنه لهم وقال الرازي: «إن النبي صلى الله عليه وسلم وادع وقت خروجه إلى مكـة هلال بن عامر السلمي، على ألا يعينـه ولا يعين عليه، وعلى أن كل من وصل إلى هلال أو لجأ إليه، فله جواره...»([20]).

 إذن فنص الآية صريح كما تبين «في أن من يريد الحياد يعطه وهو يتفق مع المبادئ الإسلامية العامة من أن الأصل هو السلم، وأن الحرب عارضة»([21]).

2 ـ حالات في التاريخ تعتبر مثلاً على الحياد:

 أولاً ـ حالـة بلاد الحبشة: لم تعتبر الحبشـة دار حـرب بسبب موقفها من الإسـلام، وصاحب الدعـوة صلى الله عليه وسلم «فقـد ورد عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم مـا حـذر فيـه المسلمين من الاعتداء على بلاد الحبشـة إذ يقول: «دعوا الأحباش بسلام ما داموا لا يهاجمون»([22]). وقد تأيد القول بالفعـل، فمنذ بدأ التوسع الإسلامي، أي منذ أن شنت الهجمات على جميع البلدان المجاورة للمسلمين، استثنيت الحبشـة بحكـم كونهـا معصومـة عن الجهـاد، وفق ما كان متبعاً»([23]) يعتبر ضرورياً أن هذا حكم مستثنى لا يدل على الحيـاد بالنسبة للدار، ونحن نقول: إذا لم تكن الحبشة من دار الإسلام ولا من دار الحـرب، فلا بد أن تكـون في وضع متوسط، قد يسمى دار الحياد أو عالم الحياد، وبما أن الإسلام أعلنهـا طوعاً خارج حدود منطقة توسعه فإنها، كانت تشكل أرضاً محايدة، التزم الإسلام شرعاً عن مهاجمتها ما دامت هي أيضاً تمتنع عن مهاجمة أرض المسلمين.

 ثانياً ـ حالة بلاد النوبـة: حاصر المسلمون في عهد عمرو بن العاص نوبة مصر، فلقـوا قتالاً شديداً، لم يتمكنـوا من فتحهـا لمهـارة سكانها في الرمي، حتى سموا رماة الحدقة، وظل الأمر كلك، حتى ولي مصر (عبد الله بن أبي السرح)([24]). فسألوه الصلح والموادعة، فأجابهم إلى ذلك على غير جزية، لكن على إهداء ثلاثمائة في كـل سـنة، وفي رواية أربع مائة، وعلى أن يهدي المسلمون إليهم طعاماً بقدر ذلك. قال ابن لهيعة: «وأمضى ذلـك الصلح عثمان ومن بعده من الولاة والأمراء وأقره عمر بن عبد العزيز نظراً منه للمسلمين وإبقاء عليهم»([25]).

 ثالثاً ـ حالة قبرص: يمكـن اعتـبار قبرص مثلاً آخـر من أمثلة، ما يسمى بالحياد، حينما هاجـم (معاويـة بن أبي سفيان رضي الله عنه) قبرص كانت تخضع للبيزنطيين، هـذا في عهـد عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة (28ﻫ ـ 648م) وبما أن ضم قبرص كان من الممكن أن يورط المسلمين في حرب جديدة مع الروم، وهم الذيـن ينافسونهم في السيطرة على البحـر الأبيض المتوسط، فقد عقدت معاهدة، جعلت في قبرص دولـة حاجزة، والدولـة الحاجـزة: هي دولـة محايدة واقعة بين دولتين، تحول دون تصادمهما، ونصت المعاهـدة على دفـع (7200) ديناراً سنوياً إلى المسلمين، وبقيت الجزية المتفق على دفعها للروم ملزمة للقبارصة، كذلك وقد تعهدت قبرص بأن لا تشترك في حرب تقـع بين المسلمين وأعدائهم، وبأن تزود المسلمين بمعلومات عن تحركات أعدائهم الروم.

