طبيعة العنف العنف فطري... أم مكتسب
طبيعة العنف العنف فطري... أم مكتسب
كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس –بيروت – سنة (1439هـ - 2018م)
فقال :
يراود هـذا السؤال الكثير من النـاس، لمعرفـة حقيقـة ما يقع في العالم من أحداث مؤلمـة، وجرائـم مروعـة يضيق بها الحصر، ليتبين أمن الممكن أن توضع قواعـد علميـة، أو ضوابط أخلاقيـة للحيلولـة دون وقـوع مثل تلك الأحداث المحزنة؟ أم أن الأمر ملازم للإنسان منذ تكوينه الأول؟ منذ كان جنيناً في بطن أمه، ثم خـرج إلى هـذه الحياة يحمل تلك الصفة، التي لا تنفك عنه، فليس له أن يحيد عنها أو يبـدل منهـا، وهـل بالإمكان والحال ما تقدم تحميل المجرم جريمته التي اقترفها؟
استهوت بعض الفلاسفـة تلك النظرة الجبرية من أمثال شوبنهاور([1]) وكانت([2]) وسبينوزا([3]) وليفـي بريـل([4]) وهيوم([5])...) أولئك فريق من الفلاسفة «يرون أن الإنسان يولـد خيّراً أو شريراً، كما يولـد الحمـل وديعاً والنمر مفترساً، أولئـك فريـق من فلاسفـة أوروبا، غلب على عصرهم البحث في القوى المادية وطبائعها، ورأوا ما فيهـا من قوانين علمية ثابتة، فأرادوا أن يبسطوا نتائجها، على سائـر العلـوم... حتى الاجتماعية والأخلاقية، فهـم لذلـك يصورون لنا الإرادة الإنسانية، سجينة في نطـاق حديدي من الغرائز والطبائع، ويصورون لنا البشرية كلها عاجزة عن التحول والتطور»([6]).
تعـدت المسألـة حدود النظـرة الفلسفيـة، وتناولتهـا يد البحث من جميع الاختصاصات، وفي شتى المجالات، فأدلى كـل بدلـوه، وقدموا آراء متعددة من وجهة نظر علم الأحياء (البيولوجيا)، وعلم النفس، وعلم نفس الطفل، والتربية...
* * *
المبحث الأول
رأي علم الأحياء
يدرس العلماء حياة الحيوان، وما يرون فيه من شراسة أو وداعة، فلا يطلقون اسم عدواني على الأول، ومسالم على الثاني ـ على خلاف الإنسان ـ لأن الفارق بين الإنسان والحيوان فارق كبير. فكلمة عدوانية تطلق على الإنسان وحـده، لأنـه يخطـط لما يفعـل، ويفعل ما يريد. فإذن عمل الإنسان منظم، أما عمل الحيوان فيكون من منطلق غريزي فقط.
لذلك «فإن معظم الاختصاصين في علم الحياة الحيوانية، يرفضون إطلاق عبارة (عدوانية) على الحيوان، فالحيوان لم يكن يوماً عدوانياً تلقائياً، نعني بذلك أن العدوانية لديه تربط دوماً إما بحاجاته، وإما بالمحرضات الخارجية...»([7]).
