محاكم التفتيش
محاكم التفتيش
كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس –بيروت – سنة (1439هـ - 2018م)
فقال :
لم تشأ النصرانيـة إذ أرادت أن تقضي على الهرطقـة، أن تترك ذلك للسلطة الزمنيـة، فلا بـد لهـا من المشاركـة الفعليـة، فقد تضمن دستور (ثبود وسيوس) (395م) الذي نص على عقوبة الإعدام للملحدين «وهو أول قانون يصادف فيه لفظ مفتشي الإيمان أو رجال محكمة التفتيش...»([1]).
فها هم رجال الكنيسة يقومون بواجبهـم على أتم ما يكون الواجب، فهم أهلها القادرون عليها، رضعوا لبانها حقداً أحمـر، ودماً قانياً، نرى رشحه الآن في كتب التاريـخ، تتحـدث عن مرابع البطولة ومسارح التفتيش خلف كل صغيرة وكبيرة ومحاسبة الإنسان عما يجيش في صدره من آمال وما يمر بخاطره من أفكار «... واستشرت فأصدرت عيونهـا تفتش وتقيم المحاكم لتروع الملحدين بصرامة أحكامها وقد عهدت الكنيسة إلى آباء (الدومينكان) ([2]) أداء هذا الواجب الديني الجليل، وأنشأ البابا (جريجوري) التاسع في عهـد لويس التاسع ملك فرنسا محكمة التفتيش، أو ديوان التحقيق العام 1223م. ومكن لهذا النظام أمر بابوي أصدره (أنوسينت) الرابع عام (1252م) وضبط نظام الاضطهاد كجزء رئيسي في الكيانالاجتماعي لكل مدينة أو دولة وكانت هذه أبشع أداة لكبح التفكير النزيه والضمير الحر، لم يعهد التاريخ لها نظيراً»([3]).
«وفي إسبانيـة استجابت (إيزابيـلا) وزوجهـا (فرديناند) إلى نصح راهب دومينيكي يتقـد تعصباً، وهو (توركيويمادا) والتمسا من البابا (سكنوس الرابع) إصدار مرسـوم بإنشـاء محكمة التفتيش، فنشأت هذه المحكمة في قشتالة في عام 1478م ثم أشبيلية وغرناطة وغيرها في مدن إسبانيا بعد ذلك... وصبت عذابها على المسلمين من غير رفـق ولا عدالة، حتى اعتنق النصرانية من خار في ميدان الكفـاح، وهاجر مـن حـار بين التمسك بعقيدته، واحتمال آلام العذاب، وفي عام 1606 و1610م تـم جلاء ألوف المسلمين من إسبانيـة بعـد أن أغرقـوا بدمائهم أرضها، وكتبوا بمقاومتهم أنصع الصفحات في تاريخ الجهاد في سبيل الله»([4]).
هذه الغاية التي من أجلها أنشئت محاكم التفتيش، إنها تريد أن تعذب الناس باسم الدين، وتذيقهم ويلات عذابهـا، وهي مأجورة عند الرب في ظنهم.. وكم يكون رحيماً هـذا الرب الـذي ينظر إلى خلقه يعذبون، الأم تفارق ابنها، والزوج زوجها، والأحبة يتشتتون، والأقارب يتباعدون، والحرمات تنتهك والدماء تهرق باسم ماذا ؟ باسـم الدين، باسم الرب الذي بارك النار، التي أدمت الهراطقة كما يراها أصحاب محاكم التفتيش لا كما يراها الرب سبحانه.
ـ كيفية المحاكمة والمعاقبة:
إن الطريقة التي اتبعت للوصول إلى المتهم مبنية على القاعدة التالية: «كل متهم مذنب حتى تثبت براءته»([5]). لذلك كانت أصابع الاتهام تشير إلى كل من يقوم بعمل يثير ظنون الكنيسة في صـدق إيمانه. وأصبح من أكبر الآثام أن تؤخر عقوبة الملحد، أو أن يطول التحقيق. لذلك استعجل رجال الدين النصارى رحمـة الرب ورضـاه، فأصبحوا يقدمون القرابين بقتل الملحـدين، وصب جام غضبهم على الهراطقـة فلا يملكـون «إلا إعـدام المتهـم بالهرطقة في مدة لا تتجاوز الأيام الستة، وإلا اتهمت بالعمل على ترويج الإلحاد»([6]).
