إنما بين النحاة والبلاغيين في سنن ابن ماجه
إنما بين النحاة والبلاغيين في سنن ابن ماجه
كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)
فقال:
مـا ذكر في المعاجم من معاني مـادة (قصر) تكاد جميعهـا تدور حول معنى الحبس وعـدم تجاوز الشيء إلى غيره، إذ ذكروا أن من معاني هـذه المادة «القَصِير الذي هو خلافُ الطُّولِ؛ والغايـة، يقـال: قَصْرُك أن تفـعل كـذا، أي: حسبك وغايتك؛ والكفّ عن أمـر؛ والسكون، يقال: قَصَرَ عني الوجعُ والغَضَبُ يَقْصُر قُصُوراً وقَصَّر إذا سكن؛ وعدم تجـاوز الشيء إلى غيره، يقال: قَصَرْتُ الشيء على كذا إِذا لم تجاوز به غيره، وامرأَة قاصِرَةُ الطَّرْف، أي: لا تَمُدُّه إِلى غير بعلها؛ والحبس، كقوله ـ تعالى ـ: ﴿حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾[الرحمن: 72]، أَي محبوسات في خيام من الدُّرِّ مُخَدَّرات على أَزواجهن في الجنات. وغير ذلك من المعاني»([1]). واضح أن هنـاك تشابهـا ظاهـرا بين هذه المعاني، لأن جميعهـا تتفرع من معنى الحبس وعدم تجـاوز الشيء إلى غيره، فالقصير الذي هو خلاف الطويل محبوس في نطاق معين لا يتجـاوزه الى نطاق الطويل؛ والغاية محبوسة عليها النفس، ولا تتجاوزها الى غيرها، فإذا بلغتها حبستها، وهكذا.
وعرف البلاغيون القصر بأنه «تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص»([2]).
هـذا التعريف هـو تعريـف القصر المعروف لدى البلاغيين، وهو بعبارة أخرى: جعل شيء مقصورا على شيء بحيث لا يتعداه إلى غيره. فتخصيص شيء بشيء معناه إثبـات أحدهمـا للآخـر، ونفيـه عن غيره. فهنا تناسب واضح بين مفهوم القصر اللغوي ومفهومه الاصطلاحي.
و(بطريق مخصوص) هـذا القيـد الذى أضافه البلاغيون للتعريف، فائدته هـي تحديـد مسـار البحث في هـذه القضية، وجعلـه يدور حول طرق معينة هى المقصود لهم بالبحث فيه، وهى تلك الطرق الاصطلاحية المعروفة لديهم، وهي: النفـي والاستثناء، إنما، تقديم مـا حقه التأخير، العطـف. وإنما قيـدوه بهذا القيد لأن القصر لو كان تخصيص شيء بشيء من غير هذا القيد لكان غير منضبط لكثرة الأساليب التي تفيد هذا التخصيص. فهذا القيد يوحي لنا بأن القصر الاصطلاحي الـذي هـو مجـال الدراسة في هـذا الفن لابـد أن يكـون بأدوات وطـرق معينـة، وما عـدا ذلـك لا يسمـى قصراً اصطلاحياً، وإن أفـاد معناه. كقولـه ـ تعالى ـ: ﴿ وَاللَّـهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّـهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾[البقرة: 105]. فهذا لا يسمي قصراً اصطلاحياً لأنه لم يأت بطريق من طرق القصر، والتخصيص فيه حاصل بصريح لفظ الخصوص، وليس وراءه ما في طرق القصر من اعتبارات لطيفة.
هذه الطرق الأربعة هي طرق معروفة للقصر لدى البلاغيين، وزاد بعضهم طريقين آخرين هما: ضمير الفصل وتعريف طرفي الإسناد،([3])غير أنهم لم يذكروهما في باب القصر لاختصاصهما بالمسنـد والمسند إليـه، وقـد ذُكِرَا ودُرِسَـا في بابي أحوال المسند وأحوال المسند إليه.
