جاري التحميل

انتهاء الجهاد في الشريعة الإسلامية

الموضوعات

انتهاء الجهاد في الشريعة الإسلامية

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس  بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقال :

 لم يشعل الإسلام الحرب ويؤجج نارها ثم يدعها تلتهم بلظاها ما يأتي في طريقها دون أن يكون هناك ضابط يكبح جماحها، فقد شرع الإسلام وسائل كثيرة لإنهاء الحرب والعودة بالناس إلى الأصل الذي يعيشون به ألا وهو السلم.

 تنتهـي الحـرب في الإسـلام بدخـول المحاربين في ديـن الله فيكـون لهـمما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، أو بالصلح أو بدخول الجيوش الإسلامية فاتحة للبلاد، أو بترك القتال من الطرفين أو باقتراح التحكيم لانتهاء الحرب وإليكتفصيل كلٍ على حدة.

المبحث الأول
انتهاء الحرب بإعلان الإسلام من المحاربين

 غاية الحرب هي الوصول إلى مصاف الخير والعدل، وأكرم ما يناله الإنسان هو نعمـة الإسلام التي ترتقي بعقـل الإنسان وضميره وتطهره من أدران الكفر وشوائب الفجور، فإذا أعلـن الأعـداء الإسلام وجب الكف عنهم، ومعاملتهم كمسلمين لهم ما للجيش الإسلامي وعليهم ما عليه بدليل:

 قوله تعالى في سورة براءة ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[التوبة: 5] فإذا قبلـوا ووحدوا واعترفوا بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأقاموا أركان الإسلام والتزموا بأحكامه تكف اليدعنهم([1]).

 ـ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله»([2]). ثم قرأ: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴿٢١﴾ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾[الغاشية: 21 ـ 22].

 ـ وردت أحاديث صحيحة توجب على المجاهدين أن يكفوا أيديهم عمن أظهر عندهم شعاراً من الشعارات الإسلامية حتى يتبينوا أمرهم منها، عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغير عند صلاة الصبح، وكان يستمع فإذا سمع أذاناً أمسك وإلا أغار»([3]).

 ـ عن المقداد بـن الأسـود أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقتله» قال: فقلت يا رسول الله إنه قطع يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتـك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال»([4]). وهنـاك نصوص كثـيرة تـدل على أن قبـول الإسـلام من الأعداء يوجب كف القتال عنهم.

 أساليب قبول الإسلام:

 الأدلة السابقـة توجب وقـف القـتال مع العدو إذا أعلن إسلامه، إلا أن على المسلمين التأكد من صدقهم كـي لا ينالوا من المسلمين غرة، فلعلهم قالوها حقناً لدمهم، وخوفاً من ضغط السلاح والمطلوب وقف القتال.

 يقبل منهم ذلك بنطق إحدى الشهادتين بدليل ما جاء في الحديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها....»([5]).

 والاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو إعلان الإسلام بقوله: أسلمت أو أنا مسلم كما جاء في حديث المقداد بن الأسود السابق، كما يقبل الإسلام من الشخص، ولو كان بأي لغة، ويجب حينئذ إيقاف القتال ولو كان الاعتراف بالإسلام خشية القتل، لما روى مسلم وأبو داود في قصة أسامة بن زيد.

ويترتب على قبول الإسلام أثران:

 الأول: عصمة الدم والمال بصورة مؤقتة إلى أن يتبين صدق العدو من طلبه الدخول في الإسلام بدخولـه الفعلي فيه، وهذا الأثر يترتب على مجرد صدور أية بادرة من العدو تدل على قبوله، وإن لم يتلفظ بالقول المخصوص الذي يدخل به العهد في دين الله.

 والثاني: عصمة الـدم والمـال بصورة دائمة، وهذا الأثر يترتب على دخول الإنسان دخولاً فعلياً صحيحاً في الإسلام ولا ينقضه إلا أسباب استثنائية طارئة عملية كالردة والقتل وترك الصلاة والزكاة والزنا»([6]).

