الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلم
الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلم
كتب الدكتور تيسير خميس العمر حول هذا الموضوع في كتابه ( العنف والحرب والجهاد) الصادر عن دار المقتبس –بيروت – سنة (1439هـ - 2018م)
فقال :
ينطلـق أصحاب هذا الرأي([1]). في البرهنـة على أن العلاقـة بين المسلمين وغيرهم السلم، من منطلقين: المنطلق الأول نصي، والثاني اجتهادي.
أولاً ـ الأدلة النصية:
إن المتتبع لآيات القرآن الكريم، يجدهـا قاطعـة الدلالة على أن الأصل في العلاقات الدولية هو السلم. ولا تكون حرباً إلا إذا اعتدي على الدولة الإسلامية فعلاً، أو بفتنة المسلمين عن دينهـم، فالحرب تكون حينئذ ضرورة أوجبها الدفاع عن النفس وعن العقيدة والحرية الدينيـة، أو اتقاء لهجوم تكون المبادرة فيه ضرباً من الدفاع([2]). قال تعالى: ﴿ وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾[الأنفال: 61] وقال سبحانه: ﴿حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّـهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾[محمد: 4]. وقـال تعـالـى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾[البقرة: 208]، وقال تعالى فـي سورة النسـاء: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّـهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّـهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾[النساء: 94]. وقال سبحانه وتعالى: ﴿ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّـهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ﴾[النساء: 90].
وقال عز من قائل في سورة الممتحنة: ﴿ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾[الممتحنة: 8].
والسلـم كما جـاء في تفسير المنـار «أتى بمعنى: الصلـح والسـلام وديـن الإسلام، واللفظ يشمل جميع معانيه التي يقتضيها المقام»([3]).
هـذه الآيات تعـود بالحرب، إذا نشبت إلى الأصل الطبيعي في العلاقات وهو السلم، ولـو كـان الأمر هو العكس، لما دعي المسلمون إلى التزام السلام إن جنـح إليـه غيرهم، وأظهـروا حسن نواياهم، ولو لم يكـن منهم إيمان بالإسلام، وحينئذ فعلى المسلمين قبـول السلم بكل ضروبه وأشكاله([4]). وفرض القتال في القرآن، كان نتيجة لما تلقى المسلمون من اضطهاد وفتنة في العقيدة، فقد أوذي صلى الله عليه وسلموأتباعـه في مكـة، وأخرجـوا من ديارهم «فلـم يبق إلا أن يُمكّن لدعوته ويمنع الاضطهـاد عن أتباعه، وأن يحمي حرية العقيدة، لأن الإسلام يدعو إلى السلام، ولا يقبل الاستسلام للباطل، ولا سلام في الخضوع للباطل»([5]). فجاء بعدها الإذن بالقتال الذي لولاه لهدمت صوامع العبّاد وبيع النصارى ومعابد اليهود، ولوقف الباطل في وجه الحق، ولمنعت الدعوة إلى الخير. فإذا كان الباطل له قوة فلا بد أن يكـون للحـق شوكـة تصيب الباطل»([6]). قال الله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿٣٩﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّـهُۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّـهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾[الحج: 39 ـ 40].
أما ما استدلوا بـه من السنة فمنه: بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى دين الله، دون استعمال لقوة السلاح، ليثبت أن الأصل هو السلم، ولولا بغي المشركين لاستمرت العلاقـة قائمـة على السلم إلا أن المنازعات والمشاكـل اضطرت المسلمين للقتال.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما روى البخاري ومسلم: «أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية...»([7]) . فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن الرغبة في الحرب وتمنيها حتى مع العدو ويسأل الله أن يديم نعمة السلم([8]).
وروى الجماعـة أن رجلاً جـاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتـل ليرى مكانته، فمن في سبيل الله، قال: «من قاتل لتكون كلمـة الله هي العليا فهو في سبيل الله»([9]). نستدل من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم «قد حصر الحرب في دائرة الحق والعدل والدعوة إلى الإسلام،فدل على أن ما عدا ذلك من أنواع الحروب غير جائز بطريق المفهوم بأن الأصل هو السلم»([10]) .
أما أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في القتال فإنها كانت لأحد أمرين:
1 ـ وقوع الاعتداء بالفعل على المسلمين، كما رأينا في اعتداء مشركي مكة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابـه، وإخراجـه من مكة، وتأليب العرب في الجزيرة العربية لاقتلاع المسلمين من جذورهم، وكذلك كسرى فإنه مزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وأرسل إليه من يقتله أو يأتي به حياً، والبيزنطيون تحت قيادة هرقل أعدوا الجيوش لضرب المسلمين، مما دفع النبي صلى الله عليه وسلم للقائه في تبوك.
2 ـ الاعتداء المباشر من الملـوك على عقيـدة من تحت سلطانهم ممن اختار الإسلام ديناً، فيرهقونهم في عقيدتهم الدينيـة، فليس للدعاة وأصحاب السيادة الإسلامية، أن يقفوا مكتـوفي الأيـدي حيـال ذلك، فـ «الدعـوة الإسلامية نـور لا يحجب، فلا بد أن تفتح الأبواب له، وقد وقف الحكام له بالمرصاد يمنعونه من الوصول إلى رعاياهم. فكان لا بد من القتال لإزالة الحواجز التي تمنع النور، ولمنع الاضطهاد أن يقع حتى لا تكون فتنة في الدين»([11]).