إذن العـدوان الحقيقـي يكـون عنـد الإنسان، ولا يكـون عنـد غيره مـن المخلوقات، والسؤال الذي يطـرح نفسه الآن هو: هل خالط التركيب الجسمي للإنسان جرثـوم أو غيره جعله يميل إلى العدوانية؟ وركب في آخر جرثوم جعله رفيقاً ودوداً؟
فإذا كان لهذا أن يحدث، فلا بد أن يحدث في علم الوراثة. وإذا كان صحيحاً، فمن الظلم التام أن نحمّل أي مقترف لعملية قتل أو نهب أو سلب وزر جريمته، لأنه حمل ذلك المورث الدافع له على الإجرام «وقد بات معلوماً منذ سنة 1956 أن مجموع الصفـات الصبغيـة لـدى الإنسان (وهـو تعريفه الصبغي) يحتوي 46 وحدة صبغية: منـها 22 زوجاً متشابهاً كلياً، في حين أن الزوج الثالث والعشرين وهو زوج الصبغيات الجنسية، يختلف لدى الرجل والمرأة، فهو يتكون لدى المرأة من صبغيتين متشابهتين، كلاهمـا ((x ويتكون لدى الرجل من صبغيتين مختلفتين إحداهما (x) والأخرى ((y. وقد أثبتت ملاحظات كثيرة أن الأفراد الذين يتميزون بعدوانية خاصة، والذين اعتقلوا بسبب ارتكابهم شتى أنواع العنـف، تظهـرلديهم في أغلب الأحيان حـالات من الشذوذ في صبغياتهم الجنسية. فإن زيادة ((x واحد أو اثنين قد تسبب تخلفاً عقلياً، ولكن زيادة ((y واحدة قد يكون لها تأثير على الغرائز الإجراميـة. ولئن ثبت وجود نسبة كبيـرة مـن صبغيـة ((xyy فيما بـين المجرمين، فقد لوحظ أن بعض من يملكون ((xyy هم أناس طيبون، ويبقى من الضروري إقامة الدليل في بعض الحالات، على أن وجود هذا الصبغي الإضافي، يدفع حتماً إلى العنف والإجرام، فيتحرر بذلـك المجـرم من أيـة مسؤولية، وفـي الوقـت الراهـن فإن الاختصاصيين يتفقـون على الاعتقـاد بأن الشذوذ الصبغي يسهل الجريمة ولا يحتمها([8]).
نضيف إلى ما سبق: كان يجب على علماء الحياة أن يدرسوا المؤثرات الأخرى التي دفعت إلى العنـف، فلعلـه كان للبيئـة أثـر، والحالة النفسية في دفع حامل صبغي ((xyy إلى ارتكاب العمل العنيف.
وخلاصـة القـول: إن العلـم حتى الآن، لم يصـل إلى نتيجـة تؤكد على أن الطبيعة التكوينية للإنسان تجعلـه يخضـع لدافـع عدواني بسبب تركيب جسـدي (فيزيولوجي)، وإن تبين أن هذا التركيب يُكَوَّنْ عنـد الإنسان الاستعداد للعمل العنيف إلا أنه لا يحتمه، ولا يمكن تجاوزه بالسيطرة عليه لو عولج هذا الإنسان. ومنه بإمكاننا القـول إن العدوانيـة في وجـه من وجوهها الطبيعية مرض وشذوذ، ليس تكويناً عادياً في الإنسان، ويبقى هذا بين الناس قليلاً.
* * *
المبحث الثاني
رأي الفلاسفة
اختلف الفلاسفة في شأن الفطرة الإنسانية على ثلاثة مذاهب.
المذهب الأول: يرى أصحابـه أن الإنسان خيّر بطبعه، والشر عارض عليـه، وهـو مذهـب المتفائليـن أمثـال جـان جـاك روسـو([9]) وينسب إلـى سقراط([10]) والرواقيين([11]).
المذهب الثاني: يرى أصحابه أن الإنسان شرير بطبعه، والخير طارئ عليه، وهو مذهب المتشائمين كالبوذيـة وأشباههم، ولعله سرى من هؤلاء إلى الكنيسة المسيحية، حيث ترى أن الإنسان منـذ خطيئة آدم قـد انقلب شريراً لا حيلـة لـه في إصلاح نفسـه، ولا غنى لـه عن منقذ ومخلص إلهي، تلك النظرية التي بنوا عليها عقيدة الفداء وما يتبعها.
المذهب الثالث: يرى أصحاب هذا المذهب أن الإنسان خلق مستعداً للخير والشـر جميعاً، وهو قول جمهـور الفلاسفة وعلماء النفس والتربية في هذا العصر، وهو مذهب وسط جامـع، سبقهم إلى تقريره الإمامان الغزالي([12]) وابن خلدون([13])، ويضيفان إليـه أن الإنسان خلق إلى الخير أميل منه إلى البشر، وقد فصّلا مذهبهما تفصيلاً، تبين منه وجه التوفيق بين المذاهب كلها، وذلك أن من نظر ما في الإنسان من العنصر الروحي الملكي كما في عبارة الغزالي أو عنصر النفس الناطقة كما في تعبير ابن خلدون قال إنه خيّر بطبعه... والإمامان الغزالي وابن خلدون يريان أن النفس مستعدة لتقبل ما يعرض لها من خلال ما يقدم لها، وسنوضح ذلك فيما بعد إنشاء الله تعالى([14]).