*  *  *

المبحث الثاني
انتهاء الجهاد بالصلح

 تقرر لدينـا سابقاً أن الأصـل في علاقـة المسلمين مع غيرهم السلم، وأن الحرب أمـر طارئ على ما تأصل في العلاقات، والصلح مع العدو أصل مقرر في الشريعة، كذلك فقد أوجب القرآن الكريم التزام العهد مع المشركين. بقوله تعالى: ﴿ بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾[التوبة: 1] والأمـر في ذلك للوجوب إذ لا صارف له عن حقيقة مقتضاه وهو قبول المسالمة لأن المسلم كالسلام هو الصلح. والمسالمة طلـب السلامة من الحرب.([7]) وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّـهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّـهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾[النساء: 94] وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ[البقرة: 208]. وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صلح الحديبية على الرغم مما فيه من إجحاف بحق المسلمين في ظاهرة حيث قال صلى الله عليه وسلم : «والله لا تدعوني قريش إلى خطـة يسألونني فيها صلـة الرحم إلا أعطيتهم إياها»([8]). وصالح الرسول عليه السلام أيضاً خيـبر ووادع الضميري في غزوة الأبواء وصالح أُكيدر دَومة وأهل نجران. وما زال الخلفاء على هذه السبيل سالكة وبها عاملة([9]).

 فالإسلام الذي لم يبدأ العـدو بالقتال حتى يخيره بين ثلاثة أمور الإسلام أو الجزية (الصلح الدائم) أو القتال، ليحرص على حقن الدماء وفتح أبواب كثيرة في الصلح لسد مسالك القتال من أمان وعقد ذمة وسلام مؤقت كالهدنة، ويوجب الصلـح لـذا «أجمـع المسلمون على جـواز الصلح، لأن دفع الشر والفتنة حاصل به»([10]). وبـذا يحقق مقصداً أصلياً من القتـال وهو «دفع الشر فكل ما يحقق هذا الغرض فهو جائز بل إنه أولى من الجهاد لما فيه من إزهاق الأرواح وقتل النفوس دون حاجة»([11]).

 وأجمع الفقهاء أيضاً على مشروعية عقد الذمة، لأنه الطريق الطبيعي لاعتناق الإسلام بسبب مخالطة المسلمين ومعرفة محاسن الإسلام، ولعل الله تعالى أن يخرج منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر([12]).

 وإبرام عقد الصلـح لا يختلـف في الشريعة الإسلامية عنه في القانون، منحيث تناول جميع المسائل التي تهم أطراف الحرب وتسويتها وتجديدها، حسماً لكل نزاع بشأنها في المستقبل، ومن حيث تناول المسائل التي كانت سبباً في نشوب القتالوموضوع التعويضات الواجبـة عن الأضـرار المتسببة من هـذا القتال، وبحث مستقبل العلاقات بينهم لتعود إلى السلم([13]). ولا بأس في الشريعة «أن يتم الصلح على عوض مالي يدفع إلى الكفار عند الإضرار أو يدفعه الأعداء للمسلمين إذا كان في الدفع مصلحة للمسلمين»([14]). والغاية هي نشر السلام وتفيؤ ظلال الأمن.

*  *  *

المبحث الثالث
انتهاء الجهاد بالفتح

إن المبـادئ وإن قامـت على الفكـر إلا أنها تبقـى بحاجة إلى قوة ترفع من شأنها وتحمـي حماهـا، لذلـك يكون الفتح مشروعاً إذا كان لازماً لرد عدوان أو دفع ظلـم، والفتوحـات الإسلامية تختلف عن غيرها من الفتوحات، فقد قامت على أساس من التسامح والرحمة والحب المتبادل بين الفاتح والمغلوبين، فلم تقم ثـورات في العالم الإسلامي ضـد الإسلام كديـن ومبدأ، بخلاف ما حدث ضد الاستعمار، الذي كان هدفه استذلال الشعوب وجباية الأموال، وهنا يظهر الفارق. «وعلى الجملة فلم تكن الحروب والفتوحات الإسلامية حروب استعمار وجباية، وإنـما كانت حـروب تحرير وهدايـة»([15]). فالإسـلام لا يرضى أن تشبـه فتوحاته بالاستعمار، ولا يرضى بالاستعمار مهما كان الثمن «فالاستعمار عقبة كأداء في سبيل تقدم الشعوب والمواطنين وتعاونهم الاقتصادي والثقافي وتمتعهم بوسائل الرفاهية المادية للمدنية الحديثة واستمرار علاقات الشعوب على قدم المساواة»([16]).

