جاري التحميل

العنف الذي مورس في الثورة الفرنسية

الموضوعات

العنف الذي مورس في الثورة الفرنسية

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقال :

 يبقى أسلـوب العنـف والإجرام عبر الأيـام يسري في الدم البشري، على الرغم من أن هناك دعوات كانت تعلن شعارات إنسانية، إلا أن ذلك طلاء زائف يخدع الناظريـن إليهـا، ولعـل الثـورة الفرنسيـة من أظهـر هـذه الدعوات، فهي تعتبر بوتقـة الأعاصير التـي حملـت إلى بقـاع الأرض لهيبهـا، فأقضّت مضاجـع الناس، وقلبت التيجان وجـاءت بمنهـج جديـد وتفكير جديـد ظاهـره العدل والمساواة والإخاء، وباطنه الانتقام والحقد.

 كتب أحـد من حضر المعارك التي خاضها جيش نابليون في أسبانيا: «كنا نجد على طول الطريق جـنوداً اغتالهم الأنصار وكان نصف بعضهم محروقاً، على حين قطعت الأطراف الأربعة للبعض الآخر، وكان هناك جنود تم تعليقهم على الأشجـار، أو شنقـوا من أقدامهم وكانت الأوامر المعطاة إلينا، تقضي بأن نحرق كل قرية تطلـق رصاصـة واحدة، وأن نغرقهـا بالدماء، دون أن نستثني الأطفال والرضع، ولم نكن نفعل طول ستة أسابيع شيئاً سوى النهب والحرق»([1]) إن هذا الأسلوب يعني تحقيق شعـار الحرية والمساواة والعدالة، وفي منطق الإجرام يقول أحدهم: «عندما أطلقت هذه الشعارات (الحرية والمساواة والأخوة) لأول مرة في التاريخ، أحاطت بنا زمرة من الببغاوات العجماوات، وتلقفتها من أفواهنا، واتخذتها شعارات مقدسة لنفسها، دون أن تدرك هدفنا من إطلاقها، ومن ثم راحت ترددها دون هوادة حتى حرمت العالم استقراره، وأفقدت الناس حرياتهم التي دافعوا عنها طويلاً، وحموهـا من عبث الطغـاة الأوباش»([2]) عجباً وهـل يكـون من يستجيب لداعي الحرية التي تعشقها الناس فطرة ببغاء؟! أم أن يد الإنسان الدنية قد لوثت العبارات كذلك، وجعلت لها غطاء نفاق ودجل لمآرب شيطانية، يساق بها الناس بشعارات أخـاذة للقضاء على كرامـة الإنسان وحريتـه، لتحقيق بعض النزوات الآثمة.

 ونتابـع الحديث عن الثورة الفرنسية، التي كانت آمال البشرية متعلقة بها، وربما ما زال الناس يرددون ذكرهـا إلى الآن «فأمـا المذابـح الجماعية التي افتعلها اليهود في الثورة فحدث عنها ولا حرج، وعلى سبيل المثال يذكر السيد (جان بليبر) أحـد معاصـري الثورة، أنـه بسبب فشـل الاتحاديين عام 1793 قررت حكومة الثـورة الائتلافية تأديب مدينتي (ليون) و(طولون) فأوفـدت كـلا من (كونون) و(دوبواكراتسيه) على رأس الحملـة لتأديب خصومهـا في المدينتين المذكورتين، ويبدو أن الإجراءات التـي اتخذاهـا لم ترض اليهـود، بالرغـم من أنهما أعدمـا في غضون أسبوع واحد أكثر من ثلاثين وجيها، فعزلا... وأرسل بدلاً عنهما (فوشه) و(كوللوديربوا) اللذان عرفا بالوحشية والغلظة، وبمجرد وصولهما إلى المقاطعة، أمر (فوشيه) باحتلال الكنائس والمعابد، وسلب ما كان فيها من الأموال والتحف، وتحويلها إلى مواخير وإسطبلات، ثم أمر بأن يؤتى بحمار يلبس لباس الكهنوت، وبعد أن نفـذت أوامـره علـق في رقبـة الحمار مجموعة من الأناجيل، وربط بذيله صورة المسيح، وطوفه في شوارع المدينة، ولما وصل الحمار إلى ميدان (نيرو) حيث تجمـع الأهلون سقاه أمامهم بالكأس المقدس، ومن ثم أحرق الأناجيل وصورة المسيح في الميدان المذكور، وألقى بخطاب ندد فيه بالمسيح والمسيحية بأقذر الألفاظ وأحقرها، وبعد يومين أي في أربعة كانون الأول عام 1793 ساق أربعة وستين معتقـلاً إلى ساحـة الإعدام، وأعدمهم رمياً بالرصاص، ومن ثم أمر جنوده بأن يجهزوا عليهم بالسيوف، فقطعت رؤوس الضحايا وعلقت على واجهات الكنائس، ونواصي الشوارع، وفي اليوم الثاني نفذ حكم الإعدام بمائتين آخرين بنفس الصورة، هذا عدا مَن قتل من الأهلين أثناء عمليات التحرير والتفتيش، ومن ثم أمر بهدم المدينة، وجعلها قاعاً صفصفاً»([3]).

