جاري التحميل

أهداف الحرب

الموضوعات

أهداف الحرب

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقال :

 إن الحديث عن أهداف الحـرب يلزمـنا الرجـوع إلى الأسباب المثيرة لها، والخوض في أسبابها يعرفنا أن أسبابها كثيرة ومتعددة ومتجددة ومعقدة، لا يمكن فهمهـا ومعرفتها إلا بالرجوع إلى مظاهـر الحيـاة الإنسانيـة التي تفسر لنا دوافع القتال بين البشر، فعلم الاجتماع قد يفسر لنا طبيعة التجمعات الإنسانية وتطورها، وما يكتنف تلك التجمعات من عوامل التنافس الاقتصادي والسياسي... وعلم التاريـخ يسجـل لنـا مراحـل تطور الدول والنشأة المسلحـة التي عملت عليها. ومدى تأثير ذلك في المجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية. يقول توينبي: «إن دراسة مقارنة لانهيارات الحضارة المعروفة تبين: أن الانهيار الاجتماعي مأساة، مفتاح عقدتها مؤسسة الحرب، ولعل الحرب هي حقاً في آخر تحليل بنت الحضارةما دامت إمكانية خوض غمار الحرب تفترض حداً أدنى من التقنية والتنظيم، كما تفترض فائضاً من الثروة على ما هو ضروري كل الضرورة للحرب»([1]).

 إن الفترات الطويلـة التي عاشهـا بنو البشر قامت على صراع دامٍ استنفذ قدرات الأجيال و«تبين أنه خـلال 185 جيلاً من الأجيال لم ينعم بسلام مؤقت إلا عشـرة أجيال فقـط»([2]). لقـد فتنت الحـرب شعوباً وأقواماً حيث إنهم كانوا يرون فيهـا المآثـر التـي تتفاخـر بهـا الأمـم، والفضيلة التي يقدمها الآباء للأبناء والأحفاد، وعلى الرغم من مرور فترات لم تخل من أنبياء مصلحين بقيت الحرب تزين للناس الأمجاد إلى أن ذاقوا ويلاتها. وقدمت حوادث التاريخ العبر من المآسي التي حلت بالبشرية لما أحدثت، فانطلقت الحناجر بهتاف يهيب ببني الإنسان إلى أنسنتها والترفع فوقها إذا لم يكن لها حاجة. «إن مؤسسة الحرب التي عودنا التاريخ عليها قد نشأت ذات يوم وكانت شابة، أما اليوم فقد أصبحت عجوزاً. لكنه كما يلوح لنا حب الفتـاة رائعاً وحـب العجوز كريهاً، كذلك بالنسبة إلى الحرب»([3]). ويقول الشاعر العربي:

الحرب أول ما تكون فتية

تسعى بزينتها لكل جهول

شمطاء ينكر لونها وتغيرت

مكروهة للشم والتقبيل

والنبي صلى الله عليه وسلم لا يطلب منـا أن نتمنى لقـاء العدو، والقرآن يبين أنها مكروهة للنفوس إلا إن كانت آخر الدواء إذا استعصت علينا الحلول.

 وإذا كانت أسباب الحروب متنوعة ومتجددة، فكذلك ستكون الأهداف، لذلك سنقتصر على تعداد بعض الأهداف الرئيسية التي تهدف الحرب الوصول إليها:

 1 ـ فرض وجهة النظر على الخصم:

 الحـرب ظاهـرة من مظاهـر التدافع والصراع، فإذا تصورناها صراعاً بين خصمين متقابلين، نعلم أن الهدف المباشر لكل واحد أن يصرع الآخر مهما استخدم من وسائل عنف يستطيع بهـا أن يكسر شوكة الآخر «فالحرب إذن وبهذا الشكل عمل من أعمال العنف يستهدف إكراه الخصم على تنفيذ إرادتنا»([4]). إذن تهدف الحرب أول ما تهدف إلى فرض إرادة المنتصر على المنهـزم مهما بلغـت شدة القوة التي يستخدمها في سبيل فرض إرادته.

 ولـو رجعـنا إلى القانون الدولي ونظرنا في تعريفه للحرب لوجدناه ينص على ذلك صراحة فهي: «الحالة القانونية التي ينظمها القانون الدولي والناجمة عن اصطراع مسلح بين الدول بقصد فرض إحداها أو مجموعة منها لوجه نظرها بالقوة على الدولة أو الدول الأخرى»([5]).

 وفي تعريف آخـر تعرف بـه الحـرب: «بأنها صراع بين دولتين أو أكثر من خلال قواتها المسلحة بالدرجة الأولى بغرض إنهـاء الطرف الآخر أو فرض إرادة المنتصر عليه»([6]).

