جاري التحميل

العنف والحرب لدى العرب الجاهليين

الموضوعات

العنف والحرب لدى العرب الجاهليين 

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقال :

لم يكـن للعـرب قبـل الإسلام كيان سياسي موحـد، أو اتحاد قومي، وإنما كانوا موزعين على قبائل متفرقة ومتنازعة، لا تجتمع لهم كلمة ولا تهدأ الغزوات فيما بينهـم. «وينقسم العـرب عامـة إلى قسمين حضر، وهم سكان المدن، وبدو، أولئـك هـم الذين يقيمون في الباديـة في مساكـن من بيوت الشعر، ويهيمون مع أنعامهم وأسرهم في الصحارى والهضاب، انتجاعاً للمرعى»([1]).

 إن هـذه الحيـاة التي يعيشهـا العـرب في الباديـة، قضت بأن يكون الغزو والإغارة مصدراً من مصادر العيش عندهم «وهو في الواقع نوع من اللصوصية، إلى مرتبة يقرها النظام القومي، فأصبح الغزو من أركان البناء الاقتصادي، في الهيئة الاجتماعية البدويـة، واستولى حب القتال على نفوس أهل البوادي، حتى أصبح حالـة عقليـة مزمنـة، وأصبح شن الغزوات، نموذجا للأعمال التي يليق بذوي الرجولة الحقة أن ينصرفوا إليها»([2]).

»وعلى حـدود باديـة الشـام في الشـرق والغرب، نشأت إمارتان عربيتان، وقفت إحداهما من دولة الفرس، موقف الثانيـة من دولة الروم، والفرس اتخذوا إمـارة الحـيرة عوناً على حـرب الـروم، وسـداً بين العـراق وغـارات الأعراب، وكذلك اتخـذ الروم أمـراء غسـان أعوانا على الفرس، ووسيلة إلى إخضاع قبائل البادية»([3]).

 يتضح لنا أنه قد أقيمت على أطراف الجزيرة العربية، مدن ومدنية، وكانت لها مع العالم الخارجي علاقات، إلى درجة أنها أصبحت تابعة لدول أجنبية مستعمرة لهـا، كما حدث في اليمـن، وأمـراء الحيرة والغساسنة، فالحروب كانت فيما بينهم منظمـة، فإذا تمكـن أحدهـم من الآخر، لا يألو جهداً في تقتيل وسبي واسترقاق ما استطاع إليه سبيلا، كما حـدث مـع أصحاب الأخدود، الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم.

»ويحدثنا الإخباريون أن (سابـور) ملـك فارس، الذي لقبـه العرب بذي الأكتـاف كـان قاسياً مع الحيرة، وغيرهم من القبائل. فقتل وأسر وعذب، وأباد أعـدادا كبيرة، وردم الآبـار ليحـرم الناس منهـا، واضطر إلى تبديل سياسته التي فشلت في إخضـاع العـرب. وكـان (النعمان) الأول: يأخذ الرهائن من القبائل، وينظمهم في كتيبـة تضـم خمس مائة رجل، يقيمون على بابه سنة كاملة، ثم يجيء بدلاً منهم خمس مئة، فينصرف الأولون إلى قبائلهم وأحبابهم»([4]).

»ويروى أيضا أن الغساسنة قتلوا الملك (الأسود بن المنذر) بعد أسره، وأن المنذر استطـاع في بعض حروبـه مع الروم، من أسر قائدين رومانيين، لم يلبث أن أطلق سراحهما بعـد توسـط القيصر. ويزعم بعض المؤرخين أنه ضحى بأربعمئة راهبة للعزى من الأسرى، وأنـه قتـل عدداً كبيراً من السكان، كما قتل اثني عشر أميراً من (بني حجر عمر) وقعوا في أسره. ويروي بعض الإخباريين أن (عمرو بن هنـد) ملـك الحيرة قتل من بني دارم مئة شخص انتقاماً لقتلهم أخيه، وأنه ألقى بالقتلى في النار»([5]).

 لقد كان شان القبائـل العربيـة في حروبها مؤلماً فيما بينهم، إذا ما تعرضت إحداها للهجوم، فضرباتهم قاسية، وعنفهم وحشي، فضلاً عن الاعتداءات التي تعرض لها العرب من الخارج، فهذا (بختنصر) الذي يريد ألا «يستحيي فيها إنسياً ولا بهيمة، وأن ينسف لك نسـفاً حتـى لا يبقـي لهم أثراً»([6]). وهكذا «بقيت بلاد العرب خراباً حياة بختنصر»([7]).

