جاري التحميل

تقرير مصير الأسرى

الموضوعات

تقرير مصير الأسرى

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقال :

 يعتبر أسيراً في القانون الدولي: كـل شخـص يقـع في قبضـة العدو لسبب عسكري لا لسبب جريمة ارتكبها. وقد عرفت المادة (4) من اتفاقية جنيف لسنة 1949 آنفة الذكر أسـرى الحـرب كـما يلي: أسـرى الحرب بالمعنى المقصود بهذه الاتفاقية: هم الأفراد الذين يتبعون الفئات التالية ويقعون في أيدي العدو، أفراد القوات المسلحة التابعون لأحد أطراف النزاع، وكذلك أفراد الميليشيا أو الوحدات المتطوعة، التي تعتبر جزءاً من هذه القوات المسلحة... الأشخاص الذين يرافقون القـوات المسلحـة، وسكـان الأراضي غير المحتلـة إذا حملوا السلاح([1]). أما غير المقاتلين فـ «يمنع عليهم ممارسـة الأعمال الحربيـة. وبالتالي على العدو احترامهم وليس له إلا توقيع العقوبات الجنائية عليهم إذا ارتكبوا أعمال الحرب»([2]).

 إذن نجـد أن القانون الدولي يميز بين المقاتلين وغير المقاتلين فالمقاتلون: «هم وحدهم الذين لهم نتيجة ذلك الحق في المعاملة كأسرى حرب في حالة أسرهم مـن جانب العـدو»([3]). أما غير المقاتلين فليس عليهـم ممارسة الأعمال القتالية، وبالتالي على العدو احترامهم وعدم تطبيق العقوبات الجنائية المختصة بالحرب.

 وفي الفقـه الإسلامي نجـد تقسيماً شبيهاً لتقسيـم القانون، إلا أنه يعرف الأسرى بأنهـم: هم الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بهم أحياء([4]). والسبـي: وهـم النساء والأطفـال والعجـزة: كالشيوخ الفانين والزمنى والعمي والمقعدين، وفي حكمهم الرهبان وأهل الصوامع([5]).

*  *  *

المبحث الأول
السبي

 يعرف حكم السبي من خلال بحث الأحوال التي قد يتعرضون لها وهي القتل والاسترقاق، والمن، والفداء.

أ ـ القتل:

 لا يجوز قتل النساء والذراري أي الأولاد بعد الأسر، باتفاق العلماء سواء أكانـوا من أهـل الكتاب، أو من قـوم ليس لهـم كتاب كالدهرية وعبدة الأوثان، لوصيـة أبي بكـر رضي الله عنه ليزيـد بن أبي سفـيان([6]). وعمـرو بن العاص([7]). وشرحبيـل بن حسنـة([8]). لما بعثهـم إلى الشـام «لا تقتلـوا الولـدان ولا النسـاء ولا الشيوخ، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم على الصوامع فدعوهم وما حبسوا له أنفسهم»([9]).

 هـذا إذا لم يشتركـوا في قتال فإن اشـتراك النسـاء والأولاد في القتـال مع قومهم «بالفعل أو بالرأي جاز قتلهم في أثناء القتال، وبعد الأسر عند جمهور الأئمة لوجود العلة في قتـل الأعـداء: وهي المقاتلة، وخالف الحنفية في حالة القتل بعد الأسر فلم يجيزوا قتل المرأة والصبي والمعتوه الذي لا يعقل لأن القتل بعد الأسر بطريق العقوبة، وهم ليسوا من أهـل العقوبـة، فأما القتـل حال نشوب المعركة فلدفع شر القتال، وقد وجد الشر منهم فأبيح قتلهم فيه لدفع الشر وقد انعدم»([10]). أي بأسرهم.

 تلتقي النظـرة الفقهية مع اتفاقية لاهاي لعام 1907 بهذا الأمر واعتبرت«بأنه عندما يهب شعب إقليم غير محتل للدفاع الوطني ضد الغزاة، دون أن يكون لديه وقت لتنظيم نفسـه فإنـه يعتبر مـع ذلك كالمحاربين، إذا كان يحمل السلاح علناً ويحترم القواعد القانونية للحرب».