وقـد أشار الدكتـور محمد محمد أبو موسى ـ حفظـه الله ـ إلى أن هذين الطريقين حريان أن يكونا بين الطرق الاصطلاحية، وذلك لأنهما أيضا من الوسائل في الصياغة، والتصرف في العبارة، واللَقانـة في استخدام الكلمة، وكذلك «لدقة وجـه الدلالـة فيهما ولطافتها، وبحث أسرار اللسان في نطـاق ما ينهض بـه علم المعانـي إنما هـو الدلالات المستكنة في أحوال الكلمات أو فيما بينهـا من علاقات الذى هو توخـي معاني النحو»([4]). وذكـر أن البلاغيين إنما أغفلوا في هذا الباب هذين الطريقين لأنه سبق ذكرهما في أحوال المسند إليه والمسند. «ولعل الذى سوغ عدّ التقديم في الطرق الاصطلاحية الأربعة مع أنه سبق القول فيه في الأبوابالسابقة هو: أن التقديم درس موزع بين هذه الأبواب، ولم يدرس عند السكاكي والخطيب ومن تقيلهم دراسـة متكاملـة، كما أن دلالته على الاختصاص ليست أشهـر دلالاته، وإنما أشهرهـا العنايـة والاهتمام، وقد نازع كثير من الدارسين في دلالتـه على الاختصاص، وذلـك بخـلاف ضمير الفصل وتعريف المسنـد، فإن الاختصاص أبرز المقصود بهما»([5]).
وإذا ما بحثنا في آثار النحاة نجد أن لهم وجهة أخرى في حديثهم عن لفظة (إنما). فقال شيـخ النحويين سيبويه ـ رحمه الله تعالى ـ: «وأما لَيْتَمَا زيداً منطلقٌ، فإن الإلغـاء فيـه حسن، وقد كان رؤبةُ ابنُ العجّاجِ ينشد هذا البيت رفعا، وهو قول النابغة الذبياني:
قَالَتْ ألاَ لَيْتَمَا هذا الحَمَامُ لَنَا | إِلَى حَمَامَتِنَا ونِصْفُه فَقدِ([6]) |
فرفعـه على وجهـين: على أن يكـون بمنزلـة قـول مـن قـال: ﴿مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً﴾[الققرة: 26]([7])، أو يكون بمنزلـة قولـه: إنما زيد منطلق»([8]). ثم ذكر أن الخليل ـ رحمه الله ـ قال: »(إنما) لا تعمل فيما بعدها، كما أن (أُرَى) إذا كانت لغوا لم تعمـل، فجعلـوا هـذا نظيرهـا مـن الفعـل، كـما كـان نظـير (إنّ) مـن الفعـل ما يعمل»([9]).
وقـال في باب (إنما وأنما) من كتابـه: «اعلم أن كـل موضـع تقـع فيه (أنّ) تقع فيـه (أَنّما)، ومـا ابتُدئَ بعدهـا صلةٌ لها كما أن الذي ابتُدئَ بعد (الذي) صلة لـه، ولا تكـون هـي عاملةً فيما بعدها كما لا يكون (الذي) عاملاً فيما بعده. فمن ذلـك قولـه ـ عـز وجـل ـ ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾[فصلت: 6]»([10]). وقـال: «فأمـا (إنما) فلا تكـون اسماً، وإنما هي ـ فيما زعم الخليل ـ بمنزلة فعل مُلْغى، مثل: أَشهدُ لَزيدٌ خيرٌ منك، لأنها لا تعمل فيما بعدها، ولا تكون إلا مبتدأةً بمنزلة (إذا)، لا تعمل في شيء»([11]).