أما طرق تعذيبهم فقد كانت على طراز راق من أساليب التعذيب المضنية، التـي تقشعـر لهولهـا الأبدان بمجرد سـماع الحديث عنها، فكيف بمن شهدها أو اكتـوى بنارهـا، ولعلهم استوحوها من الإنجيل إذ يقول: «إن كان أحد لا يثبت فيّ يطرح خارجاً كالغصن فيجـف ويجمعونـه ويطرحونه في النار فيحترق»([7]). لذلك كانت المساهمـة في إحراق المتهم قربة يتقرب بها إلى الرب فكل «من ساهم بتقديم الوقود الذي يحرق به الملحد فقد استحق الرحمة»([8]).
لذلـك تفننـوا في طريقة الإعـدام فـ «لم يجر الإعدام على وجه السرعة، بل جرت العادة بأن يحـرق الملحدون أحياء. وبأن تكون النار التي تلتهم أجسادهم بطيئة لا تأتي على ضحيتها دفعة واحدة. وكانـوا يبررون إطالـة العذاب على هذا النحـو بأن يبيـح للمتهـم فسحـة من الوقـت يستطيع أن يعلن توبته»([9])، «وهذا الإحراق تسبقه مراحل من التعذيب بالكي بالنار ونحوه، تختبر فيها صلابة العزم وعمق الإيمان وقوة الإرادة، وهذا الأسلوب في اختبار المتهمين قد حدده أمر بابوي أصدره (أنوسنت) الرابع، وأعاد توكيده (كليمان) الرابع في أمر بابوي آخر»([10]).
أما بالنسبة للمشاعـر الإنسانيـة فليست بالحسبان و«كـم كان مثيراً منظر الملحـد وهو يسام العذاب، وكم كانت زوجته، أو أمه، أو ابنته مثاراً لكل إشفاق، إنها كانت ترى من تفديـه بحياتها وما ملكت يتلوى من فرط الألم ويرتجف من هول الفزع، إنها ترقب النار وهي تزحف في بطء على جسمه تلتهمه، فإذا استوفى أنفاسه وأخفَتَ الموت صيحـة ألمـه الممض، واستراح جسمـه المعـذب، قيل لهذه البائسة أن هذه هي إرادة الله الذي تعبدين، وأن ليس هذا العذاب إلا صورة باهتة لعذابسرمدي مقيم ينزله الله بأمثال هذا الملحد، هذه نظرة ترددت فوق المنابر وحفرت فوق المذابح في الكنائس»([11]).
هكذا أصبحت الكنيسة تمثل قوة حقيقية تطارد من تريد إرهابه وتقتل إن شاءت، حتى ذاع الرعب بين الناس بما يسمعونه عن محاكم التفتيش ويرونه.
ولنستمع إلى هذه القصة التي يرويها لنا أحد ضباط الجيش الفرنسي، الذي دخل إلى إسبانيا بعد الثورة الفرنسية كتب (الكولونيل ليموتسكي) أحد ضباط الحملة الفرنسية في إسبانيا قال: «كنت سنة 1809 ملحقاً بالجيش الفرنسي الذي يقاتل في اسبانيا، وكانت فرقتي بين فرق الجيش الذي احتل (مدريد) العاصمـة، وكـان الإمبراطور نابليـون أصـدر مرسـوماً سنة 1808 بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الإسبانية، غير أن هذا الأمر أهمل العمل به للحالة الحربية والاضطرابات السياسية التي سادت وقتئذ.
وصمم الرهبان الجزويت أصحاب الديوان الملغى على قتل، وتعذيب كل فرنسي يقـع في أيديهـم، انتقاماً من القـرار الصـادر، وإلقاءً للرعـب فـي قلـوب الفرنسيين، حتى يضطروا إلى إخـلاء البلاد فيخلـو لهـم الجـو، وبينما أنا أسير في إحدى الليالي أجتـاز شارعاً يقل المرور فيه من شوارع مدريد، إذ باثنين مسلحين قد هجما علي يبغيان، قتلي فدافعت عن حياتي دفاعاً شديداً، ولم ينجني من القتل إلا قدوم سرية من جيشنا مكلفـة بالتطـواف في المدينة، وهي كوكبة من الفرسان تحمل المصابيح وتبيت الليـل ساهـرة على حفـظ النظام، فما أن شاهدها القاتلان حتى لاذا بالهرب، وتبين من ملابسهما أنهما من جنـود ديوان التفتيش، فأسرعت إلى (المارشال سولت) الحاكم العسكري لمدريد وقصصت عليه النبأ، وقال لاشك بأن من يقتـل من جنودنـا كل ليلـة إنما هـو من صنـع أولئك الأشرار، لا بد من معاقبتهم وتنفيـذ قـرار الإمبراطور بحـل ديوانهم، والآن خذ معك ألف جندي وأربعة مدافع وهاجم دير الديوان واقبض على هؤلاء الرهبان الأبالسة».