* * *
المبحث الثالث
التحليل النفسي للعدوانية
لما عجز علم الأحياء عن تبين ما هو طبعي في العدوانية، اتجه التحليل النفسي إلى معرفـة الدوافع التي تنحرف بالإنسان إلى العنف، فكان الاتجاه الأول منصباً على الإحباط واعتباره العامل الرئيس الذي يرمي بالإنسان إلى العدوان وارتكاب أعمال عنيفة.
يقول نعيم الرفاعـي: «إننا نهتـم بالمظهـر الموضوعي للعدوان، وبأشكال السلوك الذي يظهر عليه بالارتباطات المباشرة، التي نستطيع اكتشافها ودراستها موضوعياً، ونحن نعتبر بأن الإحبـاط قائـم وراء أكثر أشكال العدوان، وأن من الممكن رؤيـة القلق أحياناً وراء العدوان، ورؤية عوامل أخرى، على أن مزيداً من الفحص للقلق ولهـذه العوامـل الأخرى يكشف لنا بوضوح وجود الإحباط في الأعماق»([15]).
ويضاف إليه أنه بقدر ما يكون الإحباط قوياً وكبيراً بقدر ما يكون العدوان عاتياً وجارفاً وتتناسب قـوة العنف في العـدوان طـرداً مع زيادة الإحباط، وهذا ما نسبه إليه مجموعة من الباحثين، إذ يقولون «إن التحريض الأقـوى الذي يثيره الإحباط إنما يكـون باتجاه أعمال عدوانيـة موجهـة ضـد العنصـر الذي يعتقد أنه مصدر الإحباط، كما أن التحريضات الأضعف تدريجياً، تثار باتجاه أعمال عدوانية أقل مباشـرة بصورة تدريجية أيضاً»([16]). مثل فرويد([17]) الذي يرى في هذه المسألة اتجاهاً منفرداً، فقد تأثر في بداية حياته بالداروينية، فأخذ يبحث في جذور العدوانالحيوانية عنـد الإنسان، فاستخدم نظريـة التحليل النفسي لتفسير أخطر أمراض الإنسان النفسية (نزعة الحرب)، فالحرب العالمية الأولى كانت قد خلقت تأثيراً عميقاً في تفكير فرويد، وهو قبل ذلك أكد على قوة (الليبيدو أو الجنس) بوصفها المصدر البيولوجي للدافعية عند الإنسان، بيد أن التدمير الهائل الذي خلفتـه الحرب جعـل مؤسس مدرسـة التحليل النفسي ـ ابن السبعين عاماً ـ يقتنـع بأن الإنسان لا يسير مدفوعاً بالليبيدو وحسب، بل بجملـة أخـرى من الدوافع اصطلح على تسميتها (بغريزة الموت)([18]). إن هذا الطرح الفرويدي قوبل بالشك في المرحلتين الأولى والثانية مع أنه مؤسس التحليل النفسي، فقـد كان الطرح عبارة عن نظرية قد تثبت وقد تسقط كلياً أو يبقى منها شيء.
وهناك رأي آخـر يعتبر أن الشهوات مجتمعـة هي التي تدفع إلى الحرب والعنف، «ولا تختلف أسباب الحروب بأنها على الرغم من تنوعاتها الظاهرة، تنتج من الإنسان ذاته، فإن كانت اقتصادية: فإنما يعني أن شهوة الطعام والملكية وهي شهـوة بشريـة مازالت تسيطـر، وإن كانت نفسيـة: فإنما يعني أن شهوة الرغبة والكبرياء والحقد والتعلق وهي شهوات بشريـة جامحة مازالت تسيطر، وإن كانت اجتماعية: فإنما يعني أن شهـوة السيطرة وحـب الاعتداء. فالحروب لا تخرج عن نطـاق تحقيـق الشهوات كما رأينـا هي الشر والعنف»([19]). هذه نظرة ترى أن المشكلة الفردية هي مشكلة المجتمع نفسية كانت أم غير ذلك، وأن المطامع سبب في تحريك العدوانية عند الإنسان.