 بما أن الإسلام حريص على الأنفس، وصيانة الأرواح، والغاية من جهاده دفع الظلم ونشر العدل، فإني أجـد الأحناف، قـد قدموا تعليلاً شافياً وحذقاً في المسألة ـ بعدم قتل الصبي ـ يتناسب وروح الإسلام السمحة.

ب ـ الرق والمن الفداء:

 فإذا لم يقتـل السبي بعـد الأسـر كـان الإمام بالخيار: إن شاء استرقاقهم استرقهم وإن شاء أن يمن عليهـم دون مقابـل كـان له ذلك أو مفاداتهم بأسرى مسلمين جاز له ذلك، يتصرف الإمام وفق ما تقتضيه السياسـة الشرعية([11]). ولنا وقفة إن شاء الله في بحث الرق بعد قليل ـ لأن الأعداء أثاروا شبهات حوله، مندفعين من حقد على الإسلام وكـره لتشريعاتـه، فأولوا وسوغوا ما شاؤوا من التأويلات والتسويغات، التي تروق لهـم على الرغـم من أنـه لم يَعْدُ كونه معاملة بالمثل جرت عليه الأعراف الدولية في ذلك الزمان، الذي لم يعرف سماحة كسماحة الإسلام. إلى وقتنا الحاضر.

*  *  *

المبحث الثاني
حكم الأسرى

 الثابت في فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمن على بعض الأسرى، ويقتل بعضهم ويفادي بعضهم بالمال أو بالأسرى، وذلك على حسب ما تقتضيه المصلحة العامة ويراه ملائماً لحـال المسلمين، واتفقت كلمـة الفقهـاء على أن لولي الأمر أن يفعل بالأسرى ما يراه مناسباً لمصلحة المسلمين([12]). من الطرق الآتية:

 أولاً ـ القتل:

 استدل الفقهاء على جواز قتل الأسير بما يلي:

 1 ـ عموم آية السيف: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[التوبة: 5] أي اقتلـوا المشركـين الذين يحاربونكـم([13]). وأن هـذه الآيـة نسخت آيـة المن وهـي في سـورة محمـد المكية([14]).

 2 ـ آثار من السنة: فقد تواترت الأخبار من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الأسير، فقـد قتـل عقبة بن أبي معيط([15]). والنضـر بن الحارث([16]). اللذين قتلا بعد الأسر يوم بدر، وقتل النبي صلى الله عليه وسلم بأحد أبا عزة([17]) الشاعر بعد أسره، وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ([18]). وقتل ابن أبي الحقيق، ولما فتح مكة أمر بقتل هلال بـن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن أبي سرح، فقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة([19]).

 3 ـ المعقول إن في قتل بعض الأسرى حسماً لمادة الفساد واستئصالاً لجذور الشر وشرايين الفتنة، التي تستـمر لولا التخلص منهم بالقتل الذي تلجج إليه الضرورة، فكان في القتل مصلحة([20]).

 ـ مناقشة هذه الأدلة:

 عماد الحوار في الاستدلال على جواز قتل الأسرى قول الفقهاء: إن آية المن منسوخة بآية السيف، التي كانت متأخرة في النزول عنها «التحقيق الصحيح عند العلماء أن آية: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّـهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾[محمد: 4] محكمة في الأمـر بالقتـال عنـد الاعتداء»([21]). وقال الشوكاني: «وقال كثير من العلماء إن الآيـة محكمة، والإمام مخير بين القتل والأسر، وبعد الأسر مخير بين المن والفداء، وبه قـال مالـك والشافعـي والثـوري والأوزاعي وأبو عبيد وغيرهم، وهذا هو الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك»([22]). ويرد الزرقاني على المتزيدين بالنسـخ فيقول: «قد عرفت أن المتزيدين أكثـروا القـول بالآيـات المنسوخـة غلطاً منهـم واشتباهاً، ونزيـدك هنا أن بعـض فطاحل العلماء، تعقب هؤلاء المتزيديين بالنقد، كالقاضي أبي بكر بن العربي، وكجلال الدين السيوطي، الذي حصر مـا يصلـح لدعوى النسخ من آيات القرآن الكريم باثنين وعشرين آية»([23]). ثـم أحـصى تلـك الآيات ولم يذكر آيـة ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّـهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ المذكورة آنفاً من بينهـا، فالآية تخير بين: أن يقتل في معركة قبل الأسر، فإذا أسر فإما يمنُّ عليه أو يفدى بمقتضى مصلحة المسلمين([24]).