 رابعاً: ورد في سـيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عليـه السـلام اتفق مع بني ضمرة على أن يكونوا في حالة حياد بينه وبين قريش، جاء في السيرة «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لاثنتي عشرة ليلـة مضت من صفـر السنة الثانيـة للهجرة في سبعين رجلاً، ليس فيهم أنصاري، يريـد قريشاً وبني ضمرة، فاتفق له موادعة سيد بني ضمرة، وهو مجـدي بن عمرو، واستقرت المصالحـة على أن لا يغـزو بني ضـمرة ولا يغزونه، ولا يكثرون عليه جمعاً، ولا يعينون عليه عدواً، وكتب بينه وبينهم كتاباً»([26]). وقواعد الحياد، وإن كانت تخاطب الدول ذات السيادة لا الأفراد ولا القبائل، فإننا نستدل بهذا على مجرد تقرير مشروعية المبدأ، ثم يطبق على صورة أوسع.

 خامساً: في عهـد عمـر بن الخطـاب رضي الله عنه صالح العرب الجراجمة الجبليـة الساكنـة على حدود سوريـة. حينما فتحـوا الشام على أن يكونوا أعواناً للمسلمين، وعيوناً ضـد الروم، على شريطـة ألا تطلب منهـم الجزية([27])، والمتتبع لأحداث السيرة النبوية والتاريخ السياسي الإسلامي يجد أمثلة كثيرة تدل على أن الإسلام يجيز الحياد ويطلبه، حتى لا تبقى الأمم في حروب دائمة فتهلك، الحرث والنسل.

*  *  *

* المطلب الرابع ـ متى يكون الحياد من المسلمين :

 إذا كانت الحـرب بين دولتين مسلمتين، لا يجوز للدولة المسلمة الأخرى أن تقف على الحياد، بل من الواجب عليها أن تبحث في أسباب الخلاف، وتقرب وجهات النظر، حتى يعودوا إلى الصلـح والوئام، فإن استمرت الحرب، تحرت الدولة المسلمة من هو المعتدي، والذي لا يريد الجنوح للسلم فتقاتله، حتى تعود الفئتـان إلـى رشدهمـا مصداقاً لقولـه تعالى: ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّـهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾[الحجرات: 9].

 وإذا كانت الحـرب بين دولـة إسلاميـة وأخـرى غير إسلامية «وفي هذه الحالة لا يكون للحياد موضع، فإنه يكفي الاعتداء على مسلم لكي تتضافر القوى على دفع الاعتداء، والاعتداء على أي مسلم في الأرض اعتداء على عامة المسلمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله»([28]) . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول أيضاً: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»([29]) . وغير ذلك من الأحاديث الدالة على التعاون الإسلامي عامة من غير قيد ولا شرط»([30]).

 وأما إذا كانت الحرب بين دولتين غير مسلمتين ففيه حالات:

 1 ـ إذا كان هناك عهد مع إحدى الدول، وهدنة بسبب حرب بين المسلمين وبينهـم، ورفعت السيوف لتعود تعلـو مرة أخرى، والعهد كان صورياً، يجوز عندها إلقاء عهدهم وأخذ العدو، أمـا إذا كانت عهود ومواثيق تدل على صدق نوايا، فلا يجوز نبذها لقوله تعالى: ﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّـهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾[التوبة: 7] ويكون حياداً.

 2 ـ إذا كان بين أهل الدولتين والدولة الإسلامية معاهدة، أو حلف يوجب النصـرة، في هـذه الحالـة لا يمكن أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي، فقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم الحرب على قريش، لما نقضوا العهد وأغاروا على خزاعة.

 3 ـ أن تكون كلتا الدولتين المتحاربتين لا تربطهما بالدولة الإسلامية عهود، ولا مواثيق على النصرة، فهنا يبقى المسلمون على حيادهم وتوجب أحكام الإسلام تجنب دخول الحرب لأسباب ثلاث([31]).