 فالعنـف وسيلـة يستخدمهـا المحارب في فرض إرادته على الخصم مهما بلغت الشـدة المستخدمة فيه، ولا بد للمحارب ألا يدع فرصة للخصم يفكر بها «ففي قضية كقضية الحرب، تعتبر الأخطاء الناتجة عن طيبة النفس أسوأ الخطأ»([7]). فالتخطيط العسكـري يستلـزم استخـدام العـنف في سبيل تحقيق الهدف المنشود بذكاء لا رحمة فيه، ولا يتراجع أمام هدر الدم حتى يتغلب على الخصم، بهذا الشكل يملـي على الخصم قانونـه الخاص، حتـى أن كلاً منهما يدفع الآخر إلى حدود من العنف لا يستطيع أن يرسم نهايتها إلا الوزن المعاكس لدى الخصم، فإهمال عامل الشراسة في الحرب تبذير للقوة إن لم نقل خطأ كبير([8]).

 كانت هذه النظـرة عامـل هـدم عبـر التاريخ، فكم من الأسماء العسكرية التي خلدت كانت سبباً في طمـر حضارات مشعة قدمت للإنسانية الخير الكثير، وكم من الحروب الداميـة التي راح ضحيتها الأبرياء وردمت بين أنقاضها علماء عظام ومفكرين لو أمكنهم أن يقدموا علمهم للبشرية لتقدمت إلى الأمام في رقي حضاري كبير، ولوصلت إلى أفضل مما وصلت إليه الآن. أرأيت كيف كانت نتائج الحرب الهمجية للتتار والمغول، ومن قبلهم الصليبيين على العالم الإسلامي مدمرة ولا إنسانية، وهمجية مقابل مدنية.

 إن الغرور العسكري في تحقيق الأمجاد فتن القادة العسكريين عبر التاريخإلا من رحم ربك، وإليك هذا المثال: «أخذ هتلر على قادته العسكريين أن يفهموا شيئاً واحداً بوضوح جلي: وهو أنه ليست هناك قيود يجب عليهم التقيد بها في روسيا، وكان قد جمع في مطلع شهر آذار 1941 جميع قادة القوات المسلحة الثلاث، في مؤتمر حضره كبار قادة الميدان، وخطط لهم القانون الذي فرض عليهم اتباعه، وقد دون (هولدر) ما قاله بالحرف الواحد: (ستكون الحرب في روسيا من الطراز الذي لا تتبع فيه أصول الشهامـة والفروسية، وهـذا الصـراع صورة للخلافات العقائدية والفطرية، ومن الواجب أن يسـير في قسـوة لا هوادة فيهـا ولا رحمـة ولا تردد ولا مثيـل لهـا، وعلى جميـع الضبـاط أن يتحـرروا من العقائد المنسوخة الباطلة، وإني لأفهم أن ضرورة مثل هذه الوسائل لشن الحرب تتعدى فهم قادتهم العاملين تحت أمرتكم، ولكني أجد إصرارا كلياً على إطاعة أوامري دون عصيان أو مخالفة، يجب تصفيـة قوميساريـة العقيـدة الشيوعية تصفية تامة، وسأعفو عن جميع الجنود الألمـان الذين يتهمون بمخالفة القانون الدولي، فروسيا لم تنضم إلى اتفاقية لاهاي وليس من حقها أن تطالب باحترام هذا القانون»)([9]).

 2 ـ السيطرة والتوسع:

 إذا لم يكن مـن العقـل والأخلاق ما يضبط الحرب فإن صاحب القوة لن يقف عند حـد بل سيسير وهـو يضع جانباً كـل ما يطلب منه مراعاته في احترام الإنسانية، وكل ما يتمناه من هذه الحرب هو ردع كل من يقف في طريق توسعه بالعنـف والإرهـاب، ولا نريد أن نضرب في أعماق التاريخ بحثاً عن الأمثلة على ذلك، بل يكفينا أن نستذكر الأمس القريب في الحرب العالمية الثانية، ونرى كيف فعلت رغبة التوسـع في تحطيـم خصمـه تشكل (غيرنيكا)، التي محتها الطائرات الألمانية عن الخريطة إبان الحرب الأهلية الأسبانية، ودرسد التي حولتها المدمراتالأمريكيـة إلى رمـاد انتصاراً للإستراتيجيـة العسكريـة النفسـية، ولا تدخل أي جديد في الناحية العملياتية للتدمـير الذري في المدينتين اليابانيتين الكبيرتين. لقد توصلت بعض موجات القصـف الكلاسيكي إلى عـدد مشابـه من الضحايا في أمكنة أخرى([10]).