 أما بالنسبـة للاستدلال الثاني، لقتـل بعض الأسـرى، فمـا هي إلا مجرد حوادث فرديـة لظروف معينـة، والذين قتلـوا كانوا يستحقون القتل على حسب ما تقتضيه القوانين، فالجديـر بهـم أن يعاملوا معاملة مجرمي الحرب، وأن يعاقبوا على ما قدموا من أياد سـوداء في تعذيب الأبريـاء، وقتلهم وسلب أموالهم، فهي أشبه ما تكون بمحكمة عسكرية يعاقب فيها مجرموا الحرب، وهذا الحكم مستمر ما دام قد وجد موجبه.

 وأما استدلالهم بالمعقـول: فإنـه يرجـع إلا ما تعـرض إليـه المسلمون من خيانات، كما فعل أبو لؤلؤة المجوسـي من غدر بالفاروق عمر رضي الله عنه، أما الآن فقد أمن غدر الأسير لما وجد من قوانين وضوابط تحجم من حركته، ولا يترك طليقاً فليس هناك من تخوف.

ثانياً ـ إرقاق الأسرى:

 جاء الإسلام ووجد نظـام الرق قائماً، تبدو فيه بعض الإيجابيات وغلب عليه طابع القسوة والعنف، فتلمس الإسلام هذه الجوانب الإيجابية فأثبتها وألغى ما فيه من عنف وقسوة، فتطورت بذلك النظرة إلى الرقيق، فلم يعد ذلك الإنسان المحتقر، بل هو أخ يؤمر السيد بالإحسان إليه، وأن يلبسه مما يلبس ويطعمه مما يأكل، فأصبح الرقيق ينال مـن الرعايـة والتربية ما ينالـه أحد أفراد العائلة، كي يتربى تربية حسنة ويشق طريقة إلى الحياة بعد ذلك على هدى وبصيرة.

 وعلى الرغـم من ذلـك نجـد من يكيل الاتهامات إلى الإسلام في إقراره، ونحن بدورنا نتوجه إليه فنقول: إن كان عالماً فليتثبت، وإن كان جاهلاً فليتعلم، وإن كان حاقداً فلينصف الحقيقة، ويصرف وجهه عن هذا الخلط الوضيع، وقبل أن نبدأ الحديث عن الرق في الإسلام نعرض لـه تاريخياً ونبين موقف الأمم منه في العصور التي عايش بها الإسلام العالم منذ نزوله.

أ ـ الرق في العصور القديمة:

 كان نظـام الـرق سائداً في تلـك العصور، بين شعوب العالم من مصريين وفارسيين، وهنود، ويونان، وعرب، ورومان... فاليونان اعتبروا الجنس البشري مقسوماً إلى: حـر بالطبـع ورقيـق بالطبع، ومن حق الحر على العبد، أن يفعل له ما يريد. وكذلك كثر الرق عند الرومان فوجدت سوقاً تجارية ضخمة «حتى لقد كان من النخاسين من يشـري ألـف إنسان صفقـة واحدة، عقب نصر كبير تعده الإنسانية خزياً ويعده تاريخ الاستعمار عظمة ومجداً... والقانون الروماني لم يكن يعتبر الرقيق إنساناً له شخصية ذات حقوق على الإنسانية، بل كان يعتبر شيئاً من الأشياء كسائر السلـع التي يبـاح الإتجار بها»([25]). وقس هذا على سائر الأمم، لقد كثر الرقيق وكثرت مصادره حتى أصبح أضعافاً مضاعفة بالنسبة للأحرار.