 بنيت حياة العرب على عادة الأخذ بالثأر، فإذا جرحت كلمة شعور أحدهم، أو قتلت دابـة لأحـد أبناء القبيلة، كلف هذا الأمر القبيلتين حرباً ضروساً، تزهـق فيها أرواح المئات، وكان لزاماً على جميع أبناء القبيلتين أن يشتركوا في هذه الحرب، كما قال شاعرهم:

وما أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وأن ترشد غزية أرشد

إذن الحـق في أن تتبـع القبيلـة، وأن تنخرط في صفوفها، وإن أوردتك المهالك، فأنت قاتل وإن لم تقتل... فترى حرباً ضارية تدور بين قبيلتين عربيتين، بكر وتغلب وهـم أبنـاء عـم، تدوم وقتاً طويلاً، سميت هـذه الحرب بالبسوس، لأجل أن كليباً ابن عم جساس يضرب ناقة خالته البسوس، فتنفذ من ضرعها فتصرخ العجوز بالويل والثبور، وتستغيث جساساً، فيشعر بدوره أن هذا الأمـر نـال من كرامته، فكلف كليباً ضربه الناقة حياته والقبيلتين حرباً ضروساً (دامت أربعين سنة) ([8]).

 وكتبت حول هذه الحرب الملاحم وروي الشعر ومما قاله المهلهل([9]):

 ولأوردن الخيل بطن أراكة
 

 

 

ولأقطعن بفعل ذاك ديوني

ولأقتلن جحاجحاً من بكرهم

 

 

ولأبكين بها جفون عيوني

حتى تظـل الحامـلات مخافة

 

 

من وقعنا يقذفن كل جنين

 وتستمر العادات العربية تجر في طريقها صنوف التشريد والتقتيل، فهذا أمرؤ القيس يشن حرباً ضروساً ليأخذ بثأر أبيه من بني أسد، ويستعملالعرب ويستعديهم ضد بعض([10]).

 جـاء خبر مقتـل والد (امرىء القيس) وهو سائر في لهوه وشربه ومنادمته أترابه، فينقلب عندها إلى أسد هصـور يتعشق منظـر الدماء، ويرى الصرعى من حوله بأعـداد كبيرة، فلا يروي ظمـأه، ويجـند الجنود حتى «أوقع بقبائل أسد، وقتل الأشقر بن عمرو وهو سيد بني أسد وشرب في قحف رأسه([11])».

 لم يقف (امرؤ القيس) عند هذا الحد من الإسراف فسئمه الناس وأحجموا عن تصرفـه فتحول نظره إلى الروم يريـد أن يستعديهم ضد أعدائه، وما لك إلا حبا في الانتقام.

 ومن أيـام العـرب المشهورة، والمشهود لهـا في التاريـخ، حـرب (داحـس والغبراء)، وهما اسمان لفرسي الرهان، اللتين ضربت إحداهما حتى تراجعت، فثار العرب الذين خسروا الرهان، واشتعلت نار الحرب ردحاً طويلاً من الزمن، كلفت الناس الكثير من الأرواح وفـراق الأحبـة، وذاق العرب ويلات وحسرات، إلى درجة«غزت بنو ضاهلة بني سليم، فقتلوا القوم وأخذوا أسلابهم وأخذوا عائذاً ومعوذاً سيديهم، فباعوا أحدهما بمكة وقتلوا الآخر»([12]).

 لقد دامت بين العرب حروب كثيرة كذلك، منها حرب الفجار التي سميت بهـذا الاسم «لأنهـا وقعـت في الأشهر الحـرم وهي الشهور التي تعظمها العرب، وتحرم فيها القتل والقتال فيما بينهم، فلما خرج المتحاربون فيها على شريعة العرب كانوا فاجرين بذلك»([13]).

 من الأسباب التـي دعت إلى هـذه الحرب التي توالت أيامها سنوات، أن «من عادة النعمان بن المنذر ملك الحيرة أن يرسل كل عام إلى سوق عكاظ لطيمة (وهي الجمال التي تحمل المسك والطيب) بجوار رجل شريف من أشراف العرب يحميهـا لـه، حتى تصـل إلى السـوق فتباع فيهـا، ويشترى له بثمنها أدم من أدم الطائـف. ولا يقـوم عادة بعبء حمايتهـا إلا منيع لقومه عدداً وعزة، وكان الذي يجيـر في الغالب سيـد مضـر، فلما جهـز النعمان اللطيمة لعام (585) م قال: من يجيرهـا؟ وكـان بحضرته أنـاس من أشراف القبائل، فانبرى له البراض بن قيس الضمري، وكـان فتاكاً يضرب بفتكـه المثل فقال: أنا أجيرها على بني كنانة، فقال النعمان: (ما أريد إلا رجلاً يجيرها على أهل نجد وتهامة) فقال عروة الرحال أحد أشراف هوازن وكبرائهم «أتطلب من خليع أن يجيرها لك؟ أبيت اللعن أنا أجيرها لك على أهل الشيح والقيصوم، يريد عامة العرب فحقد عليه البراض وقال: أعلى كنانة تجيرها يا عروة ؟ قال: نعم وعلى الناس كلهم»([14]).