 والفتـح: يعني الانعتـاق من ربقة النظم البائدة وحكم الأفراد المتسلطين وإظهـار للطاقات المدفونـة عند الشعوب، فـهو إحـياء للحضارات و المدنيات الإنسانيـة، وقد تجلى هذا بمظاهر التقدم الحضاري الذي سارت عليه البشرية في الأقاليم الإسلامية المتحررة بمختلف أديانهم ومبادئهم تحت ظل العدل الإلهي.

*  *  *

المبحث الرابع
انتهاء الجهاد بترك القتال

أمر الإسلام المجاهدين بالثبات وعدم الانهزام والتخاذل، ولم يجز التراجع إلا في حالات تستخلص من قولـه تعـالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ﴿١٥﴾ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّـهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الأنفال: 15 ـ 16] فإذا ألجأت الضرورة العسكرية والتخطيط في المعركة إلى الانسحاب جاز ذلك، وكذلك إذا كان فيه اجتماع القوة الإسلامية وحشد أكبر جاز ذلك.

 وكذلـك «إذا رأى قائـد الجيش المصلحـة في الانصـراف عـن الحرب إما لضرورة الإقامـة، بسبب حوادث الطبيعـة، أو لإدراك مصلحة يخشى فواتها إذا استمر القتـال، أو للمحافظـة على الجيش أمام قـوة حربيـة هائلة للعدو، فيجوز حينئذ الانسحاب وترك القتال» وترك النبي صلى الله عليه وسلم حصار الطائف دليل على جواز ترك القتـال، وإقراره صلى الله عليه وسلم ما حـدث في مؤتة بعد أن تسلم القيادة خالد بن الوليد رضـي الله عنه مـن انسحـاب دليـل على جـواز ذلك، «وكذلـك لما طال حصار القسطنطينية الثـاني بقيـادة مسلمة بن عبد الملـك دون جـدوى نتـيجة الكوارث الطبيعية، أمر عمر بـن عبد العزيز بانسحاب الجيوش في سنة 99 ﻫ ـ 717م بعد أن تزود المسلمون بالمؤن والمدد إن اضطروا إلى القتال وهم يتقهقرون»([17]).

*  *  *

المبحث الخامس
انتهاء الجهاد بالتحكيم

التحكيـم اتفاق بين طرفين أو أكثر في إحالة النزاع بينهم إلى طرف آخر، ليحكم فيه، وقال فقهاؤنا: هو تولية الخصمين حاكماً بمنزلة المصلح. ومن الممكن أن نعتبر صلـح الحديبية تحكيماً بين طرفين اشترك فيـه غـير المسلمين إذ «يعتبر سهيل بن عمرو مندوباً في عقـد الهدنـة من قومـه ليحول بحسن نية دون شبوب نار الحرب»([18]).

*  *  *

 



(([1]   انتهاء القتال بدخول العدو في الإسلام د. محمد نعيم ياسين مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية الكويت العدد الثاني 1984.

(([2]   راجع نيل الأوطار ج 7 ص 198 أخرجه البخاري.

(([3]   أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود جامع الأصول ج 3 ص 212.

(([4]   صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص 98 ط دار التراث العربي بيروت.

(([5]   نيل الأوطار ج 7 ص 198.

(([6]   انتهاء القتال بدخول العدو في الإسلام د. ياسين ص 227 ـ 228.

(([7]   راجع تفسير الرازي ج 4 ص 378.

(([8]   سنن أبي داود 3 / 113.

(([9]   أحكام القرآن ابن العربي ج 2 ص 865.

(([10]   آثار الحرب ص 656 والمراجع التي يرجعك إليها.

(([11]   المرجع السابق ص 656 ـ 657.

(([12]   الفروق للقرافي 3 / 10 مغني المحتاج ج 4 ص 242.

(([13]   راجع مدخل إلى القانون الدولي د. شكري ص 579.

(([14]   الفقه الإسلامي مقرر الشريعة في جامعة دمشق د. وهبة الزحيلي ص 323.

(([15]   آثار الحرب في الفقه الإسلامي: ص 741.

(([16]   المرجع السابق: ص 742.

(([17]   آثرا الحرب 759 عن التاريخ السياسي للدولة العربية د. عبد المنعم ماجد ج 2 ص 48.

(([18]   راجع آثار الحرب في الفقه الإسلامي: ص 767.

الموضوعات