حدث إطلاق نار من اليسوعيين حتى دخلوا عنوة ثم يتابع قائلاً «أصدرت الأمر لجنودي بالقبض على أولئك القساوسة جميعاً وعلى جنودهم الحراس،توطئة لتقديمهـم إلى مجلـس عسكري، ثم أخذنـا نبحـث عن قاعـات وكراسي هزازة، وسجاجيدفارسية ثمينة، وصور ومكاتب كبيرة، وقد صُنعت أرض هذه الغرف من الخشب المصقول، المدهون بالشمع، وكان شذى العطر يعبق من أرجاء الغرف، فتبدو الساحة كلها أشبه بأبهاء القصور الفخمة، التي لا يسكنها إلا ملوك، قصروا حياتهم على الترف واللهـو، وعلمنـا فيما بعد أن تلك الروائح العطرة تنبعث من شمع يوقد أمام صور الرهبان، ويظهر أن هذا الشمع قد خلط به ماء الورد».
»وكادت جهودنا تذهب سدى ونحن نحاول العثور على قاعات التعذيب، إننا فحصنا غرف الدير وممراته، وأقبيته كلها، ولم نجد شيئاً يدل عليها، فعزمنا علىالخروج يائسين من اكتشاف بغيتنـا، مقتنعين بتقديـم أولئك الرهبان إلى المجلس العسكري، وكانوا في أثناء بحثنا يقسمون ويؤكدون أن ما شاع عنهم وعن ديرهمليست إلا تهماً باطلة، وأنهم يحتملون هذه الأكاذيب في سبيل الله، وأنشأ زعيمهم يؤكد لنا براءته وبراءة أتباعه بصوت خافت، وهو خاشع الرأس توشك عيناه أن تطفر بالدمع، فأعطيت الأوامر للجنود بالاستعداد لمغادرة الدير، لكن اللفتنانت (ديليل)، استمهلني قائلاً: أيسمح لي الكولونيل أن أخبره بأن مهمتنا لم تنته حتى الآن، قلت له: قد فتشنا الدير كله، ولم نكتشف شيئاً سرياً به فماذا ترغب ؟ قال إني أرغب في فحص أرض هذه الغرفـة وأدقق في امتحانها، فإن قلبي يحدثني بأن السر تحتها، وعند ذلك نظر الرهبان بعضهم إلى بعض نظرات قلقة، وأذنت للضابط بالبحث، فأمـر الجنود برفـع البسط فرفعت، ثم بأن يصبوا الماء بكثرة في أرض كل غرفة على حده ففعلوا، وكنا نرقب الماء فإذا بالأرض تبتلعه في إحدى الغرف، ويتسرب إلى أسفل، وصفق الضابط (ديليل) من شدة فرحه، وقال هو ذا الباب، انظروا، فنظرنا، فإذا بالباب قد انكشف وهو قطعة من أرض الغرفة، يفتح بطريقة ماكرة بواسطة حلقة صغيرة، وضعت إلى جوار رجل مكتب الرئيس، وأخذ الجنود يكسرون الباب المستور بقحـوف البنادق، والتفت فرقة من الجنود حول عصابة الرهبان، الذين اصفرت وجوههم وكستهـا غبرة... وفتح الباب، وظهر لنا سلم يؤدي إلى باطن الأرض، فأسرعت إلى شمعـة كبيرة يزيـد طولها على متر كانت تضيء أمام صورة أحد رهبان محاكـم التفتيش، ولما هممت بالنزول، وضع راهب يسوعـي يده على كتفي متلطفاً، وقال لي يا بني لا تحمل هذه الشمعة بيدك الملوثة بدم القتال، إنهـا شمعـة مقدسة، قلت له يا هذا لا يليق بيدي أن تنجس بلمس شمعتكم الملطخـة بدم الأبريـاء، وسنرى من النجس منا ومن القاتل السفاح؟! وهبطت على درج السلم يتبعني سائر الضباط والجنود، شاهرين سيوفهم، حتى وصلنا إلى آخر الدرج، فإذا نحن في غرفة كبيرة مربعة، وهي عندهم قاعة المحكمة، في وسطها عمود من رخام به حلقة حديدية ضخمة، ربطت بها سلاسل من أجل تقييد المحاكمين بهـا، وأمـام هذا العمود كانت المصطبة التي يجلس عليها رئيس ديوان التفتيش، والقضاة لمحاكمة الأبرياء، ثم توجهنا إلى غرف التعذيب وتمزيق الأجساد البشرية، التي امتدت علـى مسافـات كبيرة تحـت الأرض، رأيت فيهـا ما يستفز نفسي ويدعوني إلى القشعريرة والتقزز طوال حياتي.