 ب ـ الرق عند اليهود:

 أباح اليهود الرق بطريق السبي في الحرب والشراء إضافة إلى رق الوراثة. جاء في التوراة «حين تقـترب من مدينـة لكي تحاربهـا استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكـل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، أما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك»([26]).

 ج ـ الرق عند النصارى: 

أقرت المسيحيـة الـرق، وألقت مواعظها على الأرقاء كي يطيعوا سادتهم، ويتجـلى ذلـك في وصيـة الرسول (بولس) إلى أهل أوفسس: «أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخـوف ورعدة في بسـاطة قلوبكم كما المسيح، لا بخدمة العين كمـن يرضي الناس، بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله في القلب خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس»([27]).

 ويقول (بطرس) الرسـول في رسالتـه الأولى «أيهـا الخدم كونوا خاضعين بكل هيبة للسادة ليس للصالحين فقط بل للعنفاء أيضاً»([28]). وأوجب هذه الوصايا الآباء الكنسيون لأن الرق كفارة من ذنوب البشـر يؤديهـا العبيد لما استحقـه من غضـب السيـد الأعظـم، وأضـاف القديس الفيلسوف (توما الأكويني)([29]) رأي الفلسفة إلى رأي الرؤساء الدينين، فلم يعترض على الرق بل زكـاه بأنه على رأي أستاذه (أورسطـو) حالـة من الحـالات التي خلق عليها بعض الناس بالفطرة الطبيعية، وليس مما يناقض الإيمان أن يقنع الإنسان في الدنيا بأهون نصيب([30]).

 واستمرت هذه النظرة في القرون الوسطى، فقد ساد نظام الإقطاع في أوربا، فكان المزارعون عبيد الملاك، يباعون مع الأرض إذا بيعت الأرض، وليس لواحد منهم الحق في الخروج مـن أرض إلى أرض أخرى، لأنه كان كالآلة تابعاً للأرض مملوكاً لصاحبها. ولم يلغ الرق في أوربا إلا في القرن التاسع عشر، وكان في الحقيقة إلغـاء الاسترقاق في آسية منتشراً باسم الاستعمار، أما في أفريقية فكان استرقاقاً سافراً، وكانت أسواق النخاسين التي فتحها الأوربيون تتمتع برواج عظيم وتفيض بربـح وافـر على تجارهـا، وفي القرن السـادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر تحالف تجـار الرقيـق الأبيض مع بعض زعـماء القبائـل الأفريقيـة، وأخذوا يهجمون على مساكن الأفريقيين ويخطفون أطفالهم ويعرضونهم للبيع في أسواق العبيد»([31]).

 هكذا يعامل الإنسان في المدنية الأوربية بأبشع الوسائل الوحشية، ثم يفتخر بتلـك الأعمال لتأتي أيدي رجـال الدين، فتبـارك ذلك العمـل، وينجر الساسة خلف هذا الهراء الرخيص إلى درجة أن (الملكة إليزابت) كانت تشارك في الإتجار بالرقيق، وكانت شريكـة (جون هوكنز) أعظم نخاس في التاريخ، وقد رفعته إلى مرتبة النبلاء إعجاباً ببطولته، وجعلت شعاره رقيقاً يدخل في السلاسل والقيود، ومن المفارقات الطريفة أن السفينة التي أعدتها (لجون هوكنز) كانت تسمى (يسوع)، وكان عدد السفن المخصصة للإتجار بالرقيق 192 سفينة تتسع حمولتها في الرحلة الواحدة (47146) رقيقاً وقد طلبت إنجلترا من رجال الدين مبرراً لهذه التجارة، فأسعفوها بنصوص التوراة، التي تقدمت في الكلام عن الرق عند اليهود([32])، وقد كانت في تلك الرحلات تزهق مئات الأرواح دون تأنيب ضمير أو نزعة أخلاقية.