 القوة إذا امتلكت تدفـع إلى الغطرسـة والاعتداد بالرأي، ويحب صاحبها أن يفرض رأيـه وسلطتـه في كـل مكان مما يجعل محاولات السلام تذهب أدراج الرياح: «دعت روسيا عام 1899م إلى مؤتمر عالمي للحد من سباق التسلح المتفاقم، وقـد عقـد مؤتمر (الهاغ) للحد من التسلـح البحري ووقف فيه المندوب الروسي يطالب بتمدين الحـرب وتحديد التسلح، وقد أجاب المندوب البريطاني الأميرال جون فيشر بقوله: «من المحال أن تمدن الحرب إلا إذا أمكن مراعاة إنسانية الإنسان عند إلقائه في جهنم، إن فكرة الحرب فكرة وحشية، لكن عندما تظهر قدرة خوضهافإنه لا بد من خوض غمارها بقسوة وشجاعة ودون رحمة، وإن معرفة طبيعة الحرب على هذه الصـورة هـي بحـد ذاتهـا عامـل ردع لوقف العدوان... إني أعمل من أجل السـلام وإن سيـادة البحرية البريطانية أفضل ضمان للسلام العالمي، وفشل المؤتمر...»([11]) فالسلام في نظر (فيشر) هو في السيطرة البريطانيـة وسيطـرة التـاج البريطاني على العالم الذي لا تغيب شمسـه، فلو كان في هذا العصر بعد أن أفلت شمس التاج، من المؤكد ستراه يغير منطقـه ويلبس جلد الضأن من اللين، ويعتبر الكلام السابق ضرباً من جنون العظمة والتوسع غير الشرعي.

 سياسـة التوسـع لا تقف إلا عندمـا تواجـه بعنف مثلـه من الخصم، وقد يكون هذا الرد وحشياً وأشد ضراوة، وقد يصيب أناساً أبرياء يضربون بقوة ضربة مميتة ينخلع لها قلب الخصم، وهذا ما حدث تماماً في قصف هيروشيما وناغازاكي: «لقد ثبت بالواقـع أن القنبلتين اللتين أسقطهما ترومان رئيس الولايات المتحدة، آنذاك على تلـك التجمعات المدنية اليابانية الكثيفة، كان لها أساساً هدف سياسي هو التأثير على الاتحاد السوفيتي لمنعه من ابتلاع أوروبا الشرقية أكثر من الحصول على استسلام اليابان التي كانت قد أصبحت راكعة»([12]).

 والسياسة التوسعية التي ينتهجها الكيان الصهيوني في فلسطين دليل على ذلك، وقد جاهر بذلك مراراً ضارباً بقرارات الأمم المتحـدة عرض الحائط، فقد رفضت إسرائيل الانضمام إلى الاتفاقيات التي قامت تحت إشراف أمريكا والاتحاد السوفيتي، للحد من التسلـح وذلـك قبـل اتفاقية هلسنكي بتاريخ 25 / أيار / 1972 التي عقدت بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا لتحديد الأسلحة الإستراتيجية الهجومية ومدتها خمس سنوات كمرحلة انتقالية([13]).

 3 ـ إيجاد سوق لتصريف السلاح:

 إن الدول الصناعيـة الكبرى أصبحت تعتمـد اعتماداً كبيراً على ما تصدره من أسلحـة، فإذا قامـت حـرب بين فريقين فتحت تلك الدول صدرها لمن يريد شراء السلاح منها فهي تحقق بذلك هدفين.

 1 ـ تهيئـة سوق تجاريـة لتصريف السلاح وهذا بدوره يؤمن مورداً مادياً يدعم اقتصاد تلك الدولة.

 2 ـ تتعرف الدولة المصدرة على أرض الواقع العملي مدى تفوق سلاحها فتقوم بتطويره وتفادي ما كان فيه من عيوب ليصبح سلاحاً رادعاً للدول المناوئة لها في المستقبل.

 من هنا نجد أن نسبة مبيعات السلاح ضخمة، حيث «يؤخذ من الإحصاءات أن أمريكا تعتبر أكبر مصدر للأسلحة، فقد بلغت مبيعاتها (8) مليارات دولار في العـام، تليهـا روسيا التي صدرت أسلحـة منـذ عـام 1950 بما تزيد قيمته على 40 مليار دولار، وتأتي فرنسا بالدرجة الثالثة إذ أنها باعت عام ألف 1974 أسلحة بقيمـة 4 مليارات دولار. ثم تليهـا بريطانيـا التي تشكو من المنافسة الفرنسية... بل إن بعض هذه الـدول أخـذت ببيع مفاعلات ذرية نووية، ويشترط استعمالها لغايات سلمية... ولكن من يضمن لك حقاً»([14]). والتعاقد على صفقات الأسلحة يتضخم ويزداد عاماً بعد عام.