أما شبهـة تقسيم الدنيـا إلى دارين: فقد كانت نتيجة الاعتداءات المتكررة من الأعداء والمدافعة المستمرة من المسلمين في عصر الاجتهاد الفقهي. «فهي مجرد أثر من آثار الحرب وعبارات الفقهاء في أن الأصل الحرب ليست حجة على الأعداءإذ لا دليل عليها من قرآن أو سنة إنما هي حكم زمان»([12]).
هذا ما تم تقديمه من بعض الفقهاء من أدلة نصية في اعتبار العلاقة مع غير المسلمين قائمة على السلم، وأما الحرب فهي لدفع العدوان وحماية الدعوة لا للغلب أو المخالفة في الدين كما قرر بعض الفقهـاء، ووقوع الحرب لا ينافي كون الأصل العام هو السلم([13]).
ثانياً ـ الأدلة الاجتهادية:
أغنى الفقهـاء المسلمون الشريعـة الإسلامية بضوابط عامة وقواعد كلية يسهـل على الدارس معرفـة كثير من الأحكام واستنباطها إذا ما دعا ذلك، ومن بين هذه القواعـد التي قعدوها قولهم: (الضرورات تقدر بقدرها) فبما أن الحرب ضرورة لإيجاد السلـم ـ ومن أراد السلم استعـد للحرب ـ فقد قرر الفقهاء: (أن الضرورات تقدر بقدرها) واعتبار الحرب هي الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم أمراً يخالف منطق الضرورة وطبائع الأمور([14]).
والفقهاء يقررون في قواعدهم أن (الأصل في الأشياء الإباحة)([15])، الأصل الخلو من التكليف([16]). (والأصل في الذمة البراءة)([17]). و«هذه القواعد وإن كانت في أصول الأشياء فيما لم يرد به الشرع، فإن قاعدة (الأصل في العلاقات السلم) لم يطرأ عليها أيضاً تغيير في الشرع الإسلامي في رأينا، على عكس ما استنبطه الفقهاء من النصوص الشرعية»([18]). ليتناسب مع ما درجوا عليه من أصول اجتهادية في معرفـة الأحكـام، ويبقى عليهم بعد ذلك أن يقروا بأن الإسلام يعتبر العلاقات الدولية قائمة على أساس السلم بين المسلمين وغيرهم.
إن اعتبـار الحـرب هي الأصـل يؤدي إلى صـدود النـاس عـن الإسلام، وسيأخذون الأهبة دائماً للوقوف في وجه الدعوة الإسلامية، التي لا يهم أصحابها إلا إشعال الحروب بين الأمم، وما أرسل الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للعالمين وما مهمة المسلمين إلا أن يأتـوا بالناس إلى الإسـلام قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : «تألّفـوا الناس ولا تغيروا عليهـم حتى تدعوهـم، فما على الأرض من أهل بيت من مدر ولا وبر إلا أن تأتونـي بهم مسلمين أحب إليّ من أن تأتونـي بأبنائهـم ونسائهـم وتقتلـوا رجالهم.»([19]) .
ونقل أستاذنـا الدكتور وهبة الزحيلي عن كتاب تأسيس النظر للدبوسي «أن الشافعي رضي الله عنه اعتبر الدنيـا كلها في الأصل داراً واحـدة، ورتب على ذلك أحكاماً باعتبار أن تقسيم الدنيا إلى دارين أمر طاررر. وقال: وهو رأي في غاية السلامة والنضوج لاتفاقه مع مبدأ الفطرة»([20]).
والقاعـدة المعتمـدة عنـد الحنابلـة: الأصـل في الدمـاء الحظـر إلا بيقـين الإباحة([21])، وقال فقهاء الحنفية: «الآدمي معصوم ليتمكن من حمل أعباء التكليف، وإباحة القتل عارض سُمح به لدفع شره» قالوا أيضاً: «الكفر من حيث هو كفر ليس علـة لقتالهم» وقال الإمام مالـك: لا ينبغي لمسلم أن يهرق دمـه إلا في حق ولا يهرق دمٌ إلا بالحق([22]).
واعتبار علة القتال في الإسلام: هي الحرب وليس الكفر يدل على أن الأصل في العلاقات الخارجية هو السلم.
* * *
(([1] هذا رأي بعض الفقهاء المحدثين مثل الشيخ رشيد رضا في الوحي المحمدي وتفسير المنار والشيخ محمد أبو زهرة في العلاقات الدولية في الإسلام وأستاذنا الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه آثار الحرب في الفقه الإسلامي.
(([13] أنظر أبو زهرة العلاقات الدولية في الإسلام ص 47 آثار الحرب في الفقه الإسلامي ص 131 تفسير المنار رشيد رضا 1 ص 307 نظام الإسلام د. مصطفى البغا ص 313 طبع جامعة دمشق، مدخل إلى القانون الدولي وقت السلم د. عزيز شكري ص 18 ط4، الإسـلام عقيـدة وشريعة الشيخ محمود شلتوت ص 383 ط. 1959، الإجرام الدولي عبد الوهاب حومد ص 43، فقه السنة السيد سابق 2 ص 216 ط. دار الكتاب العربي بيروت.