 إنها المثال في الحياة المعاصرة الذي انهالت عليه عبارات الثناء والمديح، تلك هي الثورة الفرنسية، ولنكمل المسيرة ونتابع الطريق لمشاهد المأساة في هذا التاريخ الدامـي، فهذا (فاسترمان) رئيس لجنـة حمايـة الثـورة في منطقة (سافوناني) يرفع تقريراً إلى لجنة السلامة العامة، قال فيه: «تنفيذاً لتعليماتكم، لقد حطمنا جماجم جميع أطفال المنطقة، تحت سنابك خيلنا ورجالها ونسائها جميعاً، حتى أفنينا الأسرى، الذين استسلموا من العصـاة، عن بكـرة أبيهم، ولقد أصبحت الأزقة والشوارع تضيق بجثث الموتى، وسدت مفارق الطرق بأكوام الجماجم، التي جمعت على شكل أهرامات ضخمة، فلتطمئن لجنتكم الموقرة، ولتكن على ثقة بأنني لم أترك في المنطقة ما يسبب لي تأنيب الضمير أو الندم في المستقبل»([4]) قتل الأطفال والنساء والعجزة وارتكاب المجازر الدامية، لا يكون باعثاً على تأنيب الضمير، ولكن إرضاء مجلس الثورة وأعوانه المجرمين شيء عظيم، والتقصير فيه يسبب تأنيب الضمير والأرقبأنـه لم يكـن على إخـلاص تـام، لمـاذا لا يكـون الإخلاص للإنسانيـة وللحـق، لا للأشخاص والرموز الكاذبة التي توضع لينخدع بها الناس.

 لقد ذاقت البشريـة الويلات الكثيرة من جـراء مـا اقترفتـه أيدي الناس،والسؤال الذي يطرح نفسـه الآن، أين تكمـن المشكلة؟ إن المشكلة الحقيقية تكمن في الإنسان ذاته، في الفرد والمجتمع، في عقله وفكره، فهل صاحب العنف بلا عقل؟لا بل إنـه بعقـل وفكر ولكنه يُسيِّر العقل في سبيل خدمة مطامعه فـ «السيادة لمن يملك القوة الأكبر، السيادة للقـوة الوحشية، أو للعنف الذي يدعمه التفكير»([5]) نحن نريد طريقاً ينقلنا من العنف إلى الأمن، ومن الظلم إلى العدل والحق.

 إن الشعب الفرنسي الذي وقف إلى جانب الثورة، كان يعاني الأمرَّين من ظلم الحكام السابقين، فاندفـع من غير رويـة، ودون أن يسأل من أين المخلص؟ فانخدع بالشعارات، وسار خلفها حتى حدث ما حدث.

 لا نريد من هذا السرد أن ننقد، وننتقد حتى نغرس اليأس في النفوس، فنحن نريد من الثورة الفرنسية أن تكون ثورة حق، بل من الشيوعية أن تكون ثورة حق، في سبيل خلاص البشريـة والوصول بها إلى الحـق، لا أن تنتهز الفرص بالخدعة، وتستغل عواطف الجماهير ثم تجعلهـا مطية لمآرب خبيثة، وأخلاق منحطة، فديننا عالمي يدعونا للوحـدة الإنسانية قال تعالى ﴿ إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92] ونبينا صلى الله عليه وسلم يؤكد لك بقوله: «كلكم لآدم وآدم من تراب» .

 

*  *  *

 



(([1]   مقالة في الحرب والحضارة عن مجلة الفكر العسكري السنة الخامسة (تموز ص 21 بسام العسلي م س ص 263).

(   ([2]المفسدون في الأرض ص 157.

(([3]   المفسدون في الأرض ص 161 ـ 162.

(([4]   المرجع السابق ص 164.

(([5]   سيكولوجيا العدوان ـ سيغموند فرويد ص 21.

الموضوعات