 د ـ الإسلام والرق:

 تبين لدينـا الوضـع الذي كـان عليـه الرقيق في العـالم، منذ مجيء الدعوة الإسلامية إلى وقت ليس ببعيد، فكيف كان نهج الإسلام مع الرقيق؟

 لقد جاء الإسلام ووجد أبواب الرق كثيرة وموارده متعددة، فعمل جاهداً على الحد منه بقـول العقـاد: «ونحن نحب أن نلخص ما صنعه الإسلام في هذه المسألة قبـل أربعة عشر قرناً في بضـع كلمات، إنه حرم الرق جميعاً ولم يبح منه إلا ما هو مباح إلى الآن، وفحوى ذلك أنه قد صنع خير ما طلب منه أن يصنع، وأن الأمم الإنسانيـة لم تأت بجديد في هذه المسألـة بعد الذي تقدم به الإسلام قبل ألف وثلاثمائة عام، فالذي أباحه الإسلام في الرق مباح اليوم في الأمم الحضارية، التي تعاهدت على منع الرقـيق منـذ القرن الثامن عشر إلى الآن، لأن هذه الأمم التي اتفقت على معاهدات الرق تبيح الأسر واستبقاء الأسرى إلى أن يتم الصلح بين المتحاربين على تبادل الأسرى أو التعويض عنهم بالفداء والغرامة»([33]).

لم أباح الإسلام بعض وجوه الرق؟

 لقد أباح الإسلام بعض أنواع الرق لأسباب منها:

 لم ينقطع سجـال الحروب بين الأمم منـذ عهد سحيق، وجرت فيه العادة أن يعامـل الأعداء بعضهم بعضاً بالمثل، والإسلام لم يجار الأعداء في ذلك إلا في بعض الأمـور ومنهـا الرق، الذي أضـاف إليـه أبواباً جديدة للعتق ليضيق مجاله كالمن والفداء، ولما كان أعداء الإسلام يستحلون استرقاق الأسرى، أجاز الإسلام استرقاقهم في الحـرب إذا أسـروا، وحتى العصـور الحديثة. «ماذا يحدث في هذا العصر لو لم يصبح تبادل الأسرى معاملة متفقاً عليها بين المقاتلين»([34]). هذا وقد جرت الأسس العلميـة التشريعية في الإسلام، أن يؤخذ الناس بالسهل، فالأشد ليكون الأمر سهلاً على النفوس، فلا تتثاقله فتبتعد عن تطبيقه. وفي العصر الذي جاء به الإسلام لم يكن من السهولـة بمكـان إلغاء الـرق، فهو نظام معهود تلقته الأمم بالقبول، فجاء الإسلام لينفّر منـه ويحسن المعاملـة للرقيـق، ويسد أبواب الرق كي يصل إلى إنهاء الرق بخطة حكيمة مأمونة الجانب، تحوي في داخلها بذور ثورة إنسانية لا دماء فيها ولا قتل ولا فقدان، فتطيب النفوس بذلك وتقنع «وهكذا قاومت الدعـوة الإسلامية المحمدية الرق مقاومة كانت بالتدرج، فكانت أفعل في تهيئة الضمير البشري للقضاء عليه من المفاجأة بالتحريم البات»([35]). و«الإسلام حارب الرق وضيق نطاقه وقصره على أسرى الحرب العادلة، ومع هذا فقد أوصى بهم خيراً وحـث على عتقهم...»([36]). وهكذا فإن «من خصائص تشريعه التدرج بالأحكام فإنه قد أقر مؤقتاً واقع الأمر ولم يحرم الرق دفعة واحدة»([37]).

 وأرسى الإسلام «مبدأين مهمين هما تضييق المدخل وتوسيع المخرج»([38]). وضيق موارده، بذا يكون الفضل للإسلام في تحصيل قصب السبق بين التشريعات في العالم للتخلص من الرق بطريق حكيم إذ أنه سد منابعه ووسع مصارفه.