وقـد أشـار ابن السراج ـ رحمه الله تعالى ـ إلى ذلـك بكلام أكثر وضوحا، حيث قال: «وتدخل (ما) زائدة على (إنّ) على ضربين: فمرة تكون ملغاة دخولها كخروجها، لا تغير إعراباً، تقول: إنما زيداً منطلق، وتدخل على (إنّ) كافة للعمل فتبنى معها بنـاء فيبطل شبهها بالفعل، فتقول: إنما زيد منطلق. ف(إنما) ها هنا بمنزلة (فعل) ملغى مثل: أشهد لزيد خير منك»([12]). وذكر أن (إنما) تفيد تحقير الخـبر، حيث قـال: «والفرق بين (إنّ) و(إنما) في المعنى أن (إنما) تجـيء لتحقير الخبر»([13]). قـال سيبويه ـ رحمه الله تعالى ـ: «وتقول: إنما سرت حتى أدخلَها، إذا كنت محتقِراً لسيرك الـذي أدَّى إلى الدخول، ويقبـح: إنما سرت حتى أدخلُها([14])، لأنه ليس في هذا اللفـظ دليلٌ على انقطاع السير كما يكون في النصب، يعني إذا احتقـر السـير، لأنـك لا تجعلـه سـيراً يؤدي الدخـولَ وأنـت تستصغره، وهـذا قول الخليل»([15]).
وقـال المرادي ـ رحمه الله تعالى ـ: «ومن أحكامها([16]) أنها قد تتصل بها (ما) الزائدة، فيبطل عملهـا، ويليها الجملتان: الاسمية والفعلية، فتكون (ما) كافّةً لها عن العمل، ومهيِّئةً لدخولهـا على الأفعال. والجمهور على أن إعمالهـا عند اتصال (ما) غير مسموع. ثم اختلفوا في جوازه قياساً. وذهب قوم إلى منعه، وهو مذهبسيبويه، فإنه لا يجيز أن يعمل عنده من هذه الأحرف ـ أعني (إنّ) وأخواتها ـ إذا لحقتها (ما) إلا (ليت) وحدها. وذكر ابن مالك أن الإعمال قد سُمع في (إنما) وهو قليل. وذكر أن الكسائي والأحفش روياه عن العرب»([17]).
هكذا يكاد حديثهم مقصورا على تركيب كلمة (إنما)، وعملها، ولم يتعرض لدلالتها على القصر الذي هو إثبات شيء لشيء ونفيه عن غيره. ومع ذلك فإن منهم من ينازعون في دلالة (إنما) على القصر، فترددوا في كون (إنما) من الطرق الموضوعة لأداء القصر أو أنكروه. ومن أشهرهم في ذلك الشيخ أبو حيان الأندلسي ـ رحمه الله تعالى ـ، وهو قـال عند تفسيره قولـه ـ تعالى ـ ﴿ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾[البقرة: 11]:» (إِنَّما) (ما) صلة لـ (إِنَّ)، وتكفها عن العمـل، فإن وليتهـا جملـة فعليـة كانت مهيئـة، وفي ألفـاظ المتأخرين من النحويين وبعـض أهـل الأصول إنهـا للحصر، وكونُهـا مركبـةً من (ما) النافية، دخل عليها (إِنَّ) التي للإثبات فأفادت الحصر، قولٌ ركيك فاسد صادر عن غير عارف بالنحو، والذي نذهب إليه أنها لا تدل على الحصر بالوضع، كما أن الحصر لا يفهم من أخواتها التي كفت ب(ما)، فلا فرق بين: لعل زيداً قائم، ولعل ما زيد قائم، فكذلك: إن زيداً قائم، وإنما زيد قائم، وإذا فُهم حصر، فإنما يفهم من سياق الكـلام، لا أن (إنما) دلت عليه، وبهذا الذي قررناه يزول الإشكال الذي أوردوه في نحـو قولـه ـ تعالى ـ: ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ﴾[الرعد: 7]، ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ﴾ [الكهف: 110، فصلت: 6]، ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾[النازعات: 45]، وإعمال (إنما) قـد زعـم بعضهم أنـه مسموع من لسان العرب، والذي عليه أصحابنا أنه غير مسموع»([18]).