رأينا غرفاً صغيرة في حجـم جسـم الإنسان، بعضهـا عمـودي وبعضها أفقي، فيبقى السجين بها حتى يموت، وتبقـى الجثث في السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم، وتأكله الديدان، ولتصريف الروائح الكريهة المنبعثة من جثث الموتـى، فتحـوا نافذة صغيـرة إلى الفضاء الخارجي، وقد عثرنا في هذه الغرف على هياكل بشرية ما زالت في أغلالها.
»كان السجناء رجالاً ونساء تترواح أعمارهم ما بين الرابعة عشرة والسبعين، وقد استطعنا إنقـاذ عـدد من السجناء الأحياء، وتحطيم أغلالهم وهم في الرمق الأخير من الحياة«.
»كان بعضهم قد أصابه الجنون من كثـرة ما صبوا عليه من العذاب، وكان السجناء جميعاً عـراة حتى اضطر جنودنا إلى أن يخلعوا أرديتهم ويستروا به بعض السجناء، أخرجنـا السجنـاء إلى النـور تدريجيا حتى لا تذهب أبصارهم، وكانوا يبكون فرحاً، وهم يقبلـون أيدي الجنـود وأرجلهم، الذين أنقذوهم من العذاب الرهيب، وأعادوهم إلى الحياة، كـان مشهداً يبكـي الصخور، ثم انتقلنا إلى غرف أخرى، ورأينا فيها ما تقشعـر لهولـه الأبدان، وعثرنا على آلات رهيبة للتعذيب، منها آلات تكسير العظام وسحق الجسم البشري كلـه، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة، والدماء الممزوجة باللحم المفروم، هكذا كانوا يفعلون بالسجناء الأبرياء المساكين».
ثم عثرنا على صندوق في حجم رأس الإنسان تماماً، يوضع فيه رأس الذي يريـدون تعذيبـه، بعـد ربط يديه ورجليـه بالسلاسل والأغلال، حتى لا يستطيع الحركة، وفي أعلى الصندوق ثقب تتقاطر منه نقـط المـاء البارد على رأس المسكين بانتظام، في كل دقيقة نقطة، وقد جن الكثيرون من هذا اللون من العذاب، ويبقى على حاله حتى الموت. وعثرنا على آلة ثالثة للتعذيب تسمى بالسيدة الجميلة، وهي عبارة عن تابوت تنـام فيه فتاة جميلة مصنوعة على هيئة الاستعداد لمن ينام معها، وقد برزت من جوانبها عدة سكاكين حادة، وكانوا يطرحون الشاب المعذب فوق هذه الصورة، ثم يطبقون عليها باب التابوت بسكاكينه وخناجره، فإذا أغلق مزق جسم الشاب وتقطع إرباً إرباً.
»كما عثرنـا على جملـة آلات لسل اللسان، ولتمزيـق أثداء النساء وسحبها من الصدور بواسطة كلاليب فظيعة، ومجالد من الحديد الشائك لضرب المعذبين وهم عراة حتى يتناثر اللحم والعظام«.
وصـل الخبر إلى مدريد، فهب الألوف ليـروا وسائل التعذيب، فأمسكوا برئيس السيوعيين ووضعوه في آلـة تكسير العظام، فدقت عظامـه دقاً وسحقت سحقاً، وأمسكوا كاتم سـره وزفـوه إلى السيدة الجميلـة، وأطبقوا علية الأبواب فمزقته السكاكين شـر ممـزق، ثم أخرجوا الجثتين وفعلـوا بسائر العصابـة وبقية الرهبان كذلك، ولم تمض نصف ساعـة حتى قضى الشعب على ثلاثة عشر راهباً، ثم أخذ ينهب ما بالدير([12]).
هكذا تكون نهاية من سار في طريق العنف والانتقام، وصدق المثل «من سل سيف البغـي قتل به»، إن هذه الأحداث التي شاهدتها البشرية، وما زالت تشهد أمثالهـا، لدليـل على رجعيـة أفكـار بعض الناس الذيـن أعماهم الحقد، وتعطيل للطاقات والمواهب التي أودعها الله سبحانه فيهم لتستغل في صالح البشرية وخيرها.
ونكتفي بهذا القدر من الحديث عن محاكم التفتيش، التي عانت من تصرفها البشرية ردحاً من الزمن، وذهب ضحيتها الآلاف كما يقول (لورنتي): «إن المحكمة في اسبانيـا قدمـت وحدهـا أكثـر من ثلاثـة آلاف نفس وأكثـر من (290) ألف عقوبات أخرى»([13]).
* * *