جاري التحميل

الشيوعية والممارسة العملية للعنف

الموضوعات

الشيوعية والممارسة العملية للعنف

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقال :  

 ونريد أن نقف قليلاً مع الشيوعية التي نادى صاحبها الأول العمال بقوله: (يا عمال العالم اتحدوا)، وهـو يرمي من وراء ذلك بحسب ادعائه إعلان حقـوق الإنسان المضطهد، ووضع نظرية وأطال البحث فيها مسترشدا بأحداث التاريخ مؤكداً على أن الطبقة العاملة ستحكم العالم... ومن ثم سار الفكر الماركسي فتلقفه المفكـرون، حتى أشعـل ثورة على العنصريـة في روسيا التي كان يئن الناس تحت وطئتها، فقد عاثت في الأرض فساداً، وسيطرت على جميع ما تنتجه اليد الإنسانية هناك.

 دارت بين القياصرة والمسلمين حروب شعواء، قاد راية الجهاد فيها العلامة الشيخ شامل([1]) الذي جاهد طويلاً، ثم لم يستطع الثبات بمن معه أمام كثرة الجيش الروسي، وانتهى الأمر باحتلال الروس للبلاد في العهد القيصري.

 ولمـا قامت الثورة البلشفيـة، نظـر المسلمون إليها نظرة ود، فلطالما عانى المسلمـون من ظلـم القياصرة، وأغراهـم البيان الموجـه إلى المسلمين في روسـيا والشرق، الذي صدر في ديسمبر (كانون أول) بعـد نجاح الثورة بشهرين، حيث جاء فيه «إن إمبراطورية السلب والعنف والرأسمالية توشك أن تنهار، والأرض التي تستند عليها أقدام اللصوص الاستعماريين تشتعل ناراً، وتتجه بأنظارها إليكم أنتم يا مسلمي روسيا ويا مسلمي الشرق، أنتم يا من تشقون وتكدون وتحرمون من كل حق تستحقونه... أنتـم يا مـن انتهكت حرمات مساجدكم، ومدارسكم واعتدي على عقائدكم وعاداتكم، وأزيلت قبور موتاكم وداس القياصرة والطغاة الروس على مقدساتكـم... ستكـون حريـة عقائدكم، وعاداتكم وحرية نظمكم القومية وحريـة مدارسكم ومعاهدكم الثقافيـة مكفولـة لكـم، لا يطغـى عليهـا طاغ ولا يعتدي عليها أحد»([2]).

 إن هـذا البيـان يحكي الحالـة المزريـة التي كان عليها المسلمون في روسيا، وتتوالى الأيام، ويطمع الشعب المسلـم بالاستقلال، وتطالب جمهورياته الأربع،بذلك «فلما استتب الأمر للبلشفيين... جرد هؤلاء جيوشاً على جمهوريات القوقاس الأربعـة»([3]) فقضـوا على أزمتهـا وألحقوها بحكومـة موسكـو خلافاً لعهودهـم الأولى، وثار أهالي الداغستان فتغلبت الحكومة البلشفية على الثوار وقبضت على بعضهـم وألقتهـم في السجن، وشـرد قسـم من رؤساء الحكومة المستقلة... إلى أوربا([4]).

 أترون كم البـون شاسع بين النداء الموجه في حالة الضعف، والنكث للعهود والمواثيق، بعـد أن تمكن لهـم الأمـر، إن هذا الخداع لا يقبله ضمير إنساني، وهل جزاء من ساعد وأعان الموت أو السجن أو النفي على أفضل حال؟! وقد استمر المسلمون يعانون ويكابدون من الاضطهاد الشيوعي ردحاً من الزمان، مما يؤرق بال من لديه مسحة إنسانية.

 لقد صبّت الثورة الشيوعية أول ما صبّت جام غضبها على الشعب الروسي، الذي وثق بها، وناضل معها حتى أطاح بالقيصرية، فراح الثوار ينقمون منه، بعد أن سخروه للثأر من الطبقـة الأرستقراطيـة والكنيسـة، فطبقوا عليه قوانين أشد قسوة من القوانين القيصريـة، أو أبعد ما تكون عن مفهوم الشيوعية والإنسانية، وذلك ليرهبوه نهائياً حتى لا يعترض طريق أهدافهم([5])، فالمهم أن نحمي الثورة ولو على جماجم المئات والألوف من أبناء الشعب، لذلك أخذت تعاملهم بقسوة، حتى الذين كان لهم باع في الثورة «لم ينلهم في مستهل الثورة إلا القتل والتنكيل، وحتى صغـار الرهبان أمثال القس كابون ((Cabone الذي كان أول من أعلن الإضراب على رأس خمسة وعشرين عاملاً، وتعرض مع رجاله للمذبحة الرهيبة،التي وقعت في 22 / كانون الثاني، التي ما زال الناس يذكرونها»([6]).

 هذا على مستوى الشعب، فهل يا ترى كان الأمر بالنسبة للحكومة أيسر؟ وهل كان أعضاؤها في منأى عن طغيان الثورة وقادتها؟ الجواب: لقد كان العكس تماماً «فكم شهدت قاعات الكرملن المجرم تروتسكي، يثور فيها ويعربد، ويهدد رفاقه في المجلس، ويؤكد لهم تطرفه في خدمة الثورة»([7]).

 لم تكتف الثورة بذلك، بل نشرت بين أبناء الشعب نـماذج صفيقة وحقيرة كما أسمتهم من خدام الثورة، الذين يراقبون تحركات النـاس وسكناتهم، يرفعون لها التقارير ويمدونها بالمعلومات، من أجل أن ينالوا أعطية مقابل دم إنسان، يكون أضحية الثورة، وربما كان بريئاً فهذا لا يهم، فتكفيه تهمة أن تعرض للثورة بالسب، أو انتقد الإلـه الشيوعي الممثل بالكنيست، الذي لا يخطـئ (بريا (beria والذي يوسـع نشاطه البوليسي ويعتقـل الأبرياء من الفلاحين والعمال،بحجـة مناوأتهم للنظام الجديد، ويقتل المعتقلين في أعماق السجون دون أن يشعر به أحد([8]).

*  *  *

 



(([1]   الشـيخ شامل: هـو زعيم مسلم قاد الثوار المسلمين ضد القيصرية في داغستان استطاع أن يطبق الشريعة الإسلامية وينفرد بحكم مستقل إلى أن دهمته الجيوش الروسية الكثيرة العـدد فأسـر ثم سمـح له بالسفر إلى مكة في شباط 1869 وتوفي في المدينة المنورة سنة 1871م.

(([2]   مجلة العربي عدد 308 يوليو (حزيران) 1984 ص 91.

(([3]   هي: كرجستان والطاغستان، وأريفان.

(([4]   حاضر العالم الإسلامي لوثروب ستورداد ـ ترجمة عجاج نويهض ـ تعليق الأمير شكيب أرسلان طبعة 1352ﻫ، ج 2 ص 192.

(([5]   المفسدون في الأرض ص 250.

(([6]   المرجع السابق ص 251.

(([7]   المرجع السابق ص 253.

(([8]   المرجع السابق ص 255.

الموضوعات