العنف عند الشرقيين القدامى
العنف عند الشرقيين القدامى
كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس –بيروت – سنة (1439هـ - 2018م)
فقال :
ولو انتقلنا إلى الشرق القديم، لرأينا الأمر نفسه، ولما اختلف في شيء إلا أننا نجـد تنويعاً في أساليب التعذيب، والقسوة والعنف على الأعداء، حتى من أبناء جنسهم. «فالآشوريون: كانوا قساة غلاظ الأكباد، يدمرون المدن التي يقتحمونها بعد حصارها، وكانت العادة أن تدمر المدينة المغلوبة ، وتحرق عن آخرها، وكان المنتصرون يبالغون في محـو معالمهـا بتقطيع الأشجار، وكان الملوك يكسبون ولاء جنودهم، بتقسيم جزء كبير من الغنائم بينهم، وكانوا يضمنون اتباع العادة المألوفة في الشرق الأدنى، وهي اتخاذ جميع أسرى الحرب عبيداً أو قتلهم عن آخرهم، وكان الجنود يكافؤون على كل رأس مقطوع يحملونه من ميدان القتال، ولهذا كانت تعقب المعارك في أغلب الأحيان مجزرة تقطع فيها رؤوس الأعداء، وكثيراً ما كان الأسرىيقتلون عن آخرهم، فتضرب رؤوسهم بالهراوات، أو يقطعونها بسيوف قصيرة، أما الأشراف المغلوبون، فكانوا يلقون شيئاً من المعاملـة الخاصـة، فكانت تصلم آذانهـم، وتجدع أنوفهم، وتقطع أيديهم أو أرجلهم، أو يقذف بهم إلى الأرض من أبراج عاليـة، أو تقطع رؤوس أبنائهم، أو تسلخ جلودهم وهم أحياء، أو تشوى أجسادهم فوق نار هادئة»([1]). إن هذه الأوصاف عن ألوان العذاب، التي كان يتلقاهـا بنو البشـر، لتدل على مأسـاة عالمية تذوب لها القلوب حزناً، لأنها مأساة عالمية، عاشتها وربما تعيشها البشرية الآن، فليس الأمر وقفاً على فئة، أو مضبوطاً بحد، بل هو دورة عاصفة تعم الجميع، ويصل إليهم شررها، والذين عذَّبوا وقتّلوا، ربما دارت عليهم الدوائر، وردت الكرة عليهم ولقوا حتفهم، كما نالوا من غيرهم وإذا ما أردنا أن نتتبـع هذه الأحـداث ونحصيهـا، أو نسرد أشكالاً وأنواعاً منها لضاق المتسع، إن أحدهم لم يكن ليرحم الآخر، فهذا (دارا الأول) الغازي، الذي بدأ «عهـده بالشـدة والعنف، ثارت عليـه بعض الولايات، إثـر اغتصابـه الملك فأخضعها بقسوة. ولما استولى على بابل بعد حصار طويل، أمر بصلب ثلاثة آلاف من أعيانها، ليرهب بقية السكان ويرغمهم على طاعته، استمرت ضرباته السريعة وحملاتـه الماحقـة، حتى أخضـع جميع الولايات الثلاث، ولقـد كتب في نقـش جهستون: وقبض على فرافارتش وجيء به إليّ فجدعت أنفه وصلمت أذنيه وفقأت عينيه، في بلاطي مقيداً بالأغلال، يراه كل الناس ثم صلبته بعد ذلك في اكباتانا»([2]) بهذه السيرة عامل جميع خصومه.
هكذا يعامل الخصوم السياسيون والعسكريون متهمون وأبرياء، حتى إننا نتساءل هل كان أؤلئك الناس بشراً مثلنا، نقول نعم إنهم بشرٌ مثلنا ممن خلق الله، فقد عرض القـرآن أوصافاً لمثـل هـذه الأحداث، وكيف أن الله سبحانه وتعالى أهلك تلك الأمم بظلـم أهلهـا، ويعـرض القرآن لونا من ألوان العذاب، الذي كان يمارس في ذلك الزمان، وتلك العصور بحكاية قول فرعون ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ ﴾[طه: 71] أياً كانت المخالفة فالعقوبة شديدة لا هوادة فيها ولا رحمة.
والرأي هـو رأي القـوة لا رأي العقـل، والحكـم حكم الظلم والاستبداد لا حكم العدل والحق والرحمة، ذلك الذي حمل البشرية أوزار أعمال مشينة، فعطلت العقل الذي وهبه الله للإنسان، لكي يفكر في سر وجوده وكنه خلقه، ليسوي أخاه الإنسان بنفسه فيأبى الطاغوت إلا كفوراً.
إن العنف وسيلة يقوم بها الإنسان الظالم للسيطرة على أعدائه، لذلك تُكم الأفواه وتُصم الآذان وتخرس الألسنة عن سماع وقول الحق، فلا يسمح لأحد أن يتكلم أو يبدي رأياً، إن ما اتبع وما يتبع من وسائل الإرهاب والقسوة عبر التاريخ،إنما هـو وصمـة عـار على جبين من اتبعـه، وإن من سـار على هدى الحق والنور والعدل، سيبقى نبراساً يستضـاء بـه في ظلمات الجهل، ومنهجاً لكل صالح يريد الخير لهذه البشرية.
فهـل نتلقـف الآن خلاصـة الفكـر الماضي وتكـون الغلبـة للأقوى، مع الإعراض عن الحق، نحيي آلهة الحرب التي عظمت في سالف الزمان «لقد عظم الرومان الحرب حتى نصبوا لها الإلـه (مارس) وعظمها اليونان فنصبوا لها الإله (أوزوريس)»([3]).
أقول نعم ولكن ممن؟ إنها ستحيى من الظلمة والمتغطرسين الجهلة، الذين أغرتهم العـزة الكاذبـة والبهارج الزائفة، من مناصب الدنيا ومطامعها، فلا يزال داعي الشيطان يطـن في آذان أتباعـه، ولا يهـدأ أو يروق له بال إلا إذا رأى منظر الدماء والظلـم، يسـير بين البشرية قانوناً يمجـد، وإعلاماً تتهجد به الأصوات، إطناباً بأعمال الملتاثين من أبـناء البشر، الذين غرقـوا بالدماء، دمـاء شعوبهم أو شعوب غيرهم، لأنهم لا يريدون من يعاندهم أو يقف في طريقهم، وهذا الفاتح الشاب الحكيم كما يسمونه في التاريخ الإسكندر المقدوني «أمر بإعدام أربعة ألاف أسير من أهالي مدينة صور، جزاء لهم على مقاومتهم له وعدم استسلامهم»([4]) لأن ذلك جريمة لا تغتفر بحق فاتح العالم.
* * *