إن النظرات السابقـة تبين أن هنـاك خلـف العنف والعدوان أسباباً تدعو إليـه، فلا يأتي اعتباطاً ولا منطلقاً من غريزة، وإلا لمـا أمكن الحديث عنه في مجال علم النفس، ولصنف الناس إلى مسيء فلزمـه الاسـم والفعـل وإلى محسن فلزمه الاسم والفعل معاً، ولا يفيد بعد ذلك اتخاذ عقوبة رادعة، أو ثناء على فعل أو مثوبةعلى خير قام به أحد الناس.
* * *
(([1] شوبنهاور: اسمه أرثور (1788 ـ 1860) فيلسوف مثالي ألماني مذهبه مدعم باللاإرادية واللاعقلانية والتشاؤم مؤلفه الأساسي (العالم كإرادة وتصور).
(([2] كانت: اسمه ـ عمانوئيل (1724 ـ 1804) رائد المثالية الكلاسيكية الألمانية اشتهر أيضا بوضع الفرضية في أصل المنظومة الشمسية ـ مؤلفاته الأساسية (نقد العقل العلمي) (نقد ملكة الحكم).
(([3] سبينوزا: اسمـه ـ باروخ (بينديكيت) (1632 ـ 1677) فيلسوف مـادي مـن هولنـدا مؤلفـه الأساسي الأطيقـا ـ والأطقيـا تعني (عادة أو طبع) نظرية الأخلاق ـ تقدم هذه النظرية فهما معينا لمعنى الخير، والشر، والعدالة والواجب، والضمير، والسعادة، ومغزىالحياة أن ألاطيقا بدأت تتشكل كنظرية أخلاقية منذ أقدم العصور وكانت منذ أول عهدها جزءا من الفلسلفة من فلاسفتها (سقراط وأبي قور واسبينوزا وهيلقتوس وكانت وفور باخ....) وينقسـم أصحابهـا إلى قسمين: أحدهما مثالي: يعتبر التصرفات مختلطة بإرادة خارجية لادخل للإنسان فيهـا. وثانيهما: يعتبر المحيـط أو البيئـة هي التي تحدد بواعث سلوك الإنسان.
(([4] ليفي بريل: اسمـه بريـل (1857 ـ 1939) فيلسوف اهتـم بالمسائل المتعلقة بالأخلاق والتاريخ والفلسفة.
(([5] هيوم: اسمه دافيـد (1711 ـ 1776) فيلسوف إنكليزي ـ مثالي ولا أدري، عالم نفس، ومؤرخ، اقتصادي مؤلفه الأساسي (رسالة في الطبيعة البشرية).
(([9] جان جاك روسو (1712 ـ 1778) فيلسوف واجتماعي، وأديب فرنسي من أنصار الديئية (الإله لا يتدخـل تدخـلا مباشرا في سـير العمليات الطبيعية والاجتماعية) طور نظرية العقد الاجتماعي ـ من مؤلفاتـه الرئيسية (مقال من أصل التفاوت بين الناس) و(العقد الاجتماعي).
(([11] الرواقية: مأخوذة من اليونانية ( (sloaرواق كان يجتمع رجال هذه المدرسة فيه، وهي تمثل اتجاها في الفلسفة اليونانية ظهرت عند الإغريق في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد سعى الرواقيون إلى بناء صرح فلسفي يضم المنطق والطبيعيات (الفيزياء) والأخلاق كانتتأمر بالتأمل الهادئ وعدم التأفف والتذمر وغرس الطمأنينة.
(([12] محمد بن محمد الغزالي (أبو حامد): من أشهر علماء الفلسفة المسلمين ولد عام 450ﻫ ـ 1059 مبرز في مختلف العلوم التي اشتهرت في عصره، ومن بينها الفلسفة التي صرفت الناس عن وجه الحق وفرقتهم فاشتغل بالرد عليها فكتب كتابه (تهافت الفلاسفة) وله كذلك (المنقذ من الضلال) و (إحياء علوم الدين) توفي سنة (505ﻫ ـ 1111م).