ولهذا نقل كثير من العلماء أن الإمام أبا حيان يرى أن (إنما) لا تفيد القصر، بـل مجـرد التوكيد. ومنهم ـ على سبيل المثال ـ ابن هشام والمرادي وأبو البقاء وغيرهم ـ رحمهم الله تعالى ـ ([19]).
لكن الإمام أبا حيـان ـ رحمـه الله تعالى ـ عند تفسيره قول الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّـهِ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة: 60] قال: «ولفظة (إنما) إنْ كانت وضعت للحصر، فالحصر مستفاد من لفظها، وإن كانت لم توضع للحصر، فالحصر مستفاد من الأوصاف، إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل بـه، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليـه»([20]). كـأن عبارته هنـا تشير إلى أنه لم ينف إفـادة (إنما) على القصر على وجه القطع واليقين، وإنما تردد بين أن تكون دلالتها على القصر دلالة وضعية أم تكون دلالة مفهومة من سياقات النصوص وقرائن الأحوال.
وقال ابن عطية ـ رحمـه الله ـ: «(إِنّما) لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر، فإذا دخل في قصة وساعد معناها على الانحصارصح ذلك وترتب، كقوله ـ تعالى ـ: ﴿ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ﴾ [الأنبياء: 108، فصلت: 6] وغـير ذلـك من الأمثلة، وإذا كانت القصة لا تتأتى للانحصار بقيت (إنما) للمبالغة والتأكيد فقـط، كقوله ـ عليه السلام ـ (إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ)([21])، وكقوله: إنما الشجاع عنترة»([22]).
هكذا جعل البلاغيون (إنما) من بين الطرق الاصطلاحية المعروفة لأسلوب القصر. أما النحاة فأكثرهم لم يلتفتوا إلى دلالات (إنما) مكتفين بالإشارة إلى إبطال (ما) عمل (إنّ).
* * *
([3]) ينظر: شروح التلخيص: ج2 ص186؛ المنهاج الواضح للبلاغة للأستاذ حامد عوني: ج2 ص76، مكتبة الجامعة الأزهرية.
([6]) البيت في ديوان النابغة الذبياني: ص24. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، الطبعة الثانية.
([7]) قراءة (بعوضة) بالرفع هي قراءة الضحاك، وإبراهيم بن أبي عبلة، ورؤبة بن العجاج، وقطرب. وقراءة الجمهور (بعوضـة) بالنصب. ينظـر: تفسير البحر المحيط لأبي حيّان الأندلسي المتوفى سنة 745ﻫ: ج1 ص266 ـ 267. دراسة وتحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، وشارك في تحقيقه: الدكتور زكريا عبد المجيـد النوتي والدكتور أحمـد النجولي الجمل، وقرظه: الأستاذ الدكتور عبد الحي الفرماوي. دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى 1413ﻫ ـ 1993م.
([8]) كتـاب سيبويه المتوفى سنة 180ﻫ: ج2 ص137 ـ 138، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة الثالثة 1408ﻫ ـ 1988م.
([12]) الأصـول في النحـو لابن السراج المتوفى سنـة 316ﻫ: ج1 ص232. تحقيق: الدكتور عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1417ﻫ/ 1996م.
([17]) الجنى الداني في حروف المعاني للحسن بن قاسم بن عبد الله المرادي المصري المتوفى سنة 749ﻫ: ص395. تحقيق: الدكتور فخـر الدين قبـاوه والأستاذ محمد نديم فاضل. دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى 1413ﻫ ـ 1992م.
([19]) ينظـر: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام(708 ـ 761ﻫـ): ج1 ص255 وما بعدها، تحقيق وشرح: الدكتور عبد اللطيف محمد الخطيب، التراث العربي ـ الكويت، الطبعـة الأولى 1421ﻫ ـ 2000م؛ الجنى الداني في حروف المعاني: ص395؛ الكليات لأبي البقاء المتوفى سنة 1094ﻫ: ص189 ـ 190. تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري. مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1419ﻫ ـ 1998م.