دور التربية في العدوانية

كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس –بيروت – سنة (1439هـ - 2018م)

فقال :

 يترعرع الإنسان في أحضـان الأهلين، فمنذ أن يخرج طفلاً إلى الحياة لحظة المخاض، يستقبل العالم الجديد بصراخـه معلناً القدوم، فتتلقاه الأحضان، وتبدأالتربية في مجتمع له ثقافته وعقائده وتقاليده، فيرث منه الكثير الكثير، ولعله يعيش في دفء الوالدين وحبهما، ويوجهانه بعد ذلك بحب وحنان، فيقتبس من أخلاقهما، وينطلق معاملاً الناس كما عاملـه والـداه. وإن كانت الصورة عكسية انقلب هذا الطفل إلى شر على والديه، والمجتمع معاً.

 تؤكد أكثر الدراسات التربوية التي تبحث في أسباب العدوان، أن للعدوان منشأ تربوياً اجتماعياً، من بينهـا: الدراسة التي قدمتها (مرغريت ميد) فقد قامت بدراسة لقبيلتين بدائيتين هما (الأرابش) و(المندنغمور) فتقول: «لا شك أن الأطفالفي كل مجتمع بدائي متجانس، يبـدون ـ عندما يصبحون راشدين ـ سمات ذويهم الطبائعية عينها، ولكن ذلك ليس مجرد محاكاة، فهناك علاقة أكثر وضوحاً ودقة بين طبع الراشد والطريقة، التي بها أرضع يوم كان طفلاً وأضجع وضبط ودلل ونال عقاباً أو تشجيعاً. من هذا أن الطفل الأرابش في أشهره الأولى لا يعدم قط أذرعاً تحمله، وإن كان ذا مزاج عصبي مضطرب فإنه يشد بحمالة الصدر ليكون الثدي سريعاً على مقربة من فمه. وأن يبكي طفل فتلك مأساة يجب تفاديها أياً كـان الثمـن، هـو ذا إذاً طفل يعطى الثدي فور بكائه، ولا يترك لحظة بعيداً عن امـرأة تستطيع تقديم الثدي له عند الضرورة، وينام عادة ملتصقا بجسد أمه، إما محمولاً على ظهرها في كيس ضيق من الشبك، وإما ملتفاً على ذراعها أو في أحضانها، وهي تطبـخ أو تذري الحـب. إنه دومـاً مغمور بجـو دافئ آمـن فليس ثمـة ما يدهش إن كان الأرابش، يوم يصبحون راشدين خالين من العدوانية، ويبدون ذوي وداعة ورقة»([1]).

 أما المندنغمور فيمثلـون الصورة المعاكسـة للأرابش، فهـم لا يجـدون أما حنونة ولا أبا عطوفاً، ويعدمون المعاملة الحسنة، ويتلقون معاملة سيئة وتصرفات عنيفة، لذلك كانت نسبة العدوانيين في مندنغمور كبيرة، ومع هذا فهم شريرون وقساة الطباع أجـلاف. يتضـح مما سبـق أن التربيـة تشكل عاملاً حاسماً في حياة الإنسان لتوجيهها إلى الخير والرفـق أو إلى الشـر والعنف، وهذا متيسر لو تهيأت مدارس تولي التربية رعاية خاصة، إذن لسمت بالأخلاق ولحدّت من شرور الناس إذا تمت التربية في بيئة صالحة.

*  *  *