 أولهما: إن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلم، فما دام لا داعي للحرب فيتعين السلم، والحياد لهذا نتيجة مقررة لأصل القاعدة الإسلامية.

 الثاني: إن الحروب في مثل هذه الحال تكون لمآرب دنيوية، لا لغايات تتعلق بالأخلاق والفضيلة وكلتاهما ظالم، ولقـد قال في قريب من هذا الكـلام الإمـام مالك «دعهم ينتقم الله من ظالم ثم ينتقم من كليهما»([32]).

 الثالث: إن دخول المسلمين في هذه الحرب، تأييد لأحد الفريقين الظالمين على الآخر، وتأييد الظلم لا يجوز، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من أعان ظالماً ليدحض بباطله حقاً برئت منه ذمة الله ورسوله»([33]) .

 وقال صلى الله عليه وسلم : «من أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع»([34]).

 يبقى عندنا: لو كانت إحدى الدول ظالمة في حربها، أو ضعيفة تريد الأخرى انتهابها وسلب خيراتها بالبطش والقوة، في هذه الحالة ينظر إلى الواقع الإسلامي، فإن كانت الدولـة على جانب من القوة، تستطيع ردع المعتدي فعلت وإلا لزمت الحياد.

 هكـذا نجـد أن الإسلام فتح المجال أمام هذا التنظيم الشرعي منذ عهده الأول، وإن لم ينطـق باسمـه المتعارف علـيه الآن، فقـد تبين من الفقـرة السابقة موقف الإسلام من الحياد المؤقت، الذي تتخذه الدولة بمحض إرادتها واختيارها «إزاء حرب بالذات وأثناءها لا مانع من الاعتراف به شرعاً، لأنه يجنب المسلمين خطراً آخر، فلولا التزام جانب الحيـاد لكان المسلمون في قلق بالنسبة لهذا البلد المحايد عند قيام حرب مع بلد آخر»([35]).

 أما الحيـاد الدائم الذي تضع دولـة نفسهـا فيـه بالاتفاق مع دول أخرى وعلى حسب اتفاقية دولية: «فهو يتفق مع وجهة النظر الإسلامية التي تقوم علاقاتها الدائمة مع غير المسلمين على أساس المعاهدات»([36]). وأساس السلم والحياد الذي كان يقره الإسلام هو: الحياد التعاقدي الذي كان يتم بموجب عقد بين الدولتين. وهـذا لا يمنـع من الاعتراف بباقي أشكال وصور التعاقد التي لم تكن في العصر التشريعي الإسلامي الأول.

*  *  *

* المطلب الخامس ـ الحياد الايجابي: (عدم الانحياز) وموقف الإسلام منه:

 يا حبذا اجتماع البشرية على خير تحت أي نظرة سياسية اقتصادية اجتماعية... تحمـل معنىً إنسانياً، وتنقـل البشريـة نقلـة فيهـا رحمة وخير. فما دام المنطلق «في علاقات المسلمين بغيرهم: هي السلم ورد العدوان والدفاع عن المظلوم، فليس ما يمنع في رأينا ـ أن يقوم تنظيم أو تمثيل سياسي دائم بين المسلمين وغيرهم لتدعيم العلاقات السياسية أو الاقتصادية وتقوية أواصر الود وزيادة التفاهم»([37]).

 وإذا وجد هذا التنظيم يجب أن تتوافر فيه ثلاثة شروط:

 1 ـ ألا يمس هـذا التنظيـم جوهـر العقيدة، أو يعارض قاعدة من قواعد الدين، التي تؤثر على المسلم في دينه أو دنياه، كإنكار أمر ثابت من الدين بالضرورة، أو تحريم حلال أو تحليل حرام.

 2 ـ ألا يكون في هـذا التنظيم افتئـات على السيـادة الإسلامية، أو إنقاص منهـا، فالسيـادة الإسلامية مستمدة من الله سبحانه، ولا يليق هذا بخلق وكرامة المسلم.