أولاً ـ سد موارد الرق:

 ينظر الإسلام إلى الإنسان نظرة كلهـا تقدير واهتمام، ولا يتم ذلك إلا إذا تمتع هذا الإنسان بكامل حريته فهو «يقدر معنى الحرية ولذتها، ويعتبر الأصل في الإنسان هو الحرية، إلا أن من خصائص تشريعه التدرج في الأحكام، فإنه قد أقر مؤقتاً واقع الأمر ولم يمح الرق دفعة واحدة بل تدرج بالمسلمين فهيأ أسباباً للقضاء على الرق، وحـرم سائر مصادره ما عـدا رق الأسر، بسبب الحرب العادلة لدفع العدوان وحفظ التوازن مع الأمم الأخرى، وما عدا الرق بسبب الوراثة، والشرع لا يبيح أن يسترق مسلم أصلاً»([39]). لذلـك منـع عمـر بن الخطاب رضي الله عنه إرقاق العربي لأن العرب روح الإسلام وقال: (ليس على عربي ملك)([40]).

 ليس الـرق في الإسلام فرضاً محتماً، ولا واجباً ملزماً، بل يخضع للسياسة الشرعية لما في الآيـة الكريمـة من تخيير بين إرقـاق وفداء، فللإمام أن يمن على الأسرى تنفيذاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «عـودوا المريض وأطعمـوا الجائـع وفكوا العاني»([41]) وللإمام أن يبادل الأسرى بين المسلمين والأعداء «كما كان يحدث مثلاً بين المسلمين والروم على ضفتي نهر (اللاس) فكان التبادل يتم حتى إذا بقيت لأحد الجانبين بقية من الأسرى افتديت بالمال»([42]).

ثانياً ـ توسيع مخارج الرق:

 قلنا سابقاً إن الأصل في الإنسان الحرية، وذلك من المنطلق القرآني: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[الحجرات: 13] فهو يقرر بهذا النص الشريف: مبدأ العدالة والمساواة في الحقوق الإنسانية وليس لامرئ لا يملك حريته أن يقوم بتلك الوظيفة على أتم وجه، لذلك يأمر الإسلام بما يلي:

 1 ـ العتق: لقد حض القرآن الكريم عليه، ورتب على فعله جزيل الثواب قال تعالى: ﴿وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ﴿٩﴾ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴿١٠﴾ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴿١١﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴿١٢﴾ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾[البلد: 8 ـ 13].

 وجاء في الصحيحين قولـه عليـه السلام: «من أعتق رقبـة أعـتق الله بكل عضو منها عضواً من النار حتى أخرجه بفرجه»([43]).

 2 ـ جعل الإسـلام العتـق وسيلة لتكفير كثير من الذنوب، كالقتل الخطأ والحنث باليمين، ومخالفـة قسم الظهار، قال تعالى: في كفارة القتل الخطأ: ﴿ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّـهِ ۗ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾[النساء: 92] وقال سبحانه في كفارة اليمين: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّـهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[المائدة: 89] وقال سبحانـه في الظهار: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّاۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[المجادلة: 3].

 3 ـ المكاتبة: وهو عقـد بين السيـد والعبـد، على ما يقسطه له، فإذا دفعه صار حراً([44]). قـال تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّـهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّـهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[النور: 33]. وبعد المكاتبة يعطى العبد الحرية في أن يتاجر، ويعمل حتى يسدد أقساط المكاتبة.

 4 ـ خصص الإسلام قسمـا من مصـارف الزكـاة، وتوضع في الرقاب وتحرر، قـال تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمـُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّـهِ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾[التوبة: 60].

 5 ـ التدبير: وهو عتق العبد بعد موت سيده([45]) بعد أن يوصي له بذلك.

 6 ـ أم الولد: وهـي الأمة التي حملت من سيدها فيكون لها في الأحكام الشرعية، ألا تباع ولا توهب، وتعتق بموته ويكون ولده منها حراً.

7 ـ وهناك حالات أخرى، يفرض الإسلام فيها العتق، كعتق بعض العبد إن كان مشتركاً، وعتق العبد إن ملـك من قبـل أحـد والديه أو ولده أو أي رحم محرم منه.