 هـذا الهـدف سيجعـل الدول الكبرى والصناعية عموماً تفكر في أن منع الحرب ضرب من العبث، يعرضها لأزمات اقتصادية ومشاكل مستقبلية، لم تكن بالحسبان، فهي سبيل الحفاظ على التوازن تقدم إعانات مادية لبعض الدول، كي تصرف وجهها إلى التسلح والتكديس العسكري دون أن تعمل على تطوير شعبها فكرياً واقتصادياً، والعالم الثالث مهيّأ لإنبات مثل هذه البذور، فمعظم القادة فيه عسكريون لا ذراع لهم ولا باع في الفكر والاقتصاد.

 4 ـ الدفاع عن كيان الأمة:

 تضطر الدول لتجهيز قواتها وتهيئة شعبها وتعبئة النفوس، من أجل الدفاع عن الوطن والوقوف بوجه الأخطار المتوقعة، من غاز يعتدي على البلاد على حين غرة، فتردعه وتؤمن سلامة البلاد، فإذا قامت دولة ما من الدول بهذا العمل فهو مشروع ترحب به جميع المبادئ الإنسانية وتدعمه الشرائع والقوانين.

 هذا وقد أجـاز القانون الدولي ذلك في منح الدولة الحقوق الأساسية حق البقاء وحق الحرية وحق المساواة. فحق البقاء يقسم إلى قسمين:

 1 ـ حق الدفاع المشروع: فللدولة حق الدفاع عن نفسها إذا اعتدي عليها لرد العـدوان ودفع الظلـم والتسلـط على أرضهـا، وتشترط هيئـة الأمم المتحدة لاستعمال الدولة لهذا الحق أن يكون الاعتداء حالاً والخطر واقعاً أو وشيك الوقوع «بل وتشترط المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة وقوع الاعتداء فعلاً عندما تعلم الدولة المعتدى عليها مجلس الأمن بالتدابير التي اتخذتها لهذه الغاية»([15]).

 2 ـ حق منـع التوسع العدواني: الذي ألزم وجود هذه القاعدة: ما صدر من مبـدأ المجـال الحيوي أو نظرية الضرورة التي ابتدعها الفقه الألماني ومؤداها: أن للدولة إلى جانب حقها في الدفاع ـ حق آخر يبيح لها الاعتداء على دولة أخرى،ولو كانت بريئة باسم الضرورة بغية الحفاظ على مصالحها وكيانها، لذلك أجاز القانون الدولي لها أن تقف في وجه مثـل هذا التوسع ونص على: «أن للدولـة أن تتدخل بكافة الوسائل لمنع دولة ما من الاتساع بشكل يهدد سلامة الدول الأخرى ولو كان هذا الاتساع يشكل مجالاً حيوياً لشعب هذه الدولة»([16]).

 ونظرية الضرورة تكـأة لليهود في فلسطين، لتبرير عملهـم التوسعـي على حساب الدول العربية المجاورة للحفاظ على كيانهم الباغي، وبهذا يلتقي الإرهاب الصهيوني مع الإرهاب النازي في تبني النظريات نفسها لتبرير الأعمال الإجرامية والتوسعية التي يقوم بها.

 ومن ثـم للدولـة أن تصان حريتها على الصعيد الداخلي والخارجي، وأن تتمتع بكامل المساواة مع أعضاء هيئة الأمم المتحدة، فالحرب التي تحفظ للدولة هذه الحقوق عمل تخسر فيه الدول الضعيفة الشيء الكثير في هذا الزمان التي غشمت فيه الدول العظمى.

 فليس للضعيف أن يتكلم في هذا الجو المشحون بسمائم الحروب.

*  *  *

 



(([1]   الحرب والحضارة ص 7.

(([2]   مدخل إلى القانون الدولي العام ص 495.

(([3]   الحرب والحضارة ص 34.

(([4]   الوجيز في الحرب. الجنرال كارل فون كلاوز فيتز ـ ترجمة أكرم ديري الهيثم الأيوبي ص 74 ط دمشق 1973.

(([5]   مدخل إلى القانون الدولي شكري ص 497.

(([6]   المرجع السابق ص 497.

(([7]   الوجيز في الحرب ص 75.

(([8]   مرجع سابق.

(([9]   الإجرام الدولي ص 93.

(([10]   أيديولوجيا الحرب والسلم ص 13.

(([11]   الإجرام الدولي ص 56.

(([12]   أيديولوجيا الحرب والسلم ص 13.

(([13]   الإجرام الدولي ص 57.

(([14]   الإجرام الدولي ص 57.

(([15]   مدخل إلى القانون الدولي العام ـ شكري ص 147.

(([16]   المرجع السابق.

الموضوعات