 3 ـ أن يكون تناصراً على الخير لرد عدوان، أو دفاع عن مظلوم أو عمل فيه منفعة وخير للإنسانية، وإلا فلا يجوز النصرة في الباطل.

 وعلى ضـوء هذه الشروط، يكـون دخول الدولة الإسلامية في أي تنظيم دولي، يتخذ أي صفة ما دام هذا التنظيم يهدف إلى الخير ويبتغيـه، وعدم استيفائه هذه الشروط، يكون دافعاً لانسحاب الدولة الإسلامية من التنظيم.

 إذن: الإسلام يعتبر تقسيم الدنيا إلى دارين أمراً عارضاً، يحدث ذلك عند قيـام الحرب، فإذا انتهت عـادت الحالـة إلى أصلهـا، وكانت الدنيا داراً واحدة، ولا مانع شرعا من إيجاد دول محايدة، تقبل أن تعتزل الحروب وتحافظ على كيانها السياسي.

 

 

p p  p

 

 



(([1]   العلاقـات الدوليـة في الإسلام ـ الشيـخ محمـد أبو زهـرة ص 53 آثـار الحرب زحيلي ص 169.

(([2]   العلافات الدولية في الإسلام ص 53 ـ آثار الحرب في الفقه الإسلامي ص 170، واشترط أبو حنيفة رحمه الله ثلاثة شروط لدار الحرب: ظهور أحكام الكفار ونفاذة فيها وأن تكون متاخمة لدار الكفر والحرب، ألا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمنا بأمان المسلمين.

(([3]   الخراج ـ أبو يوسف ـ طبع دار المعرفة بيروت ص 144.

(([4]   آثار الحرب ص 171.

(([5]   رواه الجماعة إلا ابن ماجه.

(([6]   الخراج أن يفتح الإمام بلدة صلحا على أن الأرض للمسلمين ويسكنها الكفار بخراج معلوم فالأرض تكون فيئا للمسلمين والخراج أجـره لا يسقط إلا بإسلامهم القاموس الفقهي سعدي أبو جيب ص 114.

(([7]   آثار الحرب هامش ص 175.

(([8]   العلاقات الدولية في الإسلام ص 55.

(([9]   الفروق للقرافي ج 3 ص 24 طبع عالم الكتب بيروت.

(([10]   القانون الدولي العام، علي صادق أبو هيف ص 79.

(([11]   القانون الدولي العام ص 207.

(([12]   مدخـل إلى القانون الدولي العام ـ عزيز شكري ص 125 ـ 126 أبو هيف ص 209 ـ 210.

(([13]   عزيز شكري ص 123.

(([14]   عزيز شكري ص 123.

(([15]   المرجع السابق ص 124.

(([16]   المرجع السابق ص 567 ومراد ص 226.

(([17]   عزيز شكري ص 568.

(([18]   ابن كثير ج 1 ص 533.

(([19]   آثار الحرب ص 205 والناسخ والمنسوخ لأبي النحاس ص 11.

(([20]   الكشاف ج 1 ص 415 الرازي ج 3 ص 282 ابن كثير ج 1 ص 533 المنار ص 352 ـ 326 آثار الحرب ص 206.

(([21]   العلاقات الدولية في الإسلام محمد أبو زهرة ص 84.

(([22]   رواه أبو داوود ج 4 ص 112 ـ 114 النسائي ج 2 ص 64 ـ 65.

(([23]   الحرب والسلام في شريعة الإسلام د. مجيد خدوري ط 1 1983 ص 34.

(([24]   عبد الله بن أبي سرح القرشي العامري. فاتح إفريقية فارس بني عامر من أبطال الصحابة كان من كتاب الوحي توفي عام 37ﻫ.

(([25]   خدوري ص 345 ـ 349.

(([26]

الموضوعات