جاري التحميل

الواقع التاريخي

الموضوعات

الواقع التاريخي

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقال :

 يشهد الواقع التاريخي للمسلمين بسمو الأخلاق والتسامح ورفعة النفوس، يشهـد بهذا البعيد قبل القريب؛ والعدو قبل الصديق؛ وإنما سجل على صفحات التاريخ من أحداث وقعت في تاريخ المسلمين لتمثـل تاجاً مليئاً بالفَخَـار تتيـه به الأمـة الإسلامية على جميع الأمم على مر الدهور والعصور فـ «لم يكن للمسلمين مع غيرهـم إلا أنهم جاوروهم وأجاروهم، فكـان الجـوار طريق العلم وكانت الحاجة لصلاح العقل والعمل داعية الانتقال إلى الإسلام»([1]). ويؤكد هذا من قرأ التاريخ وعرف سير الأمم السابقة. يقول توينبي: «وبعد ذلك وبالتحديد ما بين القرنين الحادي عشر والسادس عشر استمر الفتح الإسلامي متدرجا فشمل تقريبا جميع بلاد الهند وانتشر بصورة سلمية في مناطق أبعد وأوسع في أندونيسيا والصينشرقا وفي إفريقيا الاستوائية شرقا وجنوبا»([2]). لقد وصل الإسلام إلى كثير من بقاع العالم مع أناس بسطاء وتجار مسالمين، إلا أن دين الفطرة عندما يجد فراغا في النفس الإنسانية يملؤه، وإنَّ هذه الجهود السلمية لنشر عقيدة الإسلام بعيدا عن القهر والقوة؛ تجعلنا نردد هذه الحقيقة مع آرنولد إذ يقول: «ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة عن التصديق، وأن السيف كان يمتشق أحياناً لتأييد قضية الدين، وأن الدعوة بالإقناع وليس بالقوة والعنف كانت هي الطابع الرئيسي لحركة الدعوة هذه»([3]). والسؤال الذي يطـرح ألم يشعـل الإسلام حرباً طويلـة شديدة الوطء؟ نقول بلى كابد المسلمون مشقة تلك الحرب؛ التي كانت نوراً لمن أراد الخير والعدل؛ وناراً على من ناصب الحـق والعـدل العـداء، فوجهت الجيوش في مختلـف الجهات؛ تجاهد على جميع الجهات ملل الكفر الطاغية وعنفوان الظلم العاتي؛ حتى تجاوزت حدود الجزيرة العربية؛ واخترقت أعماق الأرض وفجاجهـا فأقبـل الناس يطلبون من المسلمين القـدوم للتخلـص من الظلـم والقهـر؛ فلبـوا نـداء الواجب الإنساني وانساحوا في الأرض يهدمون دول الطغيـان ويقيمـون صروح العدل والإنصاف والأخوة في الإنسانيـة والكرامـة التي ما تذوقتهـا البشـريـة من قبـل أما «حروب الإسلام ضـد قريش والفـرس والروم فإنهـا لم تكـن لنشـر العقيـدة بالسيـف وإنمـا هي تأديب لمن يكفـر بحريـة العقيـدة ويفتن النـاس عما تؤمـن به قلوبهم وتطمئن له عقولهم»([4]). قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّـهِ ۖ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة: 193] ولو بحثنا عن الشاهد لوجدناه ماثلاً أمام أعيننا؛ ألا وهو وجود أناس من أبناء الديانات الأخرى يعيشون بين المسلمين على الرغم من مرور السنين الطويلة التي حكم بها الإسلام، وهنـاك شاهد آخر من التاريخ «ففي عهد الوليد بن عبد الملك هاجم المسلمون الجراجمة والجرجومية نفسها أهممدنهم في جبل اللكام بالثغر في سنة79ﻫ ـ 708م فهزموهم ونقلوا بعضهم إلى الشام وأدخلوا في فرق المسلمين دون أن يكرهوا على ترك النصرانية»([5]). لا نريد أن نقارن بكلامنا بين ما فعله الإسلام وما فعله خصومه بل نترك الكلام لغوستاف لوبون وللقارئ أن يستنتج ذلك إذ يقول: «إن القرآن الذي أمر بالجهاد متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى؛ وقد أعفى البطاركة والرهبان وخَدَمَهم من الضرائب؛ وحـرّم محمد ﷺ قتل الرهبان لكونهم على العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسـوء حين فتـح القدس. أما في الحروب الصليبية فذبـح الصليبيون المسلمـون وحرقـوا اليهود بلا رحمـة وقتما دخلوهـا وقال الراهب ميشو في كتابه رحلة دينية في الشرق: «ومن المؤسف أن تقتبس الشعوب النصرانية من المسلمين التسامح؛ الذي هو آية الإحسان بين الأمم واحترام عقائد الآخرين وعدم فرض معتقد عليهم بالقوة....»([6]). ويتابع لوبون قوله «وسيرى القاررر حين نبحث في فتـوح العرب وأسباب انتصارهم؛ أن القوة لم تكـن عاملاً في انتشار القرآن، فقد ترك العرب الفاتحون المغلوبين أحراراً في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض أقوام النصرانية الإسلام واتخذوا العربية لغة فلك لما رأوه من عدل العرب الغالبين، مما لم ير مثله في سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل».

»وقد أثبت التاريـخ أن الأديان لا تفرض بالقوة، فلما قهر النصارى عرب الأندلس فضـل هؤلاء القتـل والطـرد عن آخرهـم على ترك الإسلام، ولم ينتشر الإسلام بالسيف؛ بـل انتشر بالدعوة وحدهـا، وبالدعوة وحدها اعتنق الإسلامَ الشعوبُ التي قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول»([7]).

 ويؤكد الكلام نفسه توماس آرنولد بما ينقله عن (سيل ـ sale) وهو الذي ترجم القرآن إلى الإنكليزيـة إذ يقـول: «إنه لن يتحرى الأسباب التي من أجلها صادفت شريعة محمد ترحيباً لا مثيـل له في العالم، لأن هؤلاء الذين يتخيلون أنها قد انتشرت بحد السيف وحده إنما ينخدعون انخداعاً عظيماً»([8]).

 لذلك كان تقديم الدعوة شرطاً لجواز القتال؛ ولا أدل على ذلك من مثال سمرقند التي فتحها الجيش دون إنذار سابق، فتقاضوا مع أهل المدينة ثم أمر الجيش بالخروج، إلا أن أهـل المدينـة رضـوا بالإسلام ديناً وشريعـة. وسماحـة الإسلام لا يعبر عنها ولا يخطها قلم، فما أن تنتهي من روضة من رياض السماحة حتى تقع على رياض كثيرة ممتدة امتداد التاريخ متواصلة تواصل الحق والعدل.

*  *  *

 



(([1]   رسالة التوحيد محمد عبده ص 150.

(([2]   الإسلام... والغرب... والمستقبل توينبي ص 16 ط (1) 1969 تعريب نبيل صبحي.

(([3]   الدعوة إلى الإسلام ـ آرنولد ـ ص 88 ط 1957.

(([4]   آثار الحرب في الفقه الإسلامي ص 84 نقلا عن نظم الحرب في الإسلام جمال عياد.

(([5]   فتوح البلدان البلاذري ص 167 ط 1866.

(([6]   حضارة العرب ـ غوستاف لوبون ص 127 ـ 128 ترجمة عادل زعيتر ط 1956.

(([7]   حضارة العرب ـ غوستاف لوبون ص 127 ـ 128 ترجمة عادل زعيتر ط 1956.

(([8]   الدعوة إلى الإسلام ـ آرنولد ص 16 ط 1957.

الموضوعات