 ـ معاملة الرقيق:

 لقد أحسن الإسلام معاملة الرقيق في المطعم والمسكن والملبس والتخاطب، روى أبـو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قـال: «لا يقولـن أحدكـم عبـدي وأمتي فكلكم عبيـد الله، وكلكـم إمـاء الله ولكن ليقـل غلامـي وجاريتـي وفتـاتي وفتاي»([46]). وقال صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريـل يوصيني بالمملـوك حتى ظننت أن النـاس لا تستعـبد ولا تستخدم» وفي رواية: «حتى ظننت أنه ينصرف له أجل يخرج فيه حراً»([47]). وكان هذا تحديد لأجَل الاسترقاق ينتهي فيه ويعود جميع الناس أحراراً.

 وروى أبو داود عن المعرور بن سويد، قال: دخلنا على أبي ذر بالربذة فإذا عليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حلتـه وكسوتـه نوعاً غيره، قـال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فـمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكـل وليكسه مما يكتسي ولا يكلفه ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه»([48]).

 يتصل الرق في الإسلام بالعمل الجسماني ولا يتصـل بالعقـل أو الفكر أو المعتقد، فللعبد أن يعتقد بما يشاء لا يكرهـه سيده لأن العبودية يتعلق حق السيد منها بعمل العبد فقط، هذا إضافة إلى احترام شخص العبد وعدم إهانته، والأمثلة على حسن معاملـة الأرقاء في الإسلام لا تنتهي، وحسبنا معرفـة أنها أفضل من معاملة الملونين في الدول الحضارية المتقدمة في العصر الحاضر.

 والخلاصة... إن استنكار الدول الأوروبية الإتجار في الرقيق، بصورة عامة في مؤتمـر فينـا سنة 1815 والاتفاقيات الكثيرة، التي وقعت بعدها التي كانت آخرها اتفاقية جنيف الإضافية في 7 / أيلول / 1956 وألغت الرق والتجارة به، لم يأتوا بالشيء الجديد، بل إن الـرق في الإسلام أفضل حالاً من وضع الملونين في الدول، التي وقعت هذه الاتفاقيات، وبهذا تكون الدول قد استبدلت نظام الرق بأنظمة جديدة مقنعـة، تستهين بالإنسان وكرامتـه، منها بعوث الاستعمار بشتى أشكاله العسكرية، والاقتصادية، والفكرية، ليرهق العالم بالسلاح والنار، والتفرقة العنصرية التي تحرم شعوباً وأمماً من حقوقها، وليس لها من ذنب سوى أنها تحمل جنسيـة أو بشـرة تختلف عن بشـرة وجنسيـة المتحكمين. والأمثلة في إسرائيل، وأمريكا، وجنوب إفريقيـا واضحة، فهي تطالعنـا في كل يوم بأخبار جديدة عن القتل والإبـادة وحجز للحريات، وامتهان للكرامة، وتجاوز لكل ما يحمل معنى إنسانياً، وهل هناك تصرف أعنف من ذاك التصـرف الذي يقرن الملونين السود مع الكلاب؟ فبالله أيهما أفضل وضع الرقيق في الإسلام أم وضع الملونين في الدول مدعية التقدمية.

ثالثاً ـ المن على الأسير:

 قال صاحب القاموس: منَّ عليه: أي أنعم واصطنع عنده صنيعة([49]).

يجيز جمهور الفقهاء المن على الأسير مطلقاً، قال الترمذي: «العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن للإمام أن يمنَّ على من شاء من الأسارى»([50]). ماعدا الأحـناف إذ جـاء في الهداية: «ولا يجوز المنَّ عليهم أي: (الأسرى) خلافاً للشافعـي رحمه الله بدليل: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[التوبة: 5] ولأنـه بالأسر والقسـر، ثبـت حق الاسترقاق فيه، فلا يجوز إسقاطه بغير منفعه وعوض»([51]).

 إن الذي حمل على هذا القول هو اعتبار آية المنَّ منسوخة، وقد تقدم الحديث عنها، إذ لا نسخ ولا تعارض، وأما ضياع حق الغانمين وتمكين الأسير من العودة لقتال المسلمين فلا حجة فيـه، إذ هـو قياس في مقابلة النص، وقد ثبت بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنـه قد منَّ على بعض الأسارى، كأبي عـزة الجمحي الشاعر، وأبي العاص بن الربيع، والمطلب بن حنطب يوم بدر، والزبير بن باطا من بني قريظة وأهـل خيبر، وروى أحمـد ومسلم وأبو داود والترمـذي عن أنس بن مالك أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سـلماً، فأعتقهم، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾([52]) [الفتح: 24].