 ودامت هذه الحرب التي شهدت خمسة أيام([15]) من أيام العرب يلتقي فيها الرجال بالرجال، تنتزع الأرواح، وتورث التشريد والهلاك.

 شهدت مدينة يثرب قبل البعثة أياماً سوداء كالحة من أيام العرب، التي لم يرقب العرب في بعضهم فيها إلاًّ ولا رحمة، ومن بين أيامهم المشهورة يوم (بعاث) الحرب التي دارت بين الأوس والخزرج، حيث «لبث الأوس والخزرج أربعين ليلة يتصنعون الحرب ويرسلون إلى حلفائهم من قبائل العرب»([16]).

 يريدون أن يبرزوا بالقوة والكثرة بعضهم أمام بعض، ليرى أيهم أشد قوة وأشد تنكيلاً، حتى قطعت الأوس على نفسها فقالت «إن ظفرنا بالخزرج، لم نبق منهم أحداً ولم نقاتلهم كما كنا نقاتلهم([17]).

 فلبثـوا شهريـن يعـدون ويستعدون ثم التقوا ببعاث»([18])، ودارت المعركة بين الطرفين بضـراوة، كل منهـما يريد النصـر إلى جانبـه، حتى «انهزمت الخزرج ووضعت الأوس فيهم السلاح»([19]) إلى درجة «جعلت الأوس تحرق على الخزرج نخلها، ودورهـا، فخرج سعد بن معاذ الأشهلي حتى وقف على باب بني سلمة، وأجارهم وأموالهم جزاء لهم بيوم الرعل....»([20]).

 نجد مما سبـق أن العرب قبل الإسلام كانت تأكلهم الحروب، حيث تبدد الطاقات، وترمـل النساء وتثكل الأمهات، وتخلف الدمار للبلاد، وتوغر بالحقد صدور العباد، كلما جاءت أمـة لعنت أختهـا، فتواكبت أيام العرب، لتضيف إلى تاريـخ الشعوب في العالم بعض المآسي، التي مـرت بها البشريـة، نتيجة للهمجية والعنف، بالسيف الذي يقطع أمجاد الحضارة، وأوصال الوشائج الإنسانية، حتى جاء محمـد صلى الله عليه وسلم بالنـور الجديد الذي خرج به إلى البشرية جمعاء بالسماحة والعدل والرحمة...

 

 

p p p

 



(([1]   مختصر تاريخ العرب، التمدن الإسلامي، سيد أمير علي، ترجمة رياض رأفت ص 3.

(([2]   تاريخ العرب، فيليب حتي ص 53 ط 5.

(([3]   تاريخ العرب العام، المستشرق ـ ل. أ سيديو ص 31 ـ ط 1948 ـ ترجمة عادل زعيتر.

(([4]   أسرى الحرب عبد الكريم فرحان ص 105.

(([5]   أسرى الحرب عبد الكريم فرحان ص 105.

(([6]   تاريخ الأمم والملوك ـ الطبري 1 / 559 ـ ط دار سويدان ـ بيروت.

(([7]   المرجع السابق 1 / 560.

(([8]   الكامل في التاريخ، ابن الأثير 1 / 537 ط دار صادر.

(([9]   المرجع السابق 1 / 533.

(([10]   المرجع السابق 1 / 516.

(([11]   المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ـ جواد علي 3 / 366 ط دار العلم للملايين ط3.

(([12]   القيان والغناء في العصر الجاهلي ـ ناصر الدين الأسد ص 35.

(([13]   أسواق العرب في الجاهلية ـ سعيد الأفغاني ص 147 ط 1356ﻫ ـ 1937 م.

(([14]   أسواق العرب في الجاهلية ـ سعيد الأفغاني ص147 ـ 148.

(([15]   وهي: يوم نخلة، ويوم شمظة، ويوم العبلاء، ويوم الشرب، ويوم الحريرة.

(([16]   الأغاني للأصفهاني ـ م 17 ص 121.

(([17]   المرجع السابق 17 / 121.

(([18]   المرجع السابق 17 / ص 121.

(([19]   الأغاني للأصفهاني 17 / 125.

(([20]   المرجع السابق 17 / 126.

الموضوعات