 والمن عليه مظنة لدخولـه في الإسلام، وهو منتهى الغاية في الدعوة، وقد أسلم (ثمامة بن أثال) الحنفي بعد أن منَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم الهرمزان، لمّا منَّ عليه عمر بن الخطاب.

 وإذن المنّ جائـز في الشرع الإسلامي ولا غبار عليه، فهو يشبه ما جاء في القانون إذ إنـه «يجوز الإفراج عن الأسرى بعضهم، أو كلهم لقاء وعد، أو تعهد منهم على قدر ما تسمح به قوانين بلادهم، وعلى كل طرف نزاع أن يعلم الطرف الآخر عند نشوب القتـال بالقوانين والأنظمة، التي تسمح لرعاياه أو تمنعهم من قبول الحرية لقاء وعد منهم»([53]). وهذا ما فعله تماماً النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي عزة الشاعر، ولما لم يـف بوعـده قتلـه رسول الله صلى الله عليه وسلم جـزاءً وفاقاً، هـذا ما نصت عليه بعض القوانين كقانون العقوبات العسكريـة السوري في المادة / 54 / لم يجز للسوريين إذا وقعـوا في قبضـة العـدو، أن يستعيـدوا حريتهـم مقابـل تعهـدهم بعدم حمل السلاح، ونصت المادة ذاتها على عقوبة الإعدام بحـق الأسير من العدو إذا أفرج عنه مقابل العهد بعدم حمل السلاح ضد سورية، ثم حمل السلاح بعد لك ضدها ووقع في أسرها.

رابعاً ـ الفداء:

 وهو مـا يقـدم من مال ونحوه لتخليص الأسير([54]) ويكون فداء الأسرى بإحدى طريقتين: إما مبادلة أسـرى بأسرى، أو دفع عوض مقابل إطلاق سراح الأسير، وهذا جائز بنص الآية الكريمة: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّـهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾[محمد: 4] «وأول حادثة فداء كانت إثر سرية عبد الله بن جحش، فقد قبل الرسول عليه السلام الفداء في الأسيرين، الذين أسـرا في هـذه السرية قبل غزوة بدر بشهرين»([55]).

 وبعد موقعة بدر كان: «فداء الأسرى أربعة آلاف درهم إلى ما دون ذلك، فمن لم يكن له شيء أمر أن يعلم صبيان الأنصار الكتابة»([56]).

 وهذه الطريقة في تبادل الأسرى بالجنود المأسورين أو بالعوض في الشريعة الإسلامية يشبـه ما يسمـى في القانون الدولي بالكارتل، إذ «يحصل اتفاق خاص بين المتحاربين... وينص على شروط التبادل هذا، ولا يجوز للأسرى المفرج عنهم عن طريق التبادل المتكافئ بقدر الإمكان أن يعودوا إلى القتال حتى نهاية الحرب التي أسروا أثنائها، ما لم يتفق الطرفان المتحاربان على خلاف ذلك»([57]).

*  *  *

 



(([1]   الحرب في القانون الدولي العام ـ العميد بشير مراد ص 140 ـ 141.

(([2]   الحرب في القانون الدولي العام د. عزيز شكري ص 522.

(([3]   المرجع السابق ص 522.

(([4]   آثار الحرب في الفقه الإسلامي: ص 417.

(([5]   آثار الحرب في الفقه الإسلامي: ص 417.

(([6]   يزيد بن أبي سفيان: هو يزيـد بن صخر (أبي سفيان) بن حرب الأموي أبو خالد، أمير، صحابي من رجالات بني أمية شجاعة وحزماً، أسلم يوم الفتح هو وأخو معاوية الخليفة توفي في دمشق بالطاعون وهو على الولاية سنة 18ﻫ.